من واقع خبرته الطويلة في عالم الدبلوماسية، يسعى الدكتور السيد أمين شلبي للبحث عن إجابات لعدد من الأسئلة المهمة التي شغلته طوال عمله سفيراً بالخارجية المصرية، وزياراته الكثيرة للصين ضمن «الحوار الاستراتيجي المصري - الصيني» منذ أحد عشر عاماً حين كان الدكتور بطرس غالي وزير دولة للشؤون الخارجية. وركز شلبي من خلال محاور كتابه «الصين والعالم»، الصادر في جزأين عن دار «عالم الكتاب» بالقاهرة، على رؤية الفكر الصيني للولايات المتحدة، وحالة ومستقبل العلاقات معها، وكيفية إدارة قوتها الجديدة، فضلاً عن رؤية الصين للجدل الدائر حول فكرة الاضمحلال الأميركي، وذلك عبر كتابات باحثين وخبراء صينيين استخلصوا في النهاية قناعة مفادها، أنه «مهما قيل عن الولايات المتحدة من أفكار حول ما يمكن أن تتعرض له من ضعف مستقبلي، فإنها الآن دولة عظمى بما تمتلكه من اقتصاد وتكنولوجيا وقوة عسكرية».
يركز الكتاب على عدد من المحاور، أهمها الدبلوماسية الصينية الجديدة، التي انتهجتها الصين، منذ عام 2005، داعية إلى علاقات تعايش سلمي ومساواة قائمة على الحوار والتنمية المشتركة والرخاء للحضارات المختلفة من أجل «خلق عالم يحترم حق كل بلد في اختيار نظامها الاجتماعي الملائم للتنمية، وتشجيع التبادل بعيداً عن سياسات الإقصاء، إلى جانب التعلم من الآخر ومساعدة الأمم على التقدم على أساس ظروفها الخاصة، والعمل على تصفية الشك المتبادل وسوء الفهم، حتى يصبح العالم أكثر تناغماً، قادراً على المحافظة على تنوع ثقافاته وتنمية ديمقراطياته في علاقاته الدولية».
ولفت شلبي إلى أن هذه المفاهيم أطلقت نقاشاً بين الباحثين والأكاديميين الصينيين؛ سعياً لتأصيل وتفسير مفهوم العالم المتناسق، والكشف عن مبادئه، وكيفية تطبيقها في السياسة الخارجية الصينية، بخياراتها الاستراتيجية، التي تحددت في يعدد من المبادئ أوجبت على الصين أن تكون أكثر حساسية للتغيرات في النظام العالمي، وأن تستجيب لتحولاته الجارية، موضحاً أنه لكون الصين لا تستطيع تفادي مسؤولياتها كقوة عظمى، توجب عليها أن تعولِّم اقتصادها، وتحدّث قواها العسكرية، والإسراع في إعادة هيكلة نظامها المالي الداخلي وإصلاحه، ولعب دور إيجابي في إعادة هيكلة النظام العالمي مع مجموعة العشرين، مع التشديد على ضرورة أن تجاهد الصين من أجل دعم علاقاتها بالدول النامية.
ولم يتوقف شلبي عند هذه الحدود في رؤيته للكيفية التي ترى بها الصين العالم، فتناول رؤيتها للبيئة الاستراتيجية العالمية، وبخاصة مستقبل العلاقات مع أميركا، التي يراها المفكرون الصينيون مسألة معقدة، تستدعي أن يكون قادة البلدين قادرين على التحلي بالتصميم والشجاعة لكسر النمط القديم حول الصراع الحتمي بين القوى الكبرى، والعمل على التعاون من أجل تحقيق أرباح متبادلة، وتحسين علاقاتهما دائماً، وبناء شكل جديد من العلاقات بينهما، مبنية على تصورات مدروسة للنوايا الاستراتيجية التي تكمن لدى كل بلد.
ثم تناول المؤلف مبادرة «طريق الحرير»، وتأثيراته على العالم، لافتاً إلى أن هناك نوعاً من الغموض في الأهداف الصينية، واستعداداتها للاضطلاع بمسؤولية قيادية في العالم، رغم الأجواء التي تدفع نظامها الأحادي في اتجاه التعدد القطبي.
وأفرد شلبي بحثاً خاصاً حول علاقة الصين بالعالم العربي، ودبلوماسيتها في الشرق الأوسط، محللاً ركائز سياساتها تجاهه، وذكر أنها تمحورت في دعم حركات التحرر العربية، ودعم نضالها، منذ عام 1956، وحتى 1990، ثم تأسيس منتدى التعاون الصيني - العربي، في 2004، الذي صار إطاراً للتعاون فيما بينهما، وانبثق عنه عدد من الآليات. وهو يرى أن هناك دليل عمل واضحاً في تطور العلاقات الصينية - العربية، يستند إلى التعاون الشامل والتنمية المشتركة، ظهر جلياً في خطاب الرئيس شي جينبينغ الذي ألقاه في منتدى التعاون الصيني - العربي عام 2014.
إن هناك، كما يقول المؤلف، مبادئ إرشادية تلتزم بها الحكومات في الصين لتطوير ورسم خطط مستقبل العلاقات مع الدول العربية، تعتمد أولاً على تعميق التعاون الاستراتيجي الشامل والتنمية المشتركة، في إطار من الالتزام باحترام السيادة ووحدة الأراضي، وعدم الاعتداء والامتناع عن التدخل في الشؤون الداخلية، والمساواة والمنفعة المتبادلة والتعايش السلمي، ودعم إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، والعمل على إخلاء المنطقة من السلاح النووي وغيره من أسلحة الدمار الشامل، كما تسعى الصين، إلى مشاركة الدول العربية في مساعيها لتكريس التنوع الحضاري، وتعزيز التواصل، والاستفادة المتبادلة بين مختلف الحضارات، والعمل على توثيق التواصل الإنساني والثقافي بين الجانبين، في مجالات العلوم والتربية والثقافة والصحة والسينما والتلفزيون، فضلاً عن مكافحة الإرهاب ودعم مناخ التسامح الديني بين الشعوب الشرق أوسطية.
- صورة الصين مستقبلاً
وفي الجزء الثاني من الكتاب الذي يأخذ عنوان «رؤية العالم للصين»، تحدّث الكاتب عن صورة الصين في نظر خبراء استراتيجيين مثل هنري كيسنجر وجاك لانج، وغولدمان ساكس، ومارتن جاكز. واهتم شلبي في هذا القسم بتوضيح تلك الصورة وبخاصة في مرحلة صعودها الأولى، وأشار إلى أن هناك نظرة إيجابية تجاه ما يحدث هناك في الجزء الشمالي الشرقي من القارة الآسيوية، كما أن هناك من ينظرون له باعتباره خطوة على طريق الهيمنة في صورتها الإمبريالية، وهو ما يبدو واضحاً في كتابات تمثل التيار الرئيسي الغربي التي ترى أن صورة الصين القديمة سوف تنتهي نتيجة لعملية التحديث التي تتم فيها، ومنها من يرى أن العالم سوف يتغير بصعودها، على اعتبار أن تحديها سوف يكون اقتصادياً بالدرجة الأولى، وأنها سوف تصبح أمة غربية طبق الأصل، وحينها سوف تذعن الصين للوضع الراهن وتصبح عضواً منتظماً في المجتمع الدولي.