الملك سلمان... تأثير الموروث الأُسري في مواجهة التحدّيات

عدد محدود من البحوث والدراسات تطرّق إلى نشأته المبكّرة وإلى صلته بوالديه

TT

الملك سلمان... تأثير الموروث الأُسري في مواجهة التحدّيات

أستهلّ الحديث باستذكار ما توافق عليه المعاصرون، عن القدرات القياديّة لشخصيّة مؤسّس السعودية المعاصرة (الملك عبد العزيز 1876 - 1953) والتأمّل في الوقت نفسه في العوامل الفكريّة والفسيولوجيّة الموروثة عند خلفه السادس (الملك سلمان المولود أواخر عام 1935) فهما أبرز شخصيّتَي هذه المشاركة.
لقد ظلّ المجتمع السعودي يستعيد على مدى قرن ونيّف، قصص الملك المؤسّس وقسماته الذهنيّة، ويستذكر العابرون في أرجاء شبه الجزيرة العربيّة أسطورة إنجازاته في توحيد معظم أركانها، وكيف ساد محيطه بالمعروف، وأسَر شعبه بالمحبّة، ووطّد علاقاته بالدّهاء، في وقت لم تكن الشهادات مقياس النبوغ ومبعث التفوّق، لكنه قرأ تاريخ أسلافه منذ صغره، وأدركت بصيرته توازنات المنطقة، والتزم في منهجه فوق هذا وذاك بتحكيم الشرع، وبأخلاق الإسلام في سلوكه.
ولد في الرياض، وأجبرته الظروف وهو في الخامسة عشرة للرحيل عنها مع والده وأسرته بدءاً من عام 1891 ثم عاد مع صفوة من رجاله بعد أحد عشر عاماً من الغربة في الكويت، ليسعى وهو في السادسة والعشرين، من أجل تأسيس الدولة من جديد، على مدى حقبة زمنيّة استغرقت ثلاثة وخمسين عاماً متّصلة، قضى نصفها في مداواة رواسب الضغائن ومعالجة الفتن، وفي الفتوحات والمناورات ومقارعة الخصوم بين انتصار وانكسار، وأمضى النصف الثاني في البناء والتحديث، وإقامة دولة المؤسّسات والنظام.
ولمّا وحّد شتات المملكة الجديدة وأرسى أُسس بنائها، وبلغ من العمر ثمانية وسبعين عاماً ميلاديا، استودع اللهَ الكيانَ الكبير أمانة في أيدي أبنائه وحفَدته من بعده، وقد اكتسبوا قدرات قياديّة على مواجهة التحدّيات، ومعرفة عميقة بتاريخ الدولة، وبالأحداث التي مرّت عليها منذ تأسيسها قبل ثلاثة قرون، وإلماماً شاملاً بالمراحل الثلاث التي اجتازتها، وعلماً بأسباب قوّة الدول وضعفها، وأصبحوا أكثر خبرة بجغرافيا الجزيرة العربيّة، وإحاطة بحاضرتها وباديتها وبموروثها الحضاري والثقافي، بعد أن تلقّنوا من مدرسة والدهم دروساً عمليّة في التعامل مع نوازل السياسة وصروفها.
لقد تناول عدد من الباحثين العرب والغربيين الذين عرفوا الملك المؤسّس عن قرب وكتبوا في سيرته - ومنهم عبد الله فيلبي وأمين الريحاني وخيرالدين الزركلي ومحمد أسد وفؤاد حمزة وحافظ وهبة - تناولوا ملامح شخصيّته، وسجّلوا نماذج من مشاركة عشيرته وأسرته ومستشاريه في الأحداث وإدارة دفّة الحكم، واطلاعهم على شؤون الدولة، وعلى اتّصالاته الخارجيّة، فجاءت كتب المؤرّخين الغرباء، على قدر أكبر من التحليل والتجديد، لكن معظمها لم يسلم من الأهواء والخيال الإنشائي.
وظل الأبناء على الدوام يستعيدون في ذكرياتهم تعامل والدهم وعلاقتهم به، توجيهاً وممارسة، حيث لم تكن تشغله أمور الدولة عن الاهتمام بتنشئتهم، فنشأوا متأثّرين بطباعه وأسلوب معالجته للأمور.
وحفظت عشرات الكتب جوانب من تاريخه، وأفاضت في وصف سمات شخصيّته، وركّزت على مواهبه الفطريّة والمكتسبة، وعلى جهوده في حفظ الأمن والاستقرار في البلاد، وكان من أبرز الكتابات المحلّيّة التي حفظت تلك الموضوعات، مؤلّفات إبراهيم بن عيسى وخالد الفرج وأحمد عبد الغفور عطّار وعبد الله بن محمد البسّام ومحمد بن عبد الله امانع وحمد الجاسر ود.عبد الله العثيمين وغيرهم، لكن كتبهم التي تفاوتت من حيث الشمول والتجديد والشفافية، لم تستوعب كل ما يتّصل بتأثير الموروث الأُسَري على تكوين الأبناء وشخصيّاتهم، وتأثّرهم به، وكان من الواضح أن بعض المثقّفين المحليين خضعوا لحذر بالغوا فيه، فضاعت عليهم بنسب مختلفة، فرص الإسهام في قراءة الحوادث والشخصيّات التي مرّت بهم وتحليلها، ومن المعلوم ما للمؤرّخ المحلّي في كل المجتمعات من فضل الأصالة في معرفة المعلومات ودقّة تشخيصها والحكم على ظروفها، متى ما تمكّن من روايتها، وتوافر لديه التأهيل المعرفي لها.
والكلام نفسه، يمكن أن يُقال عن معظم الكتب التي تناولت حياة خلَفه من أبنائه الملوك، فلم تتضمّن أبحاثاً معمّقة عن تكوينهم الأُسَري وتأثير الجينات الوراثيّة عليهم من أصولهم، مع أنه من الواضح وجودَ قواسم مشتركة، وعلاقة تأثّر بوالدهم وأمهاتهم، مما يستلزم أن يُؤسّس له المتخصّصون في الاجتماع والعلوم السياسيّة، لمقارنة الثابت والمتحوّل بين الأصل والفروع، من تشابه الخصائص الفيسيولوجيّة، وفي منهج الحكم وقدرات التعامل والإدارة، بشكل خاص.
في ندواتهم العامة ومجالسهم الخاصة، تحدّث الأبناء والأحفاد عن سيرة والدهم، واجتهد بعضهم بالإضافة إلى ذلك بالتدوين المنشور، ومنه ما كتبه عام 1948 الأمير (الملك) فيصل عن والده، وعدّ من خصاله قوّة الإيمان ومتانة الإرادة، والحكمة والأناة والحزم، والجمع بين الرحمة والشدّة في تربيته، مع العطف على الجميع، وأنه كان لا ينفكّ عن التفاؤل بجمع كلمة العرب والمسلمين، وعن حب الانتفاع بالعلوم الحديثة والأخذ من المدنيّة بخير ما فيها، ومن هذه الذكريات المدوّنة، ما سجّله الأمير طلال والملك سلمان في كتب مطبوعة، مع تخصيص جوانب من مكتباتهم المنزليّة لما أُلّف عن تاريخ السعودية وسير حُكّامها السابقين من المراجع، بينما حَرَص الملك سلمان مع ذلك على إلقاء محاضرات في الجامعات عن سيرة والده.
من جانب آخر، عُني عدد من المؤرّخين والرواة السعوديين، كحمد الجاسر وعبد الله بن خميس وأحمد علي أسد الله الكاظمي وسعد بن رويشد وعثمان الصالح وعبد الرحمن الرويشد، بالحديث عن حال التعليم في العاصمة عند منتصف القرن الهجري الماضي قبيل ولادة الملك سلمان، فوصفوا أجواء حلقات التعليم الديني في المساجد والكتاتيب في تلك الفترة وذكروا معلّميها، في وقت لم يكن التعليم الحديث قد بدأ بعدُ في الرياض، حيث سبقتها مكة المكرمة والمدينة المنوّرة وجدة والهفّوف بسنوات تزامنت بوجه خاص مع تأسيس مديريّة المعارف العموميّة عام 1925 واختيار مديريها من الشخصيّات اللّامعة في ذلك الوقت، من أمثال صالح شطا ومحمد كامل القصّاب ومحمد ماجد كردي وحافظ وهبة ومحمد أمين فودة وإبراهيم الشورى ومحمد طاهر الدباغ ومحمد عبد العزيز المانع، بمدد متفاوتة انتهت بتأسيس وزارة المعارف في مطلع عهد الملك سعود وتعيين الأمير (الملك) فهد وزيراً لها.
وذكر هؤلاء المؤرّخون أن الملك عبد العزيز كان وجّه بتأسيس مدرسة خاصة في قصر الحكم عند إنشائه عام 1910 فالتحق فيها أبناء أسر الرياض، وانضمّ إليها فيما بعد الأمراء فهد وناصر ومنصور وسعد وعبد الله وبندر ومساعد ومشعل وعبد المحسن وسلطان، وقد حضر لها عدد من المعلّمين روّاد التعليم الحديث، الذين يُدين كثير من الأمراء لهم بالفضل، ومنهم أحمد العربي وصالح خزامي وعبد الله عبد الغني خياط وأحمد علي أسد الله الكاظمي وحامد الحابس ومحمد الحساوي ومحمد بن عبد الله العماني (السنّاري) وكان الملك يستقبل الأساتذة ويتحدث معهم بصراحة عمّا يرغبه للتعليم، ويوجّههم بالاهتمام بالقرآن الكريم والكتابة ثم بقية الدروس، وكيف يحسن أن يكون سيرهم باللّين والحسنى مع الجميع، وألا يشدّدوا عليهم في أول الأمر حتى لا ينفروا من التعليم.
في هذه الأثناء، قُدِر لسلمان بن عبد العزيز، الخامس والعشرين في ترتيب الأبناء، أن يولد في يوم الحادي والثلاثين من ديسمبر (كانون الأول) عام 1935 في المنزل الطيني المخصّص لوالدته (الأميرة حصّة بنت أحمد السديري) في محيط قصر الحكم وسط الرياض، وأن ينتقل - وهو في الخامسة تقريباً - مع إخوته وأخواته إلى قصور المربّع الطينيّة الحديثة آنذاك، حيث وُلد شقيقهم الأمير أحمد بن عبد العزيز، أما موقع منزل والدتهم القديم بجوار قصر الحكم، فقد أوصت في حياتها بجعله وقفاً خيريّاً.
لم يكن غريباً، أن يُقارب الملك سلمان خطى والده في بعض أسلوب حياته، وأن يترسّم تاريخه المعيش والمروي والمدوّن، وأن يكتسب مهارة القيادة وإرث استحقاقات الحكم وهيبته، من خلال فرص تراكميّة متنوّعة تجلّت فيه عبر السنين، فكان - شأنه شأن إخوته - يشترك مع والده بدرجات متفاوتة، من الاستعداد الفطري وشَبَه الملامح والعادات والتقاليد، وفي حضوره الاجتماعي، ومقاربته في اتّخاذ القرار.
ويلحظ من يدرس شخصيّة الملك سلمان، ما تأثّر به من أعمامه وأخواله، ومن والدته المعروفة بريادة العمل الخيري والإنساني، تضفي على ذريّتها من الرعاية والتربية والتنشئة الفاضلة مما فصّلت فيه حكايات وروايات شفهيّة مأثورة من أبنائها وبناتها وأحفادها، ومما يتذكّره إلى اليوم بعض من كان قريبَ الصِلة بها، وهو ما يجري البحث في هذه الأيّام لتدوينه.
رُصدت سيرة الملك سلمان وأخباره ومبادراته الإنسانيّة ونشاطاته الإداريّة في مقالات كُثر، وفي بعض المحاضرات والمؤلّفات، لكن عدداً محدوداً من البحوث والدراسات تطرّق إلى نشأته المبكّرة في مرابع طفولته، وإلى صلته بوالديه وإلى نواحي تأثّره بهما، خلال السنوات التسع عشرة التي عاشها بجوار والده حتى وفاته عام 1953 والأعوام الخمسة والثلاثين التي عاصر فيها والدته حتى وفاتها سنة 1969.
من المؤلّفات القليلة التي صدرت عن سيرته قبل تولّيه الحكم، كتاب زين العابدين الركابي ذو العنوان «سلمان بن عبد العزيز، الوجه الآخر 2008» لخّص فيه عشر خصائص مشتركة في فنّ الحكم بين الملك عبد العزيز وابنه، وهي: الصِلة بالقرآن الكريم، وعمق الإيمان، والفطنة المتوهّجة، وقوّة الذاكرة، وتقدير الوقت والالتزام بالمواعيد وبرنامج العمل، والتنوّع المعرفي، والاطّلاع المتجدّد عَلى الأحداث من حوله، واستحضار حوادث التاريخ، والتوفيق بين شؤون الحكم والتزاماته الأسريّة، ثم ختم بيانَ تلك الصفات المتماثلة بين الوالد ونجله بالقول «كان الملك عبد العزيز متسامحاً جداً، يتجاوز ويعفو إلا في ثلاثة أمور؛ العقيدة، والدولة، وحقوق الناس ودمائهم وأعراضهم، وإن سلمان رجل التفكير الخلّاق، ذو الرؤية الواضحة، المتّسمة بالمبادأة والاستقلال والنزوع إلى التنوير، صاحب رؤية فكريّة سياسيّة في الجمع المتناغم بين الدين والدنيا، والوطنيّة والعالميّة، والإثبات والمرونة، والشورى والعزم، والأسرة الخاصة والوطن الكبير» انتهى.
والواقع أنه ليس من السهل حصر الخصال الشخصيّة والأسريّة والقياديّة المثيلة التي ورثها الأبناء من والدهم، فالموضوع أوسع من أن يُطال في مقام محدود، لكنها تتّضح للعيان، عند قراءة ملامح شخصيّة الأب القدوة، وعند مشاهدة تطبيقات الملوك الأبناء المقتدين، يأتي في مقدّمتها قدراتهم الواسعة على الإحاطة بمجريات الأمور، والمتابعة المستمرّة للأحداث، والإدراك المتوازن لما حولهم، واستباق المخاطر، ومواجهة التحدّيات، بتوفيق الله ثم بعزيمة معاونيهم ومستشاريهم ومساندتهم، بذاكرة ممشوقة تُحرج موظّفي الدواوين.
لكن تلك السمات المتماثلة بين الأب والأبناء، لا تكتمل إِلَا بإبراز صفة موروثة عمّقتها خبرة سلمان بن عبد العزيز الطويلة من الحكم الإداري للعاصمة، وهي حزم يصون بإذن الله حدود البلاد من المخاطر، وعزم لا يقبل أنصاف الحلول، ولا يُجامل على حساب الدين والأمن الاجتماعي والسياسي، مما لمسه المجتمع عين اليقين، وتفاجأ به العالم الخارجي بأسره عبر السنوات الخمس التي يعبرها في الحكم، وإذا كانت تلك الصفة من أوضح ما جمعه مع والده ويُجمع عليها المراقبون، فإن الأشباه الأخرى التي يلتقيان بها أكثر، من موروثات كُليّة تظهر بنسب متفاوتة في العديد من الأبناء.
ثم إن هناك عاملين إضافيين، أحسب أن لهما أثراً ملموساً في تحقيق الانفراد والتميّز في شخص الملك سلمان:

- العامل الأوّل:
فرصة بقائه أميراً للعاصمة، مما يُذكّر بفرصة مكوث الملك عبد العزيز في الكويت في معيّة والده (الإمام عبد الرحمن الفيصل) وذلك من زاوية كونها بمثابة تأهيل للأمير الشاب عبد العزيز قبل إقدامه على استعادة الحكم وممارسته فيما بعد.
فلقد تمكن الشاب عبد العزيز في مقتبل عمره، عبر معايشته المبكّرة لأحداث المنطقة، من الاطّلاع عن كثب على تقلّبات السياسة وعلى صراعات النفوذ وعلى التوازنات الإقليميّة، من خلال إدراك الحجم الحقيقي للقوى الموجودة في الخليج وتلك المحيطة ببلاده داخل الجزيرة العربيّة؛ وهي البريطانيّة والعثمانيّة بخاصة، وكانت فرصة له لفهم حركة التاريخ، وللتعمّق في العوامل والأسباب التي أدّت إلى سقوط الدولتين السعوديّتين الأولى والثانية، وصار الأمير عبد العزيز على يقين بأن القوّة الذاتيّة هي البُعد الحاسم في تحجيم تلك القوى، وفي الحيلولة دون أن يكون أداة في التبعيّة لها.
في المقارن، كانت الفترة التي أمضاها سلمان بن عبد العزيز في إمارة منطقة الرياض فرصة لقراءة الأحداث على الصعيد الداخلي والإقليمي والعالمي، من خلال قربه المكاني والأسري وموقعه السياسي ومعايشته للأحداث الدائرة في محيط العاصمة بخاصة وفي البلاد بعامة، خلال عهود إخوته الملوك الخمسة السابقين، كان فيها معهم مستشاراً وفاعلاً ومشاركاً وصانعاً للحلول.

