أزمة فنزويلا في نفق التدويل والمواجهة المفتوحة

بين نظام يسيطر على مقاليد السلطة... و«حكم افتراضي» عاجز بمفرده عن التغيير

أزمة فنزويلا في نفق التدويل والمواجهة المفتوحة
TT

أزمة فنزويلا في نفق التدويل والمواجهة المفتوحة

أزمة فنزويلا في نفق التدويل والمواجهة المفتوحة

منذ أكثر من ثلاث سنوات يتقاطر سكّان العاصمة الفنزويلية كاراكاس باكراً كل صباح للوقوف في طوابير طويلة أمام مراكز توزيع «أكياس الطعام» المنتشرة في أنحاء عاصمة البلاد التي تعوم فوق أكبر احتياطي للنفط في العالم ويعاني اقتصادها من شلل شبه تام تحت وطأة تضخّم يومي بنسبة 3% وانهيار شامل للخدمات الاجتماعية والصحية. أكثر من ثلاثة ملايين فنزويلي هاجروا خلال هذه الفترة من البلاد التي كانت لعقود عديدة مقصد المهاجرين من أوروبا والدول المجاورة. في غضون ذلك، كانت فنزويلا تشهد موجات متقطعة من الاحتجاجات الشعبية التي أوقعت مئات القتلى وآلاف الجرحى، وأدّت إلى اعتقال عدد كبير من القيادات السياسية المعارضة أو فرارها إلى الخارج. وفي الوقت ذاته، كان نظام الرئيس اليساري نيكولاس مادورو يُحكِم قبضته على المؤسسات التنفيذية وينجح في تشتيت الأحزاب والقوى المعارضة، إلى أن قررت واشنطن أن الساعة قد أزفت لإنهاء انكفائها الطويل عن التدخّل في الأزمة الفنزويلية ووضعت «كامل ترسانتها الدبلوماسية والاقتصادية»-على حد تعبير الرئيس الأميركي دونالد ترمب- من غير أن تستبعد اللجوء إلى الخيار العسكري، لمنع ظهور «كوبا ثانية» على مرمى حجر من سواحلها.

يوم 23 يناير (كانون الثاني) الماضي وقف شاب في السابعة والثلاثين من عمره يدعى خوان غوايدو أمام مئات الآلاف من مواطنيه الذين كانوا يتظاهرون في كاراكاس، عاصمة فنزويلا، مطالبين بتغيير النظام وتشكيل حكومة انتقالية جديدة، ولم يلبث أن أعلن تولّيه «رئاسة الجمهورية بالوكالة»، داعياً الرئيس اليساري نيكولاس مادورو إلى التنحّي وإنهاء «اغتصاب السلطة».
قبل ذلك اليوم لم يكن العالم قد سمع بهذا السياسي الذي انتخب رئيساً للبرلمان الفنزويلي في الخامس من الشهر الماضي وكان مغموراً حتى داخل فنزويلا. ولم تنقضِ سوى ساعات قليلة على تلك الخطوة حتى كانت الإدارة الأميركية تعلن اعترافها بشرعية «الرئيس الجديد»، وتحثّ الدول الأخرى على تأييده، بعدما كانت دبلوماسية واشنطن قد نشطت لدى حلفائها لدفعهم إلى الاعتراف بالشرعية الجديدة وتعميق عزلة مادورو، الذي كانت دول عدة قد رفضت الاعتراف بشرعية ولايته الثانية كرئيس بعد انتخابات العام الماضي.
أوّل المعترفين بـ«الرئيس الجديد»، بعد الولايات المتحدة، كانت كندا وأستراليا ومعظم الدول الوازنة (التي يحكمها اليمين) في أميركا اللاتينية، باستثناء المكسيك التي أعلنت استعدادها لوساطة انتهت مفاعيلها قبل أن تبدأ في لقاء دعت إليه في أوروغواي وشاركت فيه حفنة من «الدول المحايدة».
وفي المقابل، أعلنت كل من روسيا والصين وتركيا دعمها لمادورو، بينما كان الاتحاد الأوروبي، مدفوعاً من إسبانيا، الدولة الأكثر تأثيراً في المشهد السياسي الفنزويلي، يتعثّر في اتخاذ موقف موحّد من الاعتراف بغوايدو بسبب من امتناع إيطاليا التي تصرّ حكومتها على «رفض التدخّل في الشؤون الداخلية والامتناع عن محاولات تصدير الديمقراطية». وهكذا، خلال أقل من أسبوع واحد، دخلت الأزمة الفنزويلية نفق التدويل والمواجهة المفتوحة بين نظام يسيطر على كل المؤسسات التنفيذية والعسكرية، و«حكومة افتراضية» لا تملك القدرة على تغيير الواقع السياسي داخل البلاد، ويخشى كثيرون أن تكون مجرّد «رأس حربة» أميركية لمغامرة عسكرية جديدة في المنطقة، التي كادت تشعل أول حرب نووية في العالم مطالع ستينات القرن الماضي.

