وأخيراً... «مائة عام من العزلة» إلى الشاشة

منذ نيف وخمسين عاماً والشركات العالمية الكبرى للإنتاج السينمائي تحاول الحصول على حقوق نقل رائعة غارسيا ماركيز «مائة عام من العزلة» إلى الشاشة، وتفشل في إقناع الروائي الكولومبي أولاً، من ثم ورثته لاحقاً، على الرغم من شغف «غابو» المعروف بالسينما، وإشرافه على تأسيس المعهد الكوبي المرموق للفنون السينمائية، وكون ابنه رودريغو منتجاً ومخرجاً شارك في نقل عدد من روايات والده إلى السينما.
ولكن هل تنجح منصة «نتفليكس» حيث فشلت كل دور الإنتاج في السابق، وتوقع عقداً مع ورثة ماركيز لتصوير مسلسل سينمائي استناداً إلى هذه الرواية التي تُعتبر من أبرز الأعمال الأدبية في القرن العشرين، والبوابة التي عبر منها ماركيز، ومعه كوكبة من أدباء أميركا اللاتينية إلى الشهرة العالمية، من ثم إلى جائزة نوبل في عام 1982. ويلحظ العقد، الذي لم يُكشَف عن قيمته المالية التي يقدر الخبراء بأن تكون رقماً قياسياً، أن يتولى ولداه رودريغو وغونزالو الإنتاج التنفيذي للسلسلة، على أن تكون باللغة الإسبانية، ويقوم بأدوار البطولة فيها ويشرف عليها فنيون من أميركا اللاتينية، ويجري تصويرها في كولومبيا.
وتجدر الإشارة إلى أن ولع ماركيز بالسينما هو الذي دفعه إلى تأسيس المعهد الدولي للسينما والتلفزيون في كوبا، بدعم من صديقه الزعيم الكوبي الراحل فيديل كاسترو. ويُعتبر هذا المعهد الذي تأسس في عام 1986 لتدريب المواهب السينمائية والفنية الشابة في أميركا اللاتينية وأفريقيا وآسيا، من أهم المعاهد السينمائية في العالم، ورائداً في أسلوب تعليمي قوامه التدرّب على يد مخرجين وفنيين سينمائيين ما زالوا ينشطون في ميدان عملهم، وليس بواسطة أساتذة محترفين، كما في المعاهد الأخرى.
وقد تخرج في هذا المعهد حتى الآن آلاف الطلاب الذين ذاع صيتهم في عالم السينما، وجعلوا منه مرجعاً دولياً من الطراز الأول. وقد ظل ماركيز يحاضر في هذا المعهد حتى أقعده المرض، وكان يردد دائماً أن «السينما، بعد الكتابة، هي شغفي».
نُقِلت عدة روايات لماركيز إلى السينما، عندما كان لا يزال على قيد الحياة: «ليس للكولونيل مَن يكاتبه» التي تدور أحداثها في القرية ذاتها التي تدور فيها أحداث «مائة عام من العزلة» عام 1999، و«وقائع موت معلن» عام 1987، و«الحب في زمن الكوليرا» عام 2008 وغيرها، لكنها لم تعرف نجاحاً ولم تُقنِع أحداً بأن أسلوب الحكواتي الساحر يصلح للسينما.
وكان غارسيا ماركيز قد بدأ نشاطه المهني ناقداً سينمائياً في صحيفة «المُشاهد» الصادرة في بوغوتا، لكنه كان يتحفظ دائماً على نقل «مائة عام من العزلة» إلى الشاشة، ويقول: «لا بد أن تكون إنتاجاً مكلفاً جداً يجمع نجوماً عالميين كباراً، مثل روبرت دي نيرو في دور الكولونيل أورليانو بوينديا، وصوفيا لورين في دور أورسولا». وكان يعتبر أنه إذا كان القُرّاء يتخيلون شخصيات الرواية بملء حريتهم، فإن نقلها إلى السينما سوف «يدمر هذا الإبداع».
يقول غارسيا ماركيز في مذكراته إنه عندما كان عائداً، مع زوجته وولديه، بعد عطلة نهاية أسبوع من آكابولكو إلى مكسيكو، في يوم ثلاثاء من عام 1965، شعر بما يشبه «الكارثة في النفس»، وتوجه مباشرة إلى مكتبه وجلس وراء الطاولة أمام آلة الكتابة وراح يواظب على وضع روايته حتى مطالع عام 1968. ثمانية عشر شهراً قال إنه أمضاها يستيقظ باكراً كل يوم ويبدأ بالكتابة من التاسعة صباحاً حتى الثالثة بعد الظهر إلى أن انتهى من «مائة عام من العزلة».
كُتِب الكثير عن الأجواء المكسيكية التي تولّدت فيها أعماله الكبرى، وعن هوسه الإبداعي، والصعاب المالية التي كان مر بها، والدعم الذي لم ينقصه يوماً من أصدقائه. وأذكر، في أول حديث أجريتُه معه صيف عام 1981، في منتجع كنكون المكسيكي غداة صدور روايته «وقائع موت معلن»، كيف كان يتذكر فترة الانخطاف التي أثمرت رائعته تلك، والتي «لم تتكرر إلى اليوم... كذلك الحب الأول الذي لا يدانيه أي شعور آخر». لكن لا يُعرف سوى القليل عن مخاض تلك التحفة الأدبية وعن المسرى الهندسي الدقيق الذي بنى عليه ماركيز عالم «ماكوندو». ولا يُعرف الكثير، لأن «غابو» أراد له أن يبقى محاطاً بالأسرار عندما قرر، بعد تسلم النسخة الأولى من الكتاب المطبوع، تمزيق المخطوط الأصلي «كي لا يكتشف أحد الحِيَلَ التي استخدمتها في أعمال الترميم السرية للنص».