البناء الاجتماعي لظاهرة العنصرية

كتاب فرنسي يرجع جذور المجتمع الدولي للقارة السمراء

مظاهرة معادية للهجرة في ألمانيا
مظاهرة معادية للهجرة في ألمانيا
TT

البناء الاجتماعي لظاهرة العنصرية

مظاهرة معادية للهجرة في ألمانيا
مظاهرة معادية للهجرة في ألمانيا

تشهد القارة الأوروبية صعوداً ملموساً لتيار اليمين المتطرف، ويترافق مع هذا الصعود ظهور خطاب مناهض للمهاجرين، وجدل كبير حول الهوية القومية، وانتقاد واضح لما يسمى «تعدد الثقافات»، مما يشير إلى أن مسألة العنصرية قد بدأت تفرض نفسها وبقوة على مفردات الحياة اليومية في القارة السمراء، خصوصاً أن بعض وسائل الإعلام تتبنى هي الأخرى التوجه ذاته. وفي ظل هذه الظروف الملتبسة التي تصيب الرأي العام بنوع من التشتت، شهدت المكتبات الفرنسية مؤخراً صدور كتاب «هل جميعنا من أفريقيا حقاً؟»، في 144 صفحة من القطع المتوسط، عن دار النشر الفرنسية «فلامريون»، للمؤلفتين إيفيلين ايير أستاذة الأنثروبولوجي في المتحف الوطني للتاريخ الطبيعي، وكارول رينو بالجو المدرسة بجامعة بورجون الفرنسية الباحثة بمركز تاريخ القرن التاسع عشر بجامعتي «باريس 1» و«باريس 4». وللمؤلفتين ثقلهما وخبرتهما في علم الأجناس، الأنثروبولوجيا،، ولهما إسهامات علمية واسعة النطاق في هذا الفرع من العلم، وهما تسعيان عبر صفحات الكتاب الجديد لكشف النقاب عن البناء الاجتماعي الذي يغذي العنصرية، كما يقدمان كذلك إجابات واضحة جلية، بسيطة في الوقت نفسه، لكل التساؤلات المرتبطة بظهور وتنامي الخطاب المغذي للعنصرية، استناداً في ذلك إلى العلوم البيولوجية والاجتماعية، الأمر الذي يُكسب هذا الكتاب أهمية كبيرة، خصوصاً أنه يمثل نتاج وأساس عمل بحثي جاد قامت به الباحثتان منذ عشرات السنوات، مع الاعتماد على أعمال باحثين آخرين متخصصين في العلوم البيولوجية والاجتماعية والفلسفية والتاريخية.
وانطلاقاً من ذلك، يلقي الكتاب الضوء على حالة التناقض التي تنتاب المجتمع الفرنسي، موضحاً أن الخطاب السياسي الفرنسي، خصوصاً في سبعينات وثمانينات القرن الماضي، كان خطاباً واضحاً، لا لبس فيه ولا غموض، فيما يتعلق بالعرقية أو العنصرية، كما سعت الدولة الفرنسية جاهدة نحو مكافحة التمييز العنصري، بوضع تشريع قانوني في هذا الشأن، إلا أنه رغم ذلك، فإن المجتمع الفرنسي يعاني من تنامي ظاهرة العنصرية. فما السبب في ذلك؟
يهدف هذا الكتاب، أولاً، إلى تقديم مفهوم واضح شامل لظاهرة «العنصرية»، مع التأكيد على البناء الاجتماعي، فعنصرية الأمس ليست هي عنصرية اليوم، إذ إن هذه الظاهرة تتشكل وتضعف وتتجدد إذا وجدت حاضناً اجتماعياً لها، وذلك يجعلنا بحاجة ماسة لتفحص ميراث الماضي، مع تقديم التحليلات والبراهين الجديدة المتعلقة بالحاضر.

- كلنا أفارقة
تطرح الكاتبتان قضية مهمة للغاية، تكمن في التأكيد على الجذور الأفريقية للمجتمع الدولي في شكله الراهن، فتقولان إنه «سبق أن غامر الأفارقة خارج إطار القارة الأفريقية منذ نحو 100 ألف عام، ثم احتلوا الكوكب، إذ توجهوا إلى آسيا وأستراليا منذ نحو 50 ألف عام، وإلى الصين وأوروبا منذ نحو 40 ألف عام، أي أنهم احتلوا العالم في التواريخ سالفة الذكر، وهو الاحتلال الذي نتج عنه المجتمع الدولي في شكله الراهن، أي أننا أمام حالة من الاستعمار البطيء تمت على مدار آلاف السنوات».
وتوضح الكاتبتان أن البيانات الجينية للسكان الحاليين سمحت بدورها بالتأكيد على أن هذا الاحتلال قد تم في شكل مجموعات للإقامة بعيداً عن المكان الأصلي، ثم ازدادت وتنامت هذه الجماعات وانتقلت إلى مواقع، لتنتقل هي الأخرى إلى أماكن جديدة، كما ترك هذا النمط من الاستعمار بصمات جينية واضحة، رغم تراجعها واختلافها النسبي عن الجينات الأصلية (أي الجينات الأفريقية)، بسبب المناخ الجديد الذي عاشوه في أماكن هجرتهم الجديدة، إلا أن هذا لم يمنع ظهور ما يسمى بـ«الآثار الأساسية للتتابع الجيني»، أي أن عامل البيئة لم ينجح بشكل قاطع في تغيير الجينات الأصلية للفرد.
ويذكر الكتاب أنه فيما يتعلق بالولايات المتحدة الأميركية، فقد انتابتها هي الأخرى موجات الاحتلال الأفريقي مؤخراً. فوفقاً للبيانات الراهنة، فإن القارة الأميركية قد تعرضت هي الأخرى لموجة احتلال أفريقية من جنوب سيبيريا عن طريق مضيق «بيرنج»، منذ 15 ألف عام، هذا بالإضافة إلى أن أصول الأميركيين أنفسهم تعود في الأساس إلى القارة الأفريقية.

- حقائق وإشكاليات
ويشير الكتاب إلى أنه في ظل التطور العلمي المذهل، خصوصاً في علم الوراثة، حيث أضحى بإمكاننا منذ عام 2001 إجراء تحليل «DNA» كامل للفرد على أساس 3 مليارات قاعدة، ولكن إذ قمنا بإجراء هذا التحليل على فردين من غير الأقارب، فإن النتائج ستظهر متقاربة بنسبة 99.9 في المائة، لأسباب أخرى «تتعلق بالبيئة والجذور الأصلية، الأمر الذي يؤكد من شأن تيارات الهجرة سالفة الذكر من جانب، والأصول الأفريقية للعالم أجمع من جانب آخر».
ويلقي الكتاب باللوم على قيادات القارة العجوز الحاليين، على خلفية تعاملهم مع قضية الهجرة من القارة الأفريقية بتبني خطاب مناهض لهذه الهجرة، رغم الإثباتات العلمية والقرائن والدلائل القوية التي لا تقبل الجدل، والتي تجزم بأن أصول معظم الأوروبيين تعود إلى القارة الأفريقية، أي أنهم مهاجرون في الأصل. ولذلك يتساءل الكتاب: كيف يمكن لمهاجر الأمس أن يتبنى خطاباً مناهضاً لأخيه مهاجر اليوم؟ الأمر الذي يمثل قمة التناقض في المجتمع الأوروبي، ويدفع ببعض المجتمعات الأوروبية، مثل فرنسا على سبيل الخصوص، التي تشهد ارتفاعاً كبيراً في معدلات العنصرية، كما ذكرنا، لأن تتجمل في الشكل فقط دون المضمون، إذ خصصت القارة العجوز أسبوعا سمته «الأسبوع الأوروبي لمناهضة العنصرية»، وحضر الاحتفال به أكثر من 100 ألف فرد، مما يعكس توجهاً ما تسعى أوروبا نحوه من أجل تجميل صورتها الذهنية فقط، رغم التحذيرات التي ساقتها المفوضية الأوروبية لفرنسا في 2016 بشأن تنامي ظاهرة العنصرية هناك.
وأخيراً، تؤكد الكاتبتان أننا بحاجة ماسة لتعريف ميراث الماضي، مع تحليل رهانات الحاضر، من أجل الوصول إلى سبل محددة واضحة تضع حداً لظاهرة العنصرية التي بدأت تستشري في القارة الأوروبية بشكل واضح، في ظل زيادة نفوذ الأحزاب اليمينية المتشددة التي لا تكتفي باتخاذ مسافة من بعض القضايا الحساسة، مثل العنصرية، بل تذهب لما هو أبعد من ذلك، إذ تتبنى خطاباً مناهضاً للمهاجرين.


