البحث عن مقعد وسط عالم مريض

البحث عن مقعد وسط عالم مريض
TT

البحث عن مقعد وسط عالم مريض

البحث عن مقعد وسط عالم مريض

في طوايا سيرة ذاتية وعوالم تختلط فيها الأحلام بالكوابيس تدور رواية «صداقة مع ابن شقيق فيتغنشتيان» على لسان الكاتب النمساوي توماس برنهارد، في أسلوب سردي ممتلئ بعذوبة إنسانية نادرة، حيث يتقاسم بطولتها معه صديقه باول ابن شقيق الفيلسوف الشهير لودفيغ فيتغنشتاين.
صدرت الترجمة العربية للرواية أخيراً عن دار ممدوح علوان ودار «سرد» للنشر، وأنجز ترجمتها عن الألمانية المُترجم المصري سمير جريس، الذي قام كذلك بكتابة مقدمة عن توماس برنهارد في مطلع الكتاب الذي يقع في 105 صفحات، وقال فيها جريس إن أغلب أعمل برنهارد تدور في فلك واحد: المرض والجنون والموت، وعرّج على مرور مشروع برنهارد ما بين الشعر والنثر والمسرح في البلاد الناطقة بالألمانية، وعندما توفي في الثامنة والخمسين من عمره، كان قد أمسى من أنجح «المهمشين» على ساحة الأدب الألماني.
تفتتح الرواية مشاهدها بوضع إحدى الممرضات الراهبات كتاب برنهارد الصادر «ذهول» على سريره بمستشفى مرضى الرئة، حيث تسلم أول نسخة من كتابه الجديد وهو يخضع للعلاج الشاق في مبنى «هرمان» الذي كان يُطلق عليه «تل حديقة الأشجار»، والذي كانت تفوح منه رائحة الموت الذي ينتظره جميع نزلاء هذا المبنى، ويظل أمل برنهارد مُعلقاً بلقاء صديقه باول الذي علم أنه يرقد على بُعد 200 متر منه، ولكن في مبنى مجاور يطلق عليه مبنى «لودفيغ» أو «الفناء الحجري» المُخصص للأمراض العقلية.
وما بين عالم «هرمان» وعالم «لودفيغ» تتضاعف تأملات برنهارد، وتتسع لعقد مقارنات بين مرضى الرئة ومرضى الجنون، فيُجدد برنهارد عزمه كل صباح لاقتحام مصحة «لودفيغ» كاسراً بذلك القيود التي تمنع عبور نزلاء «منطقة الرئة إلى منطقة العقل أو العكس»، وما بين إقدام وإدبار، تتكشف بين السطور فلسفة توماس برنهارد حول المرض والجنون والفن، وعلاقة المرضى بالأصحاء، وعلاقة الأصحاء بالمرضى، ويوجِد مسارات متوازية حتى في أسباب تلاقي مصيره المرضي مع صديقه، فيقول: «جُنّ باول للسبب نفسه الذي أمرض رئتي».
امتلك الخوف برنهارد مرّات في غمرة تعلقه بفرصة لزيارة صديقه، وصل به أحياناً إلى حد الكابوس، يصف ذلك في الرواية قائلاً: «أحسست أن الباب قد ينفتح في أي لحظة ويدخل باول بملابس المجانين»، هذه الصورة التي كانت تخيفه كثيراً، ويروي على خلفيتها مشاهده عن معاملة مرضى الأمراض العقلية، وعالم الأطباء النفسيين الذين بلغ به حدة وصفه لهم بأنهم «شياطين هذا العصر الحقيقيون». ورغم تلك الكوابيس، تظل رغبته في مقاومة المرض والجنون مقترنة برؤية صديقه ولو لمرة، والتحدث إليه، فهو وحده من يملك مفاتيح فهم الحياة التي يفهمها برنهارد، «من دون باول لم أكن آنذاك أستطيع على الإطلاق التحدث في الموسيقى، ولا عن الفلسفة، أو السياسة أو الرياضيات. عندما كنت أشعر بوجداني يحتضر، لم أكن أحتاج إلى شيء غير زيارة باول، حتى ينتعش، على سبيل المثال، تفكيري في الموسيقى من جديد».
في خضمّ محاولات برنهارد لقاء صديقه نزيل مستشفى الأمراض العقلية، يكشف برنهارد مقاطع من حياة باول، الذي لم تكن تلك هي المرة الأولى التي يُلقى بها في «الفناء الحجري»، فيمر على فترة تمتع فيها باول بالثراء الذي يتبدد حتى يُصبح مُعدماً، ويمر كذلك على علاقته بعمه الفيلسوف، وعلى كلامه الزهيد، وعشقه لأوبرا فيينا كاشفاً الكثير عن إنسانيته. يقول عنه: «كان من المتعصبين للأوبرا، بل لقد ظلّ حتى إفلاسه التام مواظباً على الذهاب إلى الأوبرا يومياً، حتى عندما صبغت المرارة أيامه الأخيرة، ولم تسمح حالته المادية بشراء أكثر من تذكرة تسمح له بالوقوف في آخر البلكون، هذا المريض مرض الموت كان يتحمل الوقوف ست ساعات متصلة لمشاهدة أوبرا تريستان».
الأوبرا والموسيقى هي أبرز مفاتيح فهم علاقة الصداقة بين برنهارد وباول، اللذين جمعتهما صديقة مشتركة وهي «إيرينا» لأول مرة حول نقاش ساخن حول سيمفونية هافنر التي عزفها أوركسترا لندن الفيلهارموني بقيادة شوريشت، ومنذ ذلك النقاش نمت خلال ساعات ومن تلقاء نفسها صداقته لباول الذي كان لا يكفّ عن تذكُّره وهو نزيل مصحة الرئة، ويفصل بينه وبين مصحة باول منظر واحد لا يتغير؛ شجرة صنوبر ضخمة من خلفها شمس تشرق وتغرب، وعشرات المواقف التي يتذكرها لصديقه صاحب الرأس الأوبرالي. وكما تُمثل الموسيقى مفتاحاً رئيسياً لفهم علاقة الصديقين، كان برنهارد مشغولاً بتأمل علاقة الجنون بالفلسفة من خلال بأول، «لا شك أن المجنون باول قد وصل إلى مستوى الفيلسوف لودفيغ. الأول يمثل ذروة مطلقة في الفلسفة وتاريخ الفكر، والثاني يجسد ذروة في تاريخ الجنون».
في بداية الرواية نقرأ وصية بأول، ابن شقيق فيتغنشتاين، لصديقه مؤلف الرواية توماس برنهارد قائلاً: «مائتا صديق سيحضرون دفني ولا بد أن تُلقي أنت على قبري كلمة تأبيني»، وهي وصية تُمهد لعالم باول الذي تشع منه العزلة والوحدة والنسيان، فعلى الرغم من انتمائه إلى عائلة فيتغنشتاين، وهي واحدة من أغنى عائلات النمسا، فإنه بعثر ماله على الفقراء تحديداً، حتى انتهى به الحال مُعدماً وحيداً، ويصبح بالنسبة إلى عائلته مجرد «ابن ضال»، لا تربطه صداقات إلا بالقلائل، بينما لا يثق إلا في صديقه برنهارد الذي كتب له سطور تلك الوصية، حتى انتهى به المطاف في مدافن فيينا، وقبلها ما بين المصحات يرتدي قميص المجانين.
وتعد هذه الرواية من أبرز أعمال برنهارد، واعتبرها الناقد الألماني البارز «مارسيل رايش رانيتسكي» الأكثر عذوبة ودفئاً إنسانياً بين كل ما كتبه برنهارد، ولعل واقعية أحداثها تُضاعف من صدق الحالة النادرة التي تطرحها الرواية بين كاتب ومجنون بالفن والفلسفة، وجسّد لقاؤهما، وهما في قبضة المرض، في مصحتَي الرئة والأمراض العقلية على ذات الجبل، ذروة حالة الصداقة، التي يقول عنها برنهارد: «لو لم نتقابل عام 1967 على جبل فيلهلمينه، لما كنا -ربما- عمّقنا صداقتنا على هذا النحو».