- العامل الثاني:
اطّلاعه الواسع على التاريخ، فلقد كان الملك سلمان منذ صغره شغوفاً بالقراءة بشكل عام، وبكتب التاريخ الوطني بوجه خاص، ثم ازداد الولع بها بحكم إشرافه المباشر منذ عقود على أهم مؤسّستين توثيقيّتين في البلاد؛ مكتبة الملك فهد الوطنيّة التي تبنّى مع أعيان العاصمة (الرياض) فكرة إنشائها عام 1983 ودارة الملك عبد العزيز (لحفظ التاريخ الوطني) فكان يطّلع بشكل واسع على المؤلّفات السعودية والعربيّة والمترجمة التي كُتبت عن تاريخ المملكة وسيرة مؤسّسيها، وعلى كل معلومة تاريخيّة نادرة تصل إلى المكتبة والدارة.
ولأن الابن ورث «بكوريّة» النشاط منذ نشأته، بما يماثل طباع أسلافه، فإنه يحاول السير على منوالها، فيبدأ برنامج تواصله في الصباح المبكّر، بينما يعمل موظفو ديوانه على هذا المستوى الدؤوب من النشاط، ومكّنه سحر الشخصية وعلاقاته الواسعة في الداخل والخارج، من أن يحتفظ بسجل طويل من الصلات مع المواطنين والمثقّفين، مما يدلّل بجلاء على جاذبيّة شخصيّته للتواصل معه، خاصة أنه لا يهمل أي اتصال، وأنه يستقبل زائريه بعفويّة وتلقائيّة وبساطة تمثّل أركاناً أساسيّة في القبول والانصهار الكيميائي والاتصال الجماهيري، لا يحوزها إلا الندرة من الزعامات.
ومن الفضيلة في هذا المقام، التذكير بخصلة الوفاء التي تلقّنها سلمان من أسلافه، حين تستعيد الذاكرة على مرّ العقود مواقفه الموجبة مع كل من يرتبط به بصلة قرابة أو صداقة أو عمل، وتقدير من كانت لهم جهود مشهودة في خدمة الوطن من الأُسر والقبائل والمدن، فهو الذي يكتظّ برنامجه المسائي بعيادة المرضى ومواساة التعازي بالحضور أو بالمهاتفة، والمشاركة في المناسبات الاجتماعيّة والمعايدات، وملازمة أسرة أحبابه في بأساء المرض مهمّاً بعُد مكان الاستشفاء أو طال زمنه. وكما بدأ الحديث باستدعاء صفات موروثة، يعرّج بالتذكير بإيجاز، بديوان إمارة الرياض، الذي يُمثّل منذ القِدَم ولا يزال مكتب الحاكم الإداري، وقصر الدولة التاريخي في وسط العاصمة، ومقرّ المناسبات الوطنية الكبرى، حيث تُعقد فيه بيعات الملوك وأولياء العهود، وكان سلمان بن عبد العزيز إبّان ولايته أميراً للرياض، يواظب على العمل اليومي، في هذا المبنى المطلّ على ساحة العدل، حيث تُقام أمامه الحدود، والقصر تُذكّر رمزيّة أرجائه بهيبة الملك المؤسس، وببرنامجه اليومي في إدارة شؤون الحكم، واستقبال المواطنين والوفود والزوّار، كما يرتبط المكتب وجدانيّاً بالمنزل الذي ولد فيه الملك سلمان وإخوته، فقال عنه يوماً «بدأت حياتي العمليّة هنا في قصر الحكم حيث وُلدت، وعُدت إليه أعمل لخدمة بلادي».
والأمل كبير في أن يسعى الباحثون والدارسون، لتسجيل ما تختزنه الوثائق وذاكرة التاريخ الشفهي عن تلك الحقبة التاريخيّة المهمة، فالبيئة التي توارثها جيل اليوم من أسلافهم ظلّت من أقوى المؤثّـرات في تكوينهم ومنهجهم، وفي صقل شخصيّاتهم وطباعهم، وكانت مَعيناً نهلوا منه معارفهم الأساسيّة وتقاليدهم الأسريّة، وسمات الإقدام والجسارة في مقارعة التحدّيات التي واجهتها الدولة في عهودها.
وبعد؛ إن من حقّ الأجيال أن تعرف تاريخ ماضيها وحاضرها، وإن تشخيص مواهب القادة لا يكتمل الإحاطة به إِلَا عند تدوين هذا التاريخ، والمرجوّ من المراجع العلميّة والتوثيقيّة الوطنيّة أن تعمل على كتابة فصول مسيرة الرموز والأعلام، والحوادث بكل مراحلها ومكوّناتها، ومن حسن حظ هذه المراكز أنها تعيش عهد خازن التاريخ الوطني المعاصر، وقارئ الكثير فيه، والعاكف على تصويب ما وقع في كتب السيَر من أغاليط وأخطاء.

- محاضرة في ندوة «الملك سلمان: الإنجاز في مواجهة التحدّيات والمستقبل» جامعة أم القرى بمكة المكرمة



«البحر الأحمر» يستقبل 2000 فيلم وتكريم خاص لمنى زكي وفيولا ديفيس

جانب من المؤتمر الصحافي لمهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي (الشرق الأوسط)
جانب من المؤتمر الصحافي لمهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي (الشرق الأوسط)
TT

«البحر الأحمر» يستقبل 2000 فيلم وتكريم خاص لمنى زكي وفيولا ديفيس

جانب من المؤتمر الصحافي لمهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي (الشرق الأوسط)
جانب من المؤتمر الصحافي لمهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي (الشرق الأوسط)

أطلق مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي نسخته الرابعة بحلة جديدة تحت شعار «للسينما بيت جديد» من قلب مقره الجديد في المنطقة التاريخية بمدينة جدة غرب السعودية، بمشاركة نحو 2000 فيلم من مختلف دول العالم، في حين نجح المهرجان في عرض أكثر من 4 آلاف فيلم بأكثر من 38 لغة خلال السنوات الماضية.

ويدخل المهرجان الذي ينطلق في الخامس من ديسمبر (كانون الأول) المقبل ويستمر على مدار 9 أيام، موسمه الرابع بعد أن اكتسب ثقة صناع الأفلام، وفقاً لمحمد عسيري، الذي قال إن المهرجان وخلال الأعوام الماضية رسخ علاقته بالمهرجانات العالمية الدولية وخلال فترة زمنية بسيطة حظي بدعم وتقدير في المحافل الدولية، موضحاً أن المهرجان أصبح منصة ووجهة سينمائية معترفاً بها.

جانب من المؤتمر الصحافي لمهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي (الشرق الأوسط)

وأشار العسيري، الرئيس التنفيذي المكلف لمهرجان البحر الأحمر السينمائي، إلى أن الأرقام المسجلة هي نتاج استراتيجية وعمل متواصل تعكف عليه المؤسسة في سبيل تحقيق مستهدفاتها ورؤيتها السينمائية، لافتاً إلى أن صندوق البحر الأحمر دعم أكثر من 250 فيلماً، إضافة إلى معامل البحر الأحمر (الذراع التدريبي للمؤسسة) والتي ساهمت في دعم أكثر من 170 صانع أفلام في السعودية والعالم العربي، وقارتي آسيا وأفريقيا.

كما كشف، أن 50 في المائة من الأفلام التي تعرض في المهرجان سيكون عرضها حصرياً، بنحو 48 عرضاً عصرياً عالمياً، 10 عروض دولية و43 عرضاً لمنطقة الشرق الأوسط، وشمال أفريقيا، لافتاً إلى أن العام الحالي للمهرجان شهد زيادة ملحوظة في عدد الأفلام المتقدمة والتي تجاوزت 2000 فيلم من مختلف دول العالم، مما يعكس المكانة التي وصل إليها مهرجان البحر الأحمر في فترة قصيرة.

المقر يحاكي المنطقة التاريخية ويربط الماضي بالحاضر

الافتتاح

في ليلة الافتتاح سيكون حاضرا فلم «ضي» كعرض أول، وهو من إنتاج مصري سعودي مشترك، بينما سيشهد حفل توزيع الجوائز عرض فيلم «مودي، ثلاثة أيام على جناح الجنون» للمخرج والممثل جوني ديب، والذي تدور أحداثه حول حياة الفنان الإيطالي المشهور أميديو موديلياني، وسيختتم المهرجان فعالياته بعرض فيلم السيرة الذاتية المبتكر «رجل أفضل»، الذي يروي رحلة نجم البوب البريطاني روبي ويليامز للمخرج والكاتب والمنتج المشارك مايكل غريسي (مخرج فيلم «أعظم رجل استعراض») وذلك يوم 14 ديسمبر 2024.

في المقابل اختارت لجنة التحكيم الدولية للمهرجان 16 فيلماً للتنافس في المسابقة الرسمية والتي تشمل فيلم «إلى عالم مجهول» للمخرج مهدي فليفل (العرض الأول في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا)، وفيلم «أغنية سيما» للمخرجة الأفغانية رويا سادات، وفيلم «أولاد ماليجون الخارقون» للمخرجة الهندية ريما كاغتي، وفيلم «لقتل حصان منغولي» الممول من مهرجان البحر الأحمر السينمائي من إخراج شياوشان جيانغ.

الفنانة فيولا ديفيس من المكرمات في مهرجان البحر الأحمر

11 فيلماً عالمياً

ويشارك في المهرجان 11 فيلماً ضمن مجموعة العروض السينمائية العالمية لدورته الرابع، التي تعرض لأول مرة في العالم العربي، بما في ذلك العرض الأول في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لفيلم «ماريا» للمخرج بابلو لاراين وبطولة أنجلينا جولي، الحائزة على جائزة الأوسكار.

وقال كليم أفتاب مدير البرامج الدولية في مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي، إن هذه الأفلام هي للنخبة وأشهر المخرجين والممثلين في العالم، بما في ذلك فيلم «نابولي – نيويورك»، الذي يجسد رؤية العبقري فيديريكو فليني، وفيلم «أربعون فدان»، العمل الروائي الأول للمخرج آر تي ثورن، الذي يستعرض بأسلوب درامي مشوق تحديات وتجارب المجتمعات الأفريقية والسكان الأصليين في أميركا.

مقر مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي

الأفلام العائلية

في الجانب العائلي خصص المهرجان قائمة أفلام «السينما العائلية» ومنها فيلم «سُكّر: سبعبع وحبوب الخرزيز» للمخرج المصري تامر مهدي وكتابة هبة مشاري حمادة، والذي يرصد سلسلة من المغامرات للفتاة اليتيمة سُكر وأصدقائها، كما سيعرض المهرجان فيلم «دب الباندا في أفريقيا» PANDA BEAR IN AFRICA للمخرجين ريتشارد كلوز وكارستن كيليريش، والذي يتتبع رحلة المغامر «باندا بينغ» لإنقاذ صديقه، بالإضافة إلى فيلم «نايت أوف ذا زوبوكاليبس» NIGHT OF THE ZOOPOCALYPSE الذي يروي قصة فيروس يحوّل الحيوانات في حديقة حيوان كوليبيبر إلى كائنات «زومبي»، لتبدأ بعدها رحلة البحث عن علاج.

وقال أنطوان خليفة، مدير البرامج العربية والكلاسيكية في «مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي» إنه من خلال العالم الحالي نقدم مجموعة رائعة جرى اختيارها بعناية ونفخر بتعريف الأطفال بعالم السينما في مصر وخارجها، وذلك من خلال عرض أول فيلم استعراضي موسيقي في المهرجان، وهو من بطولة حلا الترك وماجدة زكي ومحمد ثروت، والذي سيتم عرضه ضمن برنامج العائلات والأطفال.

الفنانة منى زكي من المكرمات في مهرجان البحر الأحمر

تكريم منى وفيولا ديفيس

ومع أول أيام المهرجان ستكرم إدارة المهرجان الممثلة المصرية منى زكي احتفاءً بإنجازاتها ومسيرتها المتميزة في السينما العربية والعالمية، كما سيتم تكريم الممثلة الأميركية الحائزة على جائزة الأوسكار، فيولا ديفيس في حفل توزيع الجوائز.

وأكدت جمانا الراشد، رئيسة مجلس أمناء مؤسسة البحر الأحمر السينمائي، التزام المهرجان بدعم الأصوات النسائية في عالم السينما، وفقاً لبيان المهرجان، إذ قالت: «إنه لمن دواعي الفخر أن نستهل دورة هذا العام من مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي بتكريم سيدتين تُعتبران أيقونتين في الفن السابع، وهما منى زكي، وفيولا ديفيس، فكلتاهما تجاوزتا كونهما فنانتين بارعتين، لتغدوا أيضاً ناشطتين ملتزمتين بقضايا إنسانية متنوعة تتجاوز حدود إبداعهما الفني. وإننا نتطلع بشغف إلى استقبالهما في جدة، للاحتفاء بإسهاماتهما الاستثنائية».

من جهتها، قالت فيولا ديفيس: «يشرفني أن أحظى بهذا التكريم إلى جانب هذه المواهب الاستثنائية. بصفتي منتجة شغوفة تدعم تسليط الضوء على القصص الإنسانية المتنوعة، يسعدني رؤية العمل الذي يقوم به مهرجان البحر الأحمر لخلق منصة رائدة تركّز على التبادل الثقافي الهادف».

من جهتها، قالت منى زكي إنها تشعر بامتنان عميق لهذا التكريم من مهرجان البحر الأحمر. «لقد تابعت من كثب وأعجبت بالعديد من الإنجازات الثقافية، لا سيما في مجال السينما التي ظهرت في المملكة العربية السعودية، ومن خلال مهرجان البحر الأحمر السينمائي. وأتطلع إلى المشاركة في المهرجان والاحتفال بسحر صناعة الأفلام برفقة هذا الحشد الرائع من المواهب القادمة من جميع أنحاء العالم».