كاتب بريطاني يتتبع خطى غارسيا ماركيز في باريس

26 محطة في العاصمة الفرنسية من مقاهٍ وشوارع ومطاعم وشقق

ماركيز
ماركيز
TT

كاتب بريطاني يتتبع خطى غارسيا ماركيز في باريس

ماركيز
ماركيز

في روايته «لا أحد يراسل الكولونيل»، يستعرض غابرييل غارسيا ماركيز كيف كانت أيامه الأولى في باريس محزنة وتعج بالأحداث الدرامية، وذلك أثناء عمله مراسلاً لصحيفة «إل إسبكتادور» الكولومبية. في تلك الفترة، لم يكن بحوزته سوى قليل من المال وكان يحلم بأن يصبح يوماً كاتباً ناجحاً. ومن خلال شخصية كولونيل متقاعد ظل في انتظار المعاش لسنوات كثيرة بينما كان يرزح تحت أغلال الفقر، تناول غارسيا ماركيز الصعوبات التي كابدها خلال تلك السنوات.
وصل غارسيا ماركيز باريس في ديسمبر (كانون الأول) عام 1955، ورغم أنه عملياً كان مفلساً تماماً، ظلت باريس بمثابة حلم كان يداعب مخيلة الكاتب الكولومبي الشاب. إلا أن هذا الأمر لم يقتصر على غارسيا ماركيز، وإنما حظيت باريس بأهمية كبيرة لجميع الكتاب المنتمين لأميركا اللاتينية تقريباً.
من جانبها، منحت باريس غارسيا ماركيز المجد والألم معاً. في ثمانينيات القرن الماضي، وبعد أن أصبح كاتباً مشهوراً، بدأ غارسيا ماركيز يألف حياة الرغد والبوهيمية والبيئة الثقافية السائدة بالمدينة والشخصيات النافذة بها. عام 1981. تلقى دعوة بجانب كل من كارلوس فوينتس وخوليو كورتاثر لحضور حفل تنصيب الرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران.
وتحمل كتب غارسيا ماركيز الكثير من الإشارات إلى الحياة في باريس والمدينة ذاتها. ولهذا، أطلق «إنستيتيوتو كيرفانتيس»، الذي يتولى مسؤولية نشر اللغة الإسبانية عالمياً، مما أطلق عليه «طريق غارسيا ماركيز»، ويتضمن 26 محطة مثل المقاهي والشوارع والمطاعم والشقق التي اعتاد الكتابة أو العيش بها، والتي لعبت جميعها دوراً محورياً في الفترة التي قضاها غارسيا ماركيز من حياته داخل العاصمة الفرنسية.
ويتضمن الكتاب نوادر وتاريخ وتفاصيل دقيقة ومظاهر جمالية ساحرة. ويبدأ داخل «أوتيل دي تروا كولاج»، حيث كتب غارسيا ماركيز «لا أحد يراسل الكولونيل».
من بين المحطات الأخرى ناصية بولفار سانت ميشيل وبولفار سانت جيرمان، حيث اعتاد غارسيا ماركيز السير يومياً بين المنطقتين خلال الفترة من ديسمبر (كانون الأول) 1955 حتى نوفمبر (تشرين الثاني) 1957. في وقت كان يعاني أزمة مالية طاحنة. وفي ذلك المكان، التقى غارسيا ماركيز بإرنست هيمنغواي الذي كان بمثابة «البطل الأدبي الأول آنذاك»، حسبما أوضح «إنستيتيوتو كيرفانتيس» عبر موقعه الإلكتروني.
وقد شاء القدر أن يصبح غارسيا ماركيز صديقاً مقرباً للغاية من أشد الكتاب الذين كان يكن لهم بالغ الإعجاب والتقدير، الأميركي إرنست هيمنغواي والأرجنتيني خوليو كورتاثر. وقد وقعت واحدة من أجمل نوادر هذه السنوات داخل «كافيه أولد نيفي» مع كورتاثر. كان الكاتب الكولومبي يعلم أن الأرجنتيني اعتاد الكتابة داخل ذلك المقهى. لذا، فإنه بعد أسابيع من انتظار فرصة رؤيته، التقى غارسيا ماركيز أخيراً معشوقه الأدبي، لكن لم يتحدث إليه قط. وقد تناول غارسيا ماركيز هذا الموقف في قصة قصيرة ذات طابع عاطفي للغاية بعنوان «الأرجنتيني الذي يعشقه الجميع»، وذلك عندما توفي كورتاثر عام 1984.
وخلال مقابلة حصرية مع «الشرق الأوسط»، يخبرنا الكاتب البريطاني غيرالد مارتن مزيداً من التفاصيل حول باريس باعتبارها فصلاً مهماً من حياة غارسيا ماركيز.
> أي مدى بلغت أهمية باريس لغابرييل غارسيا ماركيز؟
- كانت بالغة الأهمية، مثلما الحال مع غالبية كتاب أميركا اللاتينية منذ أواخر القرن التاسع عشر. يقول الكثيرون إنهم في باريس أدركوا أنهم «ينتمون لأميركا اللاتينية»، وليس مجرد كولومبيين أو مكسيكيين أو أرجنتينيين، وهو ذات الأمر الذي قاله غارسيا ماركيز. لقد عانى بشدة من نقص المال، بل والطعام. ومع هذا، نجح نهاية الأمر من أن يصبح صديقاً مقرباً من أحد أشهر رؤساء فرنسا، فرنسوا ميتران.
> لماذا ذهب غارسيا ماركيز إلى باريس، هل لأنه كصحافي صغير كان يحلم بسحرها؟
- لقد قال إنه سافر ليس من أجل باريس نفسها، وإنما للفرار من خطر الصحافة الراديكالية الذي واجهه في بوغوتا. وانتهى به المقام هناك. لقد سافر إلى روما أولاً لدراسة السينما، ثم سافر إلى شرق أوروبا. إلا أن غالبية الكتاب من أميركا اللاتينية انتهى بهم الحال أخيراً في باريس. ومع هذا، بذل غارسيا ماركيز قصارى جهده كي لا ينبهر بالمدينة الفرنسية!
> أي مؤلفات ماركيز استوحى إلهامها من باريس؟
- هناك رواية يعتبرها الكثيرون عمله الأعظم على الإطلاق: «لا أحد يراسل الكولونيل». وبعد سنوات كثيرة كتب «الحب في زمن الكوليرا»، والتي ربما تعد روايته الأشهر بين القراء والتي تعكس تأثراً شديداً بباريس وأدبها. كما كتب «آثار دمائك في الجليد»، والتي تعتبر واحدة من أعظم قصصه وتدور حول باريس هذ الأخرى.
> حسب علمي، هناك 26 محطة في الجولة، ما هي الأكثر جوهرية بينها من أجل استيعاب حياة غارسيا ماركيز في باريس؟
- أعتقد هناك الكثير من النوادر والقصص حول فترة إقامته بباريس في «أوتيل دي فلوندر» الذي يفضله أبناء أميركا اللاتينية، أكثر عن أي محطة أخرى. وهناك، كتب الجزء الأكبر من رواية الكولونيل. وبعد سنوات كثيرة أقمت هناك بنفسي، وإن كان الفندق يحمل اليوم اسما مختلفاً.
> أي أعمال غارسيا ماركيز المفضلة لديك؟ ولماذا؟
- من المستحيل الإجابة على هذا السؤال، لذا أعتقد أن الإجابة هي أنني أعشق جميع أعماله بالدرجة ذاتها!
> هل بدأت صداقته مع خوليو كورتاثر في باريس؟
- نعم، كان ذلك في باريس حيث التقى غارسيا ماركيز بكورتاثر. وأصبحا صديقين مقربين لأن آراءهما اتفقت سياسياً، وكان كلاهما شديد البوهيمية وبعيد عن الرسميات. كما امتلك كل منهما حساً فكاهياً قوياً، وكانا يعشقان الموسيقى.
> باعتبارك خبيراً بكل منهما، غارسيا ماركيز وماريو فارغاس يوسا، كيف تختلف تجربة الاثنين في باريس؟
- رغب فارغاس يوسا في السفر إلى باريس منذ كان مراهقاً فقد تأثر بشدة بالأدب الفرنسي، بينما كان غارسيا ماركيز مغرماً بكتاب أميركا الشمالية وكان مهتماً بأوروبا ككل. قد كانت باريس تجربة حاسمة في مسيرة الرجلين ودخل كلاهما في قصص حب مهمة هناك وألف كل منهما كتباً مهمة في المدينة.



ماجان القديمة ...أسرارٌ ورجلٌ عظيم

قطعتان ذهبيتان وقطعة نحاسية مصدرها موقع تل أبرق في الإمارات العربية
قطعتان ذهبيتان وقطعة نحاسية مصدرها موقع تل أبرق في الإمارات العربية
TT

ماجان القديمة ...أسرارٌ ورجلٌ عظيم

قطعتان ذهبيتان وقطعة نحاسية مصدرها موقع تل أبرق في الإمارات العربية
قطعتان ذهبيتان وقطعة نحاسية مصدرها موقع تل أبرق في الإمارات العربية

كشفت أعمال المسح المتواصلة في الإمارات العربية المتحدة عن مواقع أثرية موغلة في القدم، منها موقع تل أبرق التابع لإمارة أم القيوين. يحوي هذا التل حصناً يضمّ سلسلة مبانٍ ذات غرف متعددة الأحجام، يجاوره مدفن دائري جماعي كبير. وتُظهر الدراسات أن هذه المنشآت تعود إلى فترة تمتد من الألف الثالث إلى منتصف الألف الثاني قبل الميلاد، وترتبط بمملكة عُرفت في تراث بلاد الرافدين باسم ماجان. خرجت من هذا التل مجموعة من اللقى تشهد لتعدّدية كبيرة في الأساليب، وضمَّت هذه المجموعة بضع قطع ذهبية، منها قطعة منمنمة على شكل كبش، وقطعة مشابهة على شكل وعلَين متجاورين.

يقع تل أبرق عند الخط الحدودي الفاصل بين إمارة أم القيوين وإمارة الشارقة، حيث يجاور الطريق الرئيسي المؤدي إلى إمارة رأس الخيمة. شرعت بعثة عراقية باستكشاف هذا الموقع في عام 1973، وبعد سنوات، عُهد إلى بعثة دنماركية تابعة لجامعة كوبنهاغن بإجراء أعمال المسح والتنقيب فيه، فأجرت تحت إدارة العالِم دانيال بوتس خمس حملات بين عامَي 1989 و1998. خرج تل أبرق من الظلمة إلى النور إثر هذه الحملات، وعمد فريق من الباحثين التابعين لكلية برين ماور الأميركية وجامعة توبنغن الألمانية على دراسة مكتشفاتها في 2007. تواصلت أعمال التنقيب في السنوات التالية، وأشرفت عليها بشكل خاص بعثة إيطالية تعمل في إمارة أم القيوين منذ مطلع 2019.

استعاد دانيال بوتس فصول استكشاف هذا الموقع في كتاب صدر عام 1999 تحت عنوان «ماجان القديمة... أسرار تل أبرق». زار الباحث تل أبرق للمرة الأولى في 1986، يوم كان يقود أعمال التنقيب في مواقع مجاورة، وزاره ثانية بعد عامين، بحثاً عن مؤشرات أثرية خاصة تتعلّق بالأبحاث التي كان يقودها، وكان يومها يعتقد أن تاريخ هذا التل يعود إلى مطلع الألف الأول قبل الميلاد، ثم عهد إلى العالِمة الدنماركية آن ماري مورتنسن بمشاركته في استكشاف هذا الموقع، وتبيّن له سريعاً أن الأواني التي كشفت عنها أعمال المسح الأولى تعود إلى القرون الثلاثة الأولى قبل الميلاد بشكل مؤكّد. إثر هذا الاكتشاف، تحوّل موقع تل أبرق إلى موقع رئيسي في خريطة المواقع الأثرية التي ظهرت تباعاً في الأراضي التابعة للإمارات العربية المتحدة، وتوّلت البعثة الدنماركية مهمة إجراء أعمال المسح المعمّق فيه خلال خمسة مواسم متتالية.

حمل عنوان كتاب دانيال بوتس اسم «ماجان القديمة»، وهو اسم تردّد في تراث بلاد الرافدين، ويمثّل جزءاً من شبه جزيرة عُمان كما تُجمع الدراسات المعاصرة. يذكر قصي منصور التركي هذا الاسم في كتابه «الصلات الحضارية بين العراق والخليج العربي»، ويقول في تعريفه به: «تعدّدت الإشارات النصية المسمارية عن المنطقة التي عُرفت باسم ماجان، وهي أرض لها ملكها وحاكمها الخاص، أي إنها تمثّل تنظيماً سياسياً، جعل ملوك أكد يتفاخرون بالانتصار عليها واحداً تلو الآخر». عُرف ملك ماجان بأقدم لقب عند السومريين وهو «إين» أي «السيد»، كما عُرف بلقب «لوجال»، ومعناه «الرجل العظيم». واشتهرت ماجان بالمعادن والأحجار، وشكّلت «مملكة ذات شأن كبير، لها ملكها واقتصادها القوي»، ودلَّت الأبحاث الحديثة على أن مستوطنات هذه المملكة، «بما فيها الإمارات العربية وشبه جزيرة عُمان الحالية، كانت لها قاعدة زراعية، ولكي تجري حماية استثماراتهم هذه شعر المستوطنون بضرورة بناء التحصينات الدفاعية الممكنة لقراهم، حيث احتوت كل قرية أو مدينة صغيرة على أبراج مرتفعة، بمنزلة حصن مغلق واسع، يتفاوت ارتفاعاً ومساحةً بين مدينة وأخرى». يُمثّل تل أبرق حصناً من هذه الحصون، ويُشابه في تكوينه قلعة نزوى في سلطنة عُمان، وموقع هيلي في إمارة أبو ظبي.

يتوقّف دانيال بوتس أمام اكتشافه قطعةً ذهبيةً منمنمةً على شكل كبش في مدفن تل أبرق، ويعبّر عن سعادته البالغة بهذا الاكتشاف الذي تلاه اكتشاف آخر هو كناية عن قطعة مشابهة تمثّل كما يبدو وعلَين متجاورين. وتحمل كلٌّ من هاتين القطعتين ثقباً يشير إلى أنها شُكّلت جزءاً من حليٍّ جنائزية. إلى جانب هاتين الحليتين الذهبيتين، تحضر حلقة على شكل خاتم، وقطعة على شكل ورقة نباتية مجرّدة، إضافةً إلى زر صغير، وتُكوّن هذه القطع معاً مجموعة ذهبية صغيرة تجذب ببيرقها كما بصناعتها المتقنة. يحضر الكبش في وضعية جانبية، ويتميّز بطابع تجسيمي دقيق، يتجلى في جانبيه. في المقابل، يحضر الوعلان متقابلين بشكل معاكس، أي الذيل في مواجهة الذيل، ويتميّزان كذلك بحذاقة في التنفيذ تظهر في صياغة أدّق تفاصيل ملامح كل منهما.

يذكر احد النقوش أن «لوجال ماجان»، أي عظيم ماجان، أرسل ذهباً إلى شولكي، ثاني ملوك سلالة أور الثالثة الذي حكم من 2049 إلى 2047 قبل الميلاد. ويربط دانيال بوتس بين قطع تل أبرق الذهبية وبين هذا الذهب، مستنداً إلى هذه الشهادة الأدبية، ويجعل من هذه القطع قطعاً ملكية ماجانية. في الخلاصة، يبرز كبش تل أبرق ووعلاه بأسلوبهما الفني الرفيع، ويشكّلان قطعتين لا نرى ما يماثلهما في ميراث مكتشفات تل أبرق الذي ضمّ مجموعة من البقايا الحيوانية، تُعد الأكبر في شبه الجزيرة العربية.

من هذا الموقع كذلك، عثرت البعثة الإيطالية في عام 2021 على مجموعة من اللقى، منها تمثال نحاسي صغير على شكل وعل، يبلغ طوله 8.4 سنتيمتر. يعود هذا التمثال إلى فترة زمنية مغايرة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الثالث الميلادي، ويتميّز بطابعه الواقعي الذي يعكس أثراً هلنستياً واضحاً. يماثل هذا التمثال مجموعة كبيرة من القطع مصدرها جنوب الجزيرة العربية، كما يماثل قطعاً معدنية عُثر عليها في قرية الفاو، في الربع الخالي من المملكة السعودية.