إيراسموس... التوفيق بين الإنسانية والدين

ستظل كلاسيكيات الفكر تتجدد بأشكال مختلفة، فقيمتها الفكرية تبقى ثابتة حتى مع تغير الزمن، فهي تمثل رموز زمنها ولكنها أيضاً إطلالة على جذور حاضرنا، وهو ما يشعر به المرء عند قراءة كتب إيراسموس (Erasmus) قائد «الحركة الإنسانية» (Humanism) في القرن السادس عشر، حتى أصبح أيقونة فكرية ممتدة إلى زمننا، فهو يظل الركن الأهم للحركة الإنسانية التي اندلعت من شبه الجزيرة الإيطالية في منتصف القرن الخامس عشر وارتبطت بشكل مباشر بحركة «البعث» الأوروبي التي مثلت أحد أهم الأسس التي بُني عليها التطور الفكري الأوروبي. ومع أن أساسها كان إيطالياً وجاء امتداداً لأدباء ومفكرين من أمثال بوكاشيا وغيره، فإن الشعلة الفكرية تجسدت فيما سُمي «الحركة الإنسانية الشمالية» التي أسسها إيراسموس الذي ولد في مدينة روتردام الهولندية عام 1466. وعلى الرغم من النشأة المحافظة له وسعيه للانخراط في حياة الأديرة، فإنه اختار أن يكون كاتباً ومفكراً حراً، فسافر إلى أماكن مختلفة ودرس في جامعة باريس وزار إنجلترا فربطته علاقة قوية مع المفكر الإنجليزي توماس مور رائد الحركة الإنسانية هناك، الذي دفع حياته ثمناً لقناعاته السياسية ومبادئه في صدامه مع الملك هنري الثامن.
لقد سعى إيراسموس للتوفيق بين الجذور الكلاسيكية للثقافة الأوروبية والدين المسيحي، فظل إيمانه راسخاً باستحالة تجاهل ما كانت تطلق عليه الكنيسة «الفكر الوثني» المتمثل في حكمة أرسطو وأخلاق سقراط وعقلية شيشرون وغيرهم من الفلاسفة والأدباء اليونانيين والرومانيين، فأكد أن التوفيق جائز بل وممكن، لأننا يجب أن ننظر لحكمة فكرهم وسمو الأخلاق التي نادوا بها والتي لا تتعارض مع أصول ومبادئ المسيحية، مؤكداً أن نصوص الكتب المقدسة لا تتعارض وهذه المفاهيم، خصوصاً بعد أن قام بترجمة الكتاب المقدس الذي تناقض في بعض سطوره مع الترجمة الرسمية السائدة لدى الكنيسة، وقد خلد فكره هذا جملته الشهيرة في إحدى رواياته التي قال فيها إن «بعض الوثنيين يتحدثون بروح مسيحية أكثر من مسيحيين كثيرين في يومنا».
وقد دفعه ولعه بالكلاسيكيات وأهمية التوفيق بين الفكر الكلاسيكي والدين إلى الاصطدام النسبي مع الكنيسة، خصوصاً بعد أن صب رفضه على سلوك الكنيسة، التي خرجت عن أصل الرسالة المسيحية ممثلة في رسائل السيد المسيح الداعية إلى البساطة والإيمان والمحبة ونبذ المادة لصالح الروح، فانغمست في ترف الحياة المادية وأصبحت مؤسسة الكنيسة ذاتها تتعارض وأهداف المسيحية. ومع ذلك آمن بضرورة الإصلاح وليس الانفصال عن الكنيسة، مشدداً على أن الروح المسيحية لا يجب أن تتفتت بالاختلافات المذهبية. وكان ذلك سبباً في معارضته الشديدة لحركة الإصلاح الديني فدخل في صراعات فكرية عنيفة ضد لوثر مؤسس هذه الحركة، وكان الاختلاف الأساسي مرتبطاً بقضية تكاد تكون مشتركة في كل الأديان، وهي مسألة التسيير والتخيير، فلقد اتخذ لوثر موقفاً متشدداً داعماً للتسيير، وأن الخلاص منحة من السيد المسيح فقط، بينما أصر إيراسموس على أن هذه قضية فلسفية تفوق قدراتنا العقلية المجردة على فهمهما، وبالتالي مع الإيمان بالتسيير المرتبط بقدرة الله سبحانه وتعالى، فإن هذا لا يستوجب إخراج المسؤولية الإنسانية من المعادلة مع إيمانه الشديد بأن الطبيعة البشرية قابلة للإصلاح والتهذيب بالعلم والثقافة والفكر مع ضرورة رضا الرب على الإنسان بطبيعة الحال، وهو ما يجب أن يمثل دافعاً للفرد للتقدم منعاً للتواكل الفكري والسلوكي.
لقد ترك لنا إيراسموس سلسلة من الكتبة منها «اداجيس» الذي يعد تجميعاً ممتداً لحِكم الفلاسفة والمفكرين القدامى مع شروحات لكيفية تطبيقها والاستفادة منها بعد مرور القرون، وهو الكتاب الذي ظل يضيف إليه إلى أن وافته المنية، ثم كتب «دليل الفرسان المسيحيين» الذي مثل انتقاداً لاذعاً لأداء وسلوكيات الكنيسة الكاثوليكية وليس العقيدة، ثم كتب رائعته الشهيرة «في تبجيل الحماقة»، التي يجسد فيها الكاتب «الحماقة» على اعتبارها شخصية مسرحية تتحدث عن نفسها طوال الفصول فتجسد الصفات الإنسانية القبيحة مثل الغرور والجشع والأنانية... إلخ، منتقداً من خلالها السلوكيات البشرية في أوروبا من الأمراء إلى الحاشية مروراً لعامة الشعب. ونال المثقفون قدراً لا بأس به من الانتقادات باعتبار أن المسؤولية في قيادة الشعوب فكرياً وسلوكياً تقع على عاتقهم أكثر من غيرهم، كما وجه سهامه لسلطة الكنيسة في إطار كوميدي جعل رسائله أقرب لقلوب المستمعين، وسرعان ما تمت مصادرة كتابه مثل غيره، ولكن كما هي سنة الحياة، فالمصادرة جعلت الكتاب حديث المدن فزادت طبعاته، ثم بعد ذلك أصدر كتابه الشهير «ندوات مألوفة» الذي طُبع منه 24 طبعة.
لقد دشن إيراسموس وحركته الإنسانية تياراً فكرياً يهدف لترسيخ قاعدة أساسية، وهي أن الإنسان هو مركز الكون وهدفه الذي يجب أن يتمركز حوله أي فكر وذلك دون الإخلال بالدين باعتباره جزءاً محورياً في حياته، وهو بذلك لم يخرج عن مناقشة قضايا أساسية لا تقل أهمية اليوم عن خمسة قرون مضت، فسيظل الإنسان هو المحور وسنظل نتساءل إلى متى نعيد اختراع العجلة الفكرية التي اخترعها من سبقونا من المفكرين عبر نهر الحضارة الإنسانية الممتد والجامع للبشرية.