مقالات ذات صلة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

ثقافة وفنون أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية

سحر عبد الله
يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان

انطلاق الدورة الـ19 لـ«البابطين الثقافية» بمضاعفة جوائز الفائزين

وزير الثقافة والإعلام عبد الرحمن المطيري ووزير الخارجية عبد الله اليحيا ورئيس مجلس الأمة السابق مرزوق الغانم وأمين عام «مؤسسة البابطين الثقافية» سعود البابطين وضيوف الدورة الـ19 (الشرق الأوسط)
وزير الثقافة والإعلام عبد الرحمن المطيري ووزير الخارجية عبد الله اليحيا ورئيس مجلس الأمة السابق مرزوق الغانم وأمين عام «مؤسسة البابطين الثقافية» سعود البابطين وضيوف الدورة الـ19 (الشرق الأوسط)
TT

انطلاق الدورة الـ19 لـ«البابطين الثقافية» بمضاعفة جوائز الفائزين

وزير الثقافة والإعلام عبد الرحمن المطيري ووزير الخارجية عبد الله اليحيا ورئيس مجلس الأمة السابق مرزوق الغانم وأمين عام «مؤسسة البابطين الثقافية» سعود البابطين وضيوف الدورة الـ19 (الشرق الأوسط)
وزير الثقافة والإعلام عبد الرحمن المطيري ووزير الخارجية عبد الله اليحيا ورئيس مجلس الأمة السابق مرزوق الغانم وأمين عام «مؤسسة البابطين الثقافية» سعود البابطين وضيوف الدورة الـ19 (الشرق الأوسط)

كرمّت «مؤسسة عبد العزيز سعود البابطين الثقافية»، صباح اليوم (الأحد)، الفائزين بجوائز الدورة الـ19 للجائزة، مع انطلاق هذه الدورة التي حملت اسم مؤسس وراعي الجائزة الراحل عبد العزيز سعود البابطين، تخليداً لإرثه الشعري والثقافي.

وأُقيم الاحتفال الذي رعاه أمير الكويت، الشيخ مشعل الأحمد الصباح، في مركز الشيخ جابر الأحمد الثقافي، بحضور (ممثل أمير البلاد) وزير الإعلام والثقافة وزير الدولة لشؤون الشباب عبد الرحمن المطيري، ومشاركة واسعة من الأدباء والمثقفين والسياسيين والدبلوماسيين وأصحاب الفكر من مختلف أنحاء العالم العربي، كما حضر الحفل أعضاء المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب.

جانب من حضور دورة الشاعر عبد العزيز سعود البابطين (الشرق الأوسط)

وقال وزير الثقافة والإعلام الكويتي، عبد الرحمن المطيري، في كلمته، إن هذا الملتقى «الذي يحمل في طياته عبق الشعر وأريج الكلمة، ليس مجرد احتفالية عابرة، بل هو تأكيد على أن الثقافة هي الروح التي تحيي الأمم، والجسر الذي يعبر بنا نحو مستقبل زاخر بالتسامح والتعايش والمحبة».

وأضاف: «إن لقاءنا اليوم ليس فقط تكريماً لمن أبدعوا الكلمة وشيَّدوا صروح الأدب، بل هو أيضاً دعوة لاستلهام الإرث الثقافي الكبير الذي تركه لنا الشاعر الراحل عبد العزيز سعود البابطين (رحمه الله)، والذي كان، وسيبقى، قامة ثقافية جمعت بين جمال الكلمة وسمو الرسالة... رسالة تُعبِّر عن القيم التي تجمع بين الحضارات. ومن هنا جاءت مبادراته الرائدة، التي عرَّف من خلالها الشرقَ بالشعر العربي، وقدَّم للغرب بُعدَه الإنساني، جاعلاً من الشعر جسراً يربط القلوب، ومفتاحاً للحوار بين الثقافات».

رئيس مجلس أمناء «مؤسسة البابطين الثقافية» سعود البابطين يلقي كلمته في افتتاح الدورة الـ19 (الشرق الأوسط)

في حين قال رئيس مجلس أمناء «مؤسسة البابطين الثقافية»، سعود البابطين، إن هذه الدورة تأتي احتفاءً «بالشعر، فن العرب الأول على مر العصور، وتكريماً للمبدعين والفائزين مِنَ الشعراءِ والنقاد، ووفاءً ومحبة لشاعر هذه الدورة (عبد العزيز البابطين) الذي أخلص في رعاية الشعر العربي وخدمة الثقافة العربية بصدق ودأب وتفانٍ طيلة عمره كله، بلا ملل ولا كلل».

وفي خطوة لافتة، قدَّم رئيس مجلس الأمناء، أمين عام المؤسسة السابق، الكاتب عبد العزيز السريع، الذي رافق مؤسس الجائزة منذ نشأتها، ليتحدث عن ذكرياته مع راعي الجائزة الراحل، والخطوات التي قطعها في تذليل العقبات أمام إنشاء المؤسسة التي ترعى التراث الشعري العربي، وتعمل فيما بعد على بناء جسور التواصل بين الثقافات والحضارات.

وأعلن البابطين، في ختام كلمته عن مضاعفة القيمة المالية للجوائز ابتداءً من هذه الدورة، وفي الدورات المقبلة لـ«جائزة عبد العزيز البابطين».

ونيابة عن الفائزين، تحدَّث الأديب والشاعر الكويتي الدكتور خليفة الوقيان، مشيداً بـ«جهود (مؤسسة البابطين الثقافية) في دعمها اللامحدود للفعل والنشاط الثقافي داخل وخارج الكويت».

وأضاف: «في هذا المحفل الثقافي البهيج، يمرُّ في الذاكرة شريط لقاءات تمَّت منذ 3 عقود، كان فيها الفقيد العزيز الصديق عبد العزيز البابطين يحمل دائماً هَمّ تراجع الاهتمام بالشعر، ويضع اللَّبِنات الأولى لإقامة مؤسسة تُعنى بكل ما من شأنه خدمة ذلك الفن العظيم، ثم ينتقل عمل المؤسسة إلى الأفق الدولي، من خلال ما يُعنى بقضية حوار الثقافات والحضارات».

وألقى الشاعر رجا القحطاني قصيدة عنوانها «إشعاع الكويت»، من أشعار الراحل عبد العزيز البابطين.

يُذكر أن فعاليات الدورة الـ19 مستمرة على مدى 3 أيام، بدءاً من مساء الأحد 15 ديسمبر (كانون الأول) إلى مساء الثلاثاء 17 ديسمبر الحالي. وتقدِّم الدورة على مسرح مكتبة البابطين المركزية للشعر العربي 5 جلسات أدبية، تبدأ بجلسة بعنوان «عبد العزيز البابطين... رؤى وشهادات»، تليها 4 جلسات أدبية يعرض المختصون من خلالها 8 أبحاث عن الشاعر عبد العزيز سعود البابطين المحتَفَى به، و3 أمسيات شعرية ينشد فيها 27 شاعراً.

وزير الثقافة والإعلام عبد الرحمن المطيري ووزير الخارجية عبد الله اليحيا ورئيس مجلس الأمة السابق مرزوق الغانم وأمين عام «مؤسسة البابطين الثقافية» سعود البابطين وضيوف الدورة الـ19 (الشرق الأوسط)

الفائزون:

* الفائز بالجائزة التكريمية للإبداع الشعري الشاعر الدكتور خليفة الوقيان، وقيمة الجائزة 100 ألف دولار.

* الفائزان بجائزة الإبداع في مجال نقد الشعر «مناصفة»، وقيمتها 80 ألف دولار: الدكتور أحمد بوبكر الجوة من تونس، والدكتور وهب أحمد رومية من سوريا.

* الفائزة بجائزة أفضل ديوان شعر، وقيمتها 40 ألف دولار: الشاعرة لطيفة حساني من الجزائر.

* الفائز بجائزة أفضل قصيدة، وقيمتها 20 ألف دولار: الشاعر عبد المنعم العقبي من مصر.

* الفائز بجائزة أفضل ديوان شعر للشعراء الشباب، وقيمتها 20 ألف دولار: الشاعر جعفر حجاوي من فلسطين.