- «خريطة طريق» غوايدو
لا شك في أن الخطوة التي أقدم عليها خوان غوايدو شكّلت نقلة نوعية مهمة في المسار الطويل للأزمة الفنزويلية. وهو يطعن في شرعيّة الولاية الثانية لنيكولاس مادورو، استناداً إلى كون الانتخابات الرئاسية التي أُجريت في مايو (أيار) الماضي لم تستوفِ الشروط القانونية اللازمة ومُنِع معظم أحزاب المعارضة من المشاركة فيها، ولأن مادورو لم يقسم يمين الولاء أمام الجمعية الوطنية-كما ينصّ الدستور- بل أمام جمعيّة تأسيسية شُكّلت أخيراً من مؤيدي النظام ومن غير مشاركة المعارضة. واستند غوايدو في خطوته إلى المادة 233 من الدستور التي تلحظ «تولّي رئيس البرلمان رئاسة الجمهورية في حال شغور المنصب»، مقترحاً «خريطة طريق» من ثلاث مراحل للخروج من الأزمة: إنهاء اغتصاب السلطة، وتشكيل حكومة انتقالية، وإجراء انتخابات عامة ورئاسية حرة ونزيهة بإشراف دولي.
لكن «خريطة الطريق» هذه، وبخاصة المرحلة الأخيرة منها، دونها عقبات كثيرة، وتبدو سباقاً طويلاً أمامه حواجز كبيرة قبل بلوغ الهدف النهائي. غوايدو شخصياً يعترف بأن خطته تحتاج إلى سنة كاملة في الأقل لتنفيذها، ناهيك باستحالة توفير الشروط اللازمة لإجراء انتخابات حرة تؤمِّن انتقال السلطة على أسس ثابتة ومستقرّة في الظروف الراهنة. وهو يدرك أنه لا يسيطر على أيٍّ من مؤسسات السلطة التنفيذية أو القضائية، وبالأخص، المجلس الوطني لمراقبة الانتخابات والمحكمة العليا التي تدين بالولاء الكامل للنظام. ثم إن الانتخابات الحرة تقتضي وجود حكومة جديدة محايدة تشرف عليها، وهذه تستدعي تنحّي مادورو عن الرئاسة، الأمر الذي يبدو مستحيلاً ما دام يتمتّع بدعم المؤسسة العسكرية، التي ردّت أخيراً على تهديدات الرئيس الأميركي دونالد ترمب إذا استمرّت بدعمها للنظام، بقولها «إذا أرادوا عزل مادورو بالقوة، فلن يكون ذلك إلّا فوق جثثنا».
ويُذكر أن المعارضة، إدراكاً منها للدور الحاسم الذي يلعبه الجيش في دعم النظام وبقائه، تسعى منذ فترة لاستمالة القيادات العسكرية وإغرائها بالتخلّي عن مادورو وتأييد الشرعية الجديدة، لكن من دون أن تحقق أي نتيجة حتى الآن. ولقد أعلن غوايدو عن «خطة» للعفو الجنائي والإداري والمسلكي تشمل كل الضبّاط الذين يعلنون ولاءهم للشرعية الجديدة، وشنت المعارضة حملة واسعة في أوساط القوات المسلحة والثكنات العسكرية لشرح «خطة العفو»، من غير أن تثمر جهودها عن أي نتيجة. أيضاً، راهنت، لاختبار ولاء المؤسسة العسكرية، على المساعدات الإنسانية لتوزيعها على المواطنين الذين يعانون من نقصٍ حادٍ في الأدوية والمواد الغذائية الأساسية. إلا أنه حتى الساعة ما زالت هذه المساعدات تتكدّس على الحدود الكولومبية التي تحوّلت إلى «جبهة» مواجهة بين النظام-الذي أوفد إليها القوات الخاصة التي يضمن ولاءها كي تمنع دخول المساعدات بالقوة- والمعارضة... التي تحشد مئات الآلاف من المواطنين لتوزيعها رغم رفض النظام.