مقالات ذات صلة

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)
ثقافة وفنون العالم الجغرافي والمحقق اللغوي الكويتي د. عبد الله الغنيم شخصية معرض الكتاب لهذا العام

معرض الكويت الدولي للكتاب ينطلق غداً... وعبد الله الغنيم «شخصية العام»

ينطلق غداً (الأربعاء) معرض الكويت الدولي للكتاب في دورته الـ47، بمشاركة 544 دار نشر، من 31 دولة، منها 19 دولة عربية و12 أجنبية.

«الشرق الأوسط» (الكويت)
كتب بوريس جونسون والرئيس الأميركي المنتخب ترامب

«مطلق العنان»... مذّكرات بوريس جونسون في السلطة

تفترض بالطبع عندما تقدم على شراء نسخة من مذكرات رئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون الصادرة حديثاً فيما يقرب من 800 صفحة

ندى حطيط

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
TT

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية. الموضوعات التأصيلية الأكثر إشغالاً للتفكير البشري منذ العصر الإغريقي ثلاثة: أصل الكون، أصل الحياة، أصل الوعي.

الوعي بين هذه الموضوعات الثلاثة ظلّ اللغز الأكثر إثارة ورهبة واستجلاباً للأسطرة والمقاربات غير العلمية، وربما تكون عبارة «الشبح في الآلة The Ghost in the Machine» التي شاعت منذ أيام الفلسفة الديكارتية تمثيلاً للوعي تتفق مع ثنائية العقل-الجسد The Mind-Body Duality. بمقتضى هذه الثنائية الديكارتية يكون الوعي كينونة غير مادية (الشبح) وقد استوطن في كينونة مادية (الآلة أو الجسد البشري).

فضلاً عن الأهمية الفلسفية لدراسة الوعي فقد صارت المقاربات العلمية في هذه الدراسة تتعاظم يوماً بعد آخر بسبب ارتباطها العضوي مع موضوعات عظيمة الأهمية في مقدّمتها مباحث الذكاء الاصطناعي بكلّ تفريعاته (الذكاء الاصطناعي العام، تعلّم الآلة، الشبكات العصبية...)، بعبارة أخرى: صار الوعي موضوعاً يقع في صميم الجهد البحثي الذي تتأسّس عليه القيمة الجيوستراتيجية للدولة المعاصرة. أمرٌ آخر تتوجّب الإشارة إليه: الوعي بطبيعته جهد بحثي عابر للتخصصات؛ لذا فهو يتناغم مع طبيعة المباحث العلمية المميزة لعصرنا.

لكن، بعيداً عن الأسباب البحثية والاستراتيجية، لماذا يتوجّبُ على كلٍّ منّا أن يهتمّ بأمر الوعي على مستوى شخصي بمقدار قد يزيد أو ينقص بين الأفراد؟ أوّلاً يتوجّبُ علينا الانخراط في هذا المسعى لأنّ الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم، أو هو بوّابته إلى العالم، وأعني بهذه البوّابة: التجارب الحسية Sensory Experiences، ومن الطبيعي أنّ كلاً منّا يتوق لأن يفهم -بكيفية علمية منسّقة ومنضبطة وليس بتفكّرات شخصية متناثرة- لماذا يعدّ الوعي البوّابة الأساسية لتجاربنا في العالم. يحبّ كلّ منّا هذا المسعى ولا يرغب في جعله اختصاصاً حصرياً للفلاسفة وعلماء الأعصاب ومطوّري الذكاء الاصطناعي بكلّ متفرّعاته. ثانياً: دراسة الوعي في غاية الأهمية أيضاً في جوانب الغاية Purpose والمعنى Meaning في حياتنا البشرية. ليس في قوانين الفيزياء ما يشيرُ إلى المعنى، وليس مِنْ معادلة لحساب المعنى في تلك المعادلات. لا أظنّ -وسيتشارك معي كثيرون كما أحسب- أنّ الاكتفاء بالتطلّع في كوننا يمنحنا معنى لحياتنا هو ما يحقّقُ فعلاً هذا الأمر؛ لأننا نحن من يخلعُ المعنى على كوننا. يحصل هذا الأمر لأننا نمتلك الوعي الذي يتيحُ لنا اختبار الأشياء والتعامل معها. لدينا هنالك بعيداً في تخوم الكون البعيدة مجرّات كثيرة العدد وجميلة بما يفوق التصوّر. لماذا هي جميلة؟ لأنّنا واعون بها. هي صارت جميلة لأننا نمتلك وعياً يخبرنا أنها جميلة. أعيد القول ثانية: الوعي هو ما يخلعُ معنى وغاية على الحياة.

الدراسات الخاصة بالوعي

يُنظرُ في الأوساط الأكاديمية العالمية إلى سوزان بلاكمور Susan Blackmore على أنّها مؤلفة الكتاب المرجعي في دراسة الوعي، وأقصدُ بهذا كتابها الشائع بين دارسي علم النفس والعلوم العصبية والإدراكية وفلسفة العقل والذكاء الاصطناعي، وأشيرُ بهذا إلى كتابها الموسوم «الوعي: مقدّمة Consciousness: An Introduction» الذي صدرت طبعته الرابعة عن دار نشر «راوتليدج Routledge» قبل بضعة شهور. سوزان بلاكمور عالمة نفس وكاتبة حرة ومحاضرة جامعية بريطانية، ألّفت الكثير من المقالات العلمية وأسهمت في تأليف عددٍ من الكتب. تكتب في مجلات وصحف كثيرة، وكثيراً ما تشارك في برامج إذاعية وتلفازية في المملكة المتحدة أو خارجها. قدّمت الكثير من البرامج التلفازية التي نالت شهرة واسعة بما في ذلك برنامجٌ وثائقيٌ حول ذكاء القردة. من بين كتبها الأخرى سيرة ذاتية بعنوان: «بحثاً عن النور» 1996، و«حوارات عن الوعي» 2005.

ما يميّزُ كتاب بلاكمور هو جمعها بين الخبرة الأكاديمية وتقنيات التعامل مع النطاق العام، فهي معروفة باهتمامها بموضوعات التأمّل والامتلاء الروحي والذهني والباراسايكولوجيا، وقد أفردت كتاباً كاملاً للحديث عن تجربة شخصية خاصة بها شهدت فيها ما تُدعى تجربة مغادرة الجسد Out of Body Experience، وقد حكت عن هذه التجربة في سيرتها الذاتية.

الخصيصة الثانية في كتابها هو مشاركة ابنتها لها في تأليف الكتاب، وتلك علاقة نادرة للغاية بين المؤلفين. لن نتغافل بالتأكيد عن النكهة الفلسفية الأنيقة التي طبعت لغة الكتاب (مثل تناول الإرادة الحرّة وعلاقتها بالوعي)، وهذا أمرٌ متوقّعٌ فيمن يكتب عن موضوع الوعي.

ثمّة موضوعان علينا الانتباه إليهما عند دراسة الوعي: هل سنبلغُ يوماً مرحلة الفهم العلمي الكامل للوعي؟ تؤكّد بلاكمور: لا أظنّ ذلك. الفرق بين حيوان حيّ وآخر ميّت ليس محض فرق نوعي يكمنُ في أنّ الحيوان الحيّ (الإنسان على سبيل المثال) يمتلك نوعاً من مصدر للحياة السرية فيه (بكلمة أخرى: الوعي). الحيوانات الحيّة ميكانيزمات فعّالة دينامية دائمة التغيّر؛ في حين أنّ انكساراً أصاب ميكانيزمات الحركة والتغيّر في الحيوانات الميتة.

تكمن صعوبة وتعقيد دراسة الوعي في حتمية اقتران دراسة الشيء مع موضوع الدراسة؛ بمعنى آخر: استخدام الوعي في دراسة الوعي ذاته! يحضرني هنا مثالاً عبارةٌ قالها جون ناش في الفيلم السينمائي الرائع الذي يحكي سيرته الذاتية «عقل جميل». أخبر ناش طبيبه أنّه سيستخدم عقله في علاج اضطرابه الذهاني، فأجابه طبيبه: ولكن كيف تعالجُ نفسك بما هو المتسبّبُ في مرضك؟ لن تستطيع هذا. في السياق ذاته تصف بلاكمور صعوبة دراسة الوعي وتعريفه فتقول:

«يبدو أنه يَلزمنا إما أن نستخدم الوعي لدراسته هو نفسه، وهي فكرة غريبة نوعاً ما، وإما أن نحرِّرَ أنفسَنا من الوعي الذي نودُّ دراستَه. ولا عجب أن الفلاسفة والعلماء قد بذلوا جهوداً مضنيةً على مدى قرنين من الزمان من أجل الوصول إلى مفهوم الوعي، ولا عجب أيضاً أن العلماء رفضوا الفكرةَ برمَّتها لفترات طويلة؛ بل رفضوا أيضاً دراستَها. الانعطافة الإيجابية أنّ «الدراسات الخاصة بالوعي» أخذَتْ في الازدهار بدءاً من القرن الحادي والعشرين. وصل علم النفس وعلم الأحياء وعلم الأعصاب إلى نقطةٍ يمكن عندها مواجَهةُ بعضِ الأسئلة المحيِّرة على غرار: ما الذي يفعله الوعيُ؟ وهل كان لنا أن نتطوَّر من دونه؟ وهل يمكن أن يكون الوعي وَهْماً؟ وما الوعي على أي حال؟».

تؤكّدُ بلاكمور منذ البدء أنّ ازدهار الجهد البحثي للوعي في القرن الحادي والعشرين لا يعني أنّ الغموض الذي يكتنفه قد اختفى تماماً؛ فالواقع أنه لا يزال متغلغِلاً في هذا الأمر كما كان دائماً. الفرق الآن أننا نعرف عن الدماغ ما يكفينا للاستعداد لمواجَهةِ المشكلة البحثية التالية على نحوٍ مباشِرٍ: كيف يمكن لإطلاق النبضات الكهربائية من ملايين الخلايا العصبية الدماغية أن يُنتج تجربةً واعية ذاتية شخصية؟ إذا أردنا إحرازَ أيِّ تقدُّم فيما يتعلَّق بفهم مسألة الوعي فعلينا التعامُل مع هذا الأمر بجدية تامة. هناك كثير من الأشخاص الذين يدَّعُون أنهم قد وجدوا حلًّاً للغز الوعي؛ فهم يقترحون نظرياتٍ موحِّدةً عظمى، ونظرياتٍ ميكانيكيةً كموميَّة، ونظرياتٍ روحانيةً حول «قوة الوعي»، وغيرها الكثير؛ لكنّ أغلبهم يتجاهلون الفجوةَ العميقة بين العالمين المادي والعقلي.

بعد مقدّمة وتمهيد ابتدائي لموضوع الكتاب (الوعي) اختارت المؤلفّة جعل كتابها موزّعاً في خمسة أقسام، كلّ قسم منها يضمُّ ثلاثة فصول: تناول القسم الأوّل معضلة الوعي تعريفاً ومناظرةً مع مفاهيم أخرى، ثمّ تناولت الوهم الكبير The Grand Illusion في التعامل مع ظاهرة الوعي. في القسم الثاني تناولت موضوع الدماغ بوصفه الحاضنة الطبيعية (مسرح العمليات بلغة المؤلفة) للوعي، وقد أفاضت في شرح العلاقة الوثقى بين دراسة العلوم العصبية وظاهرة الوعي. خصّصت المؤلفة القسم الثالث لتناول موضوع العقل والفعل، وتناولت في القسم الرابع موضوع التطوّر ومنعكساته المهمّة على ظاهرة الوعي، ثمّ تناولت في القسم الخامس الحدود التخمية Borderlands بين الوعي وظواهر أخرى على شاكلة: أشكال الوعي المعدّلة، الواقع والخيال، والأحلام وما بعدها. أما القسم السادس والأخير فتناولت فيه المؤلّفة موضوع «الذات والآخر»؛ فكانت النكهة الفلسفية بيّنة فيه. ألحقت المؤلفة كتابها بسلسلة مصادر مرجعية ضخمة ومتعدّدة امتدّت على عشرات الصفحات من الكتاب.

كتاب بلاكمور هذا قراءة شيّقة رغم رصانته الأكاديمية ومشقّة موضوعه؛ لكنّ من يرغب في قراءة أقلّ تطلباً للجهد والوقت والتفاصيل الصغيرة فيمكنه الرجوع إلى كتاب المؤلفة ذاتها والصادر عن جامعة أوكسفورد بعنوان «الوعي: مقدّمة قصيرة جداً»، وتوجد له ترجمة عربية متاحة بالمجّان على شبكة التواصل العالمية (الإنترنت).

Consciousness: An Introduction

الوعي: مقدمة

المؤلّفتان: Susan Blackmore & Emily Troscianko

سوزان بلاكمور وأميلي تروسيانكو

سنة النشر: 2024

دار النشر: Routledge ) Taylor & Francis Group )

عدد الصفحات: 766 الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم... أو هو بوّابته إلى العالم