لقد أحدث العالم البولندي «نيكولاس كوبرنيكوس» ثورة حقيقية في تاريخ العلوم، وسط سخط ورفض المؤسسات الدينية والعلمية كافة في القرن السادس عشر، فوضع اللبنة الأولى ليس فقط لعلم الفلك الحديث، ولعل الأهم أنه غرس بذرة العمل على فصل الدين عن العلم، باعتبار الأول له مجاله الإنساني، وأهدافه العقائدية النبيلة، بينما الثاني له ناموسه المبني على قواعد وقوانين الطبيعة التي خلقها المولى، عز وجل.
لقد كان العالم يعتنق حتى القرن السادس عشر المنظومة النظرية التي أرساها العالم الروماني «بوتولوميك» في القرن الثاني الميلادي، والتي كانت تتمحور حول «مركزية الأرض»، أي أن الأرض ثابتة، وهي مركز الكون، فتدور حولها الشمس والكواكب، وثبات الأرض هنا بُني على عدد من النظريات والحسابات الإغريقية القديمة «لفيساغورس» و«أرسطو». ومع التسيد غير المبرر للكنيسة الكاثوليكية للمشهد في مجال العلوم، فقد أضفت على هذه النظرية قدسية دينية، استناداً إلى تفسيرات الكتاب المقدس، ومنها «المؤسس الأرض على قواعدها، فلا تتزعزع إلى الدهر والأبد»، وغيرها من النصوص، فكان من الصعب مع مرور القرون أن يأتي أحد فيعارض ما تم وصفه بـ«الحقيقية».
ولكن العالم البولندي «كوبرنيكوس» كان له رأيه، فلقد انتابه الشك في النظرية، رغم كونه شخصية دينية وعلمية على حد سواء، وأستاذاً في عدد من الجامعات الأوروبية، مما وضعه في صراع مع الذات امتد لسنوات، ولكنه بلور نظريته على أسس رياضية وتجريبية، بمتابعة حركة الكواكب والشمس، فوضع الأساس العلمي للمنظومة الفلكية السائدة اليوم، المعروف بـ«مركزية الشمس» (Heliocentricity)، أي أن الشمس هي مركز الكون، وتدور حولها الكواكب، فضلاً عن كونها تلف حول نفسها بسرعات عالية، فكتب كتابه الشهير «حول دوران الأجسام السماوية»، ولكن شجاعته خذلته فلم ينشره، فظل قابضاً عليه خشية الصدام مع الكنيسة والعلماء، والتشهير والسجن، أو حتى التعذيب أو الموت حرقاً باعتباره مهرطقاً، فظل هكذا حتى جاءه أحد التلاميذ المهتمين بعلم الفلك، وأقنعه وهو على فراش الموت بطباعة الكتاب ونشره، ويقال إنه تسلم نسخة من كتابه قبيل مماته مباشرة.
وعلى الفور، اندلعت الثورة العلمية التي أطلقها «كوبرنيكوس»، فغضبت الكنيسة، وتم وضع الكتاب على «قائمة الكتب المحرمة»، وتم تحريم نظريته على المستوى العلمي، والملاحظ أيضاً أن هذا العداء لم يكن من قبل الكنيسة وحدها، بل امتد لرجال حركة الإصلاح الديني أنفسهم، لأن النظرية تعارضت مع تفسيراتهم نفسها للكتاب المقدس، وانضم لهذا التوجه أيضاً أغلبية القيادات العلمية في الجامعات التي رفضت قبول فكرة أنهم كانوا على ضلالة علمية لأكثر من ألفية ونصف. وهكذا، حاربوا فكر الرجل بعد موته، كلٌ لأسبابه، فكانت ضمن الحجج التي ساقها العلماء أنه لو تحركت الأرض بسرعات عالية فلسوف نتطاير في الهواء، وأنه لو صحت الفرضية فإننا إذا ما رمينا بشيء في الهواء فحركة الأرض ستجعله يسقط في مكان آخر. ومع ذلك، فقد اعتنق بعض العلماء، وعلى رأسهم «جاليليو»، هذه النظرية، وطورها فكانت المحاكمات الكنيسة وراءه، حتى اضطر إلى نكص آرائه أمام إرهاب المحكمة الكنسية، ويقال إنه بعد أن «تاب» أمامها، قال بصوت خافت للغاية «ولكنها تتحرك»، وقد اضطر العالم لانتظار «نيوتن» لدحض هذه الفرضيات، بعد قرن ونصف، من خلال نظرية «الجاذبية الأرضية» التي تبقينا في أماكننا رغم دوران الأرض.
لقد أحدثت نظرية «كوبرنيكوس» الثورة العلمية التي لم تكن في الحسبان، فتفجرت بعد ذلك النظريات المختلفة في العلم والطبيعة، وبدأ العالم يدرك أهمية عدم ربط التفسيرات الدينية بمجالات العلم، فللعلم مداره وللدين مجاله، وهما مثل المجرتين اللتين قد يتلاقيا، ومن ثم أهمية عدم وضع المؤمن في صدام بين دينه وعلمه، فالاثنان للمؤمن يجب أن يكونا حقيقتين، وكما قال المعلم الثاني «ابن رشد»، فإن الحقيقتين لا يتناقضان أبداً «فالله لا يمكن أن يعطينا عقولاً، ويعطينا شرائع مخالفة لها». وهنا، يكون حسم الأمر في تفسير النص، وليس صدقه، فالله - سبحانه وتعالى - صدق عندما قال إنه ثبت الأرض، ولكن ذلك تم بموجب قانون الجاذبية، وليس بثبات حركتها، كما اعتقد العلماء ورجال الدين على حد سواء.
وإذا كان «كوبرنيكوس» قد صاغ الثورة العلمية في زمنه، فتقديري أننا بحاجة لثورة ثانية على غرار الثورة «الكوبرنيكية»، لا تقل عنها ضرورة أو عمقاً، فلقد آن الأوان لأن ندرك بوضوح أن صدق العقيدة لا يجب أن يقترن بفرضيات أو متغيرات علمية، فعظمة الدين تكون في ما يمثله من قيم إنسانية راقية، ونمط رفيع للحياة الإنسانية، حتى وإن كانت هناك تفسيرات علمية تؤيد النص، فالتفكر فريضة بنص إلهي، والاجتهاد لا يقل عنه، والاثنان وجهان لعملة واحدة، وقد أثبتت بعض الاكتشافات العلمية صدق «تفسيرات» قائمة لنصوص إلهية، ولا بأس في ذلك، ولكننا لا يجب أن نجعل النص الإلهي بوابة للعلم، فللدين أركانه وللعلم مجاله، خصوصاً أن السعي لربط النص بفرضيات علمية قد يثبت عدم دقتها في ضوء التفسيرات القائمة ستكون له تبعات خطيرة للغاية في يقين المؤمنين، فلله ما أنزل ولله ما خلق.
نحو الثورة «الكوبرنيكية» الثانية
نحو الثورة «الكوبرنيكية» الثانية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة