... ويستمر {سحر} فرناندو بوتيرو في إغواء آسيا

يلفت نظر الزائر لفندق بيننسولا الفاخر في هونغ كونغ، تلك الكوكبة من التحف والأعمال الفنية التي يتزين بها بهو الفندق الكبير. وإحدى هذه التحف يوحي شكلها بالبساطة، ولكن في نفس الوقت تبتهج بالألوان الزّاهية إذ تصور زوجين يجلسان في ارتياح وسكينة على عشب أخضر جميل، تحيط بهما الجبال البنية بقممها الخضراء من أعمال الفنان الكولومبي الشهير فرناندو بوتيرو، الذي يعتبر واحدا من أعظم الفنانين المعاصرين.
ويضمّ الفندق اثنين من الأعمال النّحتية الكبيرة، وثلاث منحوتات صغيرة أخرى، إضافة إلى ثماني لوحات، وإحداها هي من أعمال بوتيرو الأسطورية. أضفى فن بوتيرو سحابة من السّرور والسّحر والإعجاب على كل من شاهد أعماله في هونغ كونغ والصين، وهي من دون شك من الأعمال القوية في محتواها والفريدة في رسالتها.
يقول بعض الناس إنّ فرناندو بوتيرو مشهور برسم الناس البدناء، غير أنّ الحقيقة تقول إنّ عالمه الفني الخاص مفعم بالأحجام تماماً كما أوضح وكيل أعماله خوان كاميلو مونتانا، الذي يقول: إنّه «لم يكن يوما معنيا برسم الأشخاص البدناء. بل إنّ فنّه يدور حول تيمة الأحجام، ويتألف أسلوبها الفني من المبالغة في الحجم التي تتيح له عكس الحقيقة وواقع الحياة، بما هو مستشعر، ومبهج، ومحسوس عمّا يبدو في الواقع».
ويستطرد مونتانا قائلا: «إن أوليت اهتمامك لتشريح شخوصاته البشرية، فسوف تلحظ أنّهم أبدا ليسوا بدناء على نحو تشريحي، وإنّما مصورون بشيء من الضخامة المتعمدة. ومن جهة أخرى، فإنّه يبالغ في ضخامة أحجام كافة الأشياء التي يصورها بفنه، وليس فقط الشّخوصات البشرية. بل إنك تجد ذلك في المناظر الطبيعية، والفاكهة، وتصاوير الحياة، ومختلف الأشياء، وحتى الحيوانات. كلها تخرج في لوحاته بنفس الحجم النمطي الذي يحتفي بالحياة أيّما احتفاء».
وخوان كاميلو مونتانا هو أيضاً، مواطن كولومبي، وهو وكيل أعمال شاب مع سيرة ذاتية مهنية مثيرة للإعجاب في عالم الفن في قارة آسيا. ويعمل مع الفنان فرناندو بوتيرو منذ ست سنوات، ويعيش في شنغهاي الصينية بغية تنسيق معارض الفنان الكولومبي الشهير وتوسيع قاعدة تراثه الخاص حول العالم. ويقول: «لقد مرّت بي ست سنوات من رحلة مفعمة بكل ما هو سار وسعيد مع أعمال الفنان فرناندو بوتيرو».
- وظيفة الأحلام
ومع الاستماع إلى مونتانا حاكياً عن بوتيرو ورحلاته الفنية حول العالم، لا يسعك إلّا الاعتقاد بأنّه يعمل في وظيفته المثلى، وهو يؤكد ذلك تماما بقوله «إنّها وظيفة أحلامي بكل تأكيد. إنّني أعمل حاليا لدى واحد من أهم الفنانين المعاصرين على قيد الحياة في العالم، والأكثر أهمية في تاريخ الفنون في أميركا اللاتينية. وتتعلق وظيفتي بمحاولة نشر إرثه الفني وأعماله عن طريق تنظيم المعارض المتميزة، وعقد المحاضرات، والبرامج التثقيفية التي تثري حياة الناس الذين ينضمون إليها. والمقدرة على الحديث إليه، والعمل معه، والتعلم منه، هي من الميزات الفريدة التي أحظى بها وأقدرها. لم أتوقف عن التعلم منه أبداً. فلديه الكثير كي ينقله إلى الآخرين، وأنا أصبحت كالإسفنجة التي تمتصّ كل ما يصدر عنه وفي أي لحظة أوجد معه».
وأثناء مشاهدة إحدى المنحوتات التي تصور حصانا ضخما، يواصل مونتانا توضيح مصدر إلهام سحر فرناندو بوتيرو الفني.
وفي ذلك يقول: «يتأصّل ارتباط الفنان بوتيرو بالأحجام الكبيرة في إعجابه العميق بعصر النّهضة، على اعتبار أنه يتصور أعمال الفنانين العظماء في فترات السمو الفني الإيطالي ما بين أوائل القرن الرابع عشر وحتى نهايات القرن السادس عشر الميلادي وهي صاحبة الأثر الأكبر عليه. وهو يؤمن بأنّ فناني عصر النهضة قد أحدثوا ثورة عارمة في عالم الفنون من خلال إعادة استحداث وإعادة تأكيد أهمية الحجم الكبير في الأعمال الفنية. تلك الأهمية التي ظلّت غائبة أو مهملة في فنون القرون الوسطى الأوروبية. واستخدمت الجداريات العظيمة لكل من غيوتو، وباولو أوشيلو، وبييرو ديلا فرانشيسكا، الحجم الكبير كوسيلة من وسائل دس أوهام المنظور والعمق لدى النّفس وللبعث بالرسالة الحسّية للفنون التي أغفلتها الفنون المسيحية خلال العصور الوسطى. والرسالة الحسية هي بالضبط ما يرغب فرناندو بوتيرو التمسك بها في عالم الفن الذي أوجده لنفسه من خلال لوحاته، ورسوماته، ومنحوتاته».
ومع ذلك، عندما تنظر إلى لوحاته المفعمة بالألوان الزّاهية تشعر كما لو أنّك داخل أتيليه الفنان بوتيرو نفسه. وكان لموطنه كولومبيا بعض الأثر على أعماله الفنية المستوحاة من هناك.
- إنجازات بوتيرو وأعماله
«أعتقد أنّه بصرف النّظر عن الأعمال الفنية الغربية العظيمة وعن ذكريات الطفولة لديه، التي تشكّل مصدر إلهامه الرئيسي، يتلقى الفنان بوتيرو إلهامه كذلك من وحي الألوان وبهجة الكون، حيث يميل الناس إلى الملابس الزاهية والاحتفال بالحياة عبر مختلف الأنشطة. وهذا واضح تماما، على سبيل المثال، في الأعمال التي نفذها على خلفية مصارعة الثيران والسيرك. ولكن في بعض الأحيان، وليس في أغلبها، تعد أعماله رد فعل على الأحداث السياسية التي تغضبه أو تثير حفيظته. ويبدو ذلك واضحا في السلسلة الفنية التي نفّذها بشأن أعمال العنف في كولومبيا في الوقت الذي كانت الصّحف القومية تتحدّث بصفة يومية عن المجازر وعمليات القتل والخطف والتفجيرات، أو عندما شعر باضطراره إلى ترك البصمة الفنية عن فضيحة التعذيب في سجن أبو غريب العراقي وعلاقتها بالولايات المتحدة الأميركية، بعد أن قرأ مقالات الكاتب الصحافي الأميركي سيمور هيرش لصحيفة نيويورك تايمز مندّدا فيها بالجيش الأميركي وصنائعه في العراق».
وبالتفكير في كيفية تأثير غزارة إنتاجه الفني على حياته، سيما مع بلوغه الـ87 من عمره تقريبا، سألت السيد مونتانا إن كان الأمر صحيحاً أن بوتيرو لا يزال يزاول الرّسم بصفة يومية. فمن الجيد أن تعرف أنّه ينتقل بين موناكو وبين مرسمه في إيطاليا حيث ينتهي هناك من أعماله النحتية.
«في كل مكان وفي أي وقت لا يزال بوتيرو يواصل العمل والإبداع. إنه فنان غزير الإنتاج، وذلك لأنّه يعشق ما يفعل. ومن الدّروس التي استخلصتها من مراقبتي لأسلوب حياته، هو أنّه، إن كنت تريد أن تكون سعيداً فعليك أن تحب عملك. ولذلك فإنه لا يتوقف عن العمل أبداً، وهو لا يأخذ العطلات من عمله، ولا يقسّم الأسابيع بين أيام العمل وأيام العطلات. فهو يرسم أو ينحت في أعياد الميلاد أو في رأس السنة الجديدة، ذلك لأنّه لا يلحظ أنّها عطلة بالأساس. وفي أي مكان يعيش، يكون له مرسمه الخاص، الذي يقضي فيه ما يقارب 10 ساعات أو أكثر يوميا من العمل المستمر. والوقت الوحيد الذي لا يرسم أو ينحت فيه، هو عندما يحضر افتتاح معرض. وأود القول بأن هذا هو أقل الأمور المفضلة في العمل بالنسبة له».
- صبغة عالمية مدهشة وبسيطة
إن فنون بوتيرو ذات صبغة عالمية، ومثيرة للدهشة، ولكنها بمنتهى البساطة. ومن أفضل أعماله بالنسبة لي، هي لوحات المناظر الطبيعية، والوفرة اللونية التي يصوّر بها الحياة، وتفسيراته لأعمال الآخرين الفنية.
لدى فرناندو بوتيرو الكثير من الأعمال الفنية الشهيرة التي يميل الناس لمشاهدتها: منها تمثيلاته المختلفة للموناليزا، على سبيل المثال؛ ولوحة «ستيل لايف» المفعمة بالألوان الصفراء في الزهور، واللون الأزرق والأحمر، واللوحات الشّخصية التي رسمها لولده الصغير بيدريتو الذي توفي في حادثة سيارة وهو في الرابعة من عمره.
رغم ذلك، فإنّ أكثر أعمال الفنان بوتيرو شهرة، هي منحوتات الأماكن العامة، «المرأة المتكئة» في بلازا سانتو دومينغو في قرطاجنة، و«آدم» في وارنر تايم سنتر في نيويورك، و«هاند» في مدريد. وتلك هي الأعمال النّحتية التي يُسمح للنّاس بلمسها، والتي يوحي مظهرها العتيق برونق خاص بمزيد من زيارات الناس لها على الدّوام. وهذا ما يجلب السّرور الكبير للفنان بوتيرو، لأّنه يحب رؤية الناس على تواصل مباشر مع أعماله. وهو دائما ما يقول ذلك في مسيرته الفنية التي كرّسها لاستكشاف مكامن الأحجام الفنية الهائلة، ومن الطبيعي أن يرغب الفنان والمتذوّق للفن، أن يلمسا تلك الأحجام بأيديهما معا.
عندما أوشكت الجولة على الانتهاء، سألت السيد مونتانا عن التخطيطات المنتظرة لمعارض الفنان خلال العام الحالي؟ قال: «لدينا حالياً معرض واحد في مدريد. ونعمل على تنظيم معارض لدى مؤسسات مهمة في مختلف عواصم شرق آسيا مثل جاكرتا، وكوالالمبور، ومانيلا، وهونغ كونغ».
لم أستطع ترك مونتانا من دون أن أعرف إن كانت هناك من معارض ستُنظّم في منطقة الشرق الأوسط قريبا، فجاء ردّه أنّه يأمل أن يحظى بفرصة تنظيم معرض للفنان بوتيرو بحلول العام 2020. وأضاف أنّ منطقة الشرق الأوسط منطقة ثرية للغاية من الناحية الثقافية بالنسبة إليه وللفنان.
ومع انتهاء الجولة في معرض فرناندو بوتيرو في فندق بيننسولا الفاخر، أدركت أنّ أفضل لوحات بوتيرو لدي هي لوحة زهرة دوار الشمس الكبيرة التي توجد في الطابق الثاني من المعرض. وهي بمثابة تحية للفنان الهولندي الكبير فنسنت فان جوخ، وهي مفعمة بالألوان الأحمر والبرتقالي والأصفر والوردي والأزرق. وهي في مثل عنفوان فنون بوتيرو وتعكس سحر بلادنا كولومبيا الحبيبة.