- شكوك أوروبية
جدير بالذكر أنه بعد فشل وساطة المكسيك وارتفاع حدة المواقف التصعيدية من واشنطن والنظام الفنزويلي، ازداد القلق في عدد من العواصم الأوروبية من الجنوح إلى الحل العسكري «بعدما باتت هذه الأزمة إحدى الأوراق المفضّلة لدى الرئيس الأميركي للتخفيف من الضغوط التي يتعرّض لها على الجبهة الداخلية»، كما جاء على لسان مسؤول أوروبي رفيع، وبعدما بدأت المعارضة الفنزويلية تفقد الأمل في تصديع الجبهة العسكرية الداعمة للنظام.
وفي الأيام الأخيرة اتجهت أنظار المتخوّفين من نشوب حرب أهلية مفتوحة، أو مواجهة عسكرية جديدة في أميركا اللاتينية، إلى الفاتيكان بعدما كان مادورو قد وجّه رسالة إلى البابا فرنسيس يطلب منه التوسط لحل الأزمة. والمعروف أن البابا، وهو يسوعي أرجنتيني قريب من حركة «لاهوت التحرّر» (الميّالة إلى اليسار) التي نشطت في أميركا اللاتينية إبّان ثمانينات القرن الماضي، يتعاطف مع المبادئ الأساسية التي قام عليها النظام الاجتماعي للحركة «التشافيزية»، وله يعود الفضل الكبير في المصالحة التاريخية بين كوبا والولايات المتحدة واستئناف العلاقات الدبلوماسية بينهما في أواخر الولاية الثانية للرئيس الأميركي السابق باراك أوباما. ويذكر أن الوزير الحالي لخارجية الفاتيكان، الكاردينال بيترو بارولين، سبق له أن كان قاصداً رسوليّاً في كاراكاس، وهو مطّلع عن كثب على تطورات الأزمة الفنزويلية.
إلا أن التسريبات الأخيرة لمضمون الرسالة التي ردّ بها البابا فرنسيس على مادورو، ونشرتها إحدى الصحف الإيطالية القريبة من الفاتيكان، قضت على آمال الوساطة التي كان البعض يعوّل على الكنيسة الكاثوليكية كي تقوم بها، ولا سيما بعد تعرّض موقف الفاتيكان لانتقادات كثيرة لرفضه الاعتراف بـ«شرعيّة» غوايدو. وتضمنت الرسالة انتقادات للنظام الفنزويلي لعدم وفائه بالالتزامات والاتفاقات التي سبق التوصّل إليها في المفاوضات التي رعاها الفاتيكان في الجمهورية الدومينيكية بين الطرفين عام 2016.

- الدور المحتمل لـ«يسار» المعارضة
في هذه الأثناء، تنشط الدبلوماسية الأوروبية بعيداً عن الأضواء، بالتنسيق مع الدائرة السياسية في الأمم المتحدة، لتقليص المسافة الفاصلة بين المعارضة اليسارية الفنزويلية التي ترفض تبنّي «خريطة الطريق» الأميركية للخروج من الأزمة، والمعارضة اليمينية التقليدية التي تتحرك ووفق توجيهات واشنطن. ونقطة الانطلاق التوافق على أن حل الأزمة سياسياً يمرّ عبر تفاهم هذين الجانبين على «خريطة طريق» مشتركة لانتقال السلطة ومنع الانجرار إلى مواجهة عسكرية بدأت طبولها تُقرع بقوة أخيراً.
وفي هذا الصدد نذكر أن عدداً من الوزراء وكبار المسؤولين السياسيين السابقين، الذين كانوا مقرّبين من الرئيس الفنزويلي السابق الراحل هوغو تشافيز، ورافقوا خلفه مادورو في مستهلّ ولايته الأولى، فتحوا أخيراً ثغرة للحوار مع رئيس البرلمان لعرض تصورّهم لمرحلة انتقال السلطة السياسية. وأكدوا تأييدهم لإنهاء حكم مادورو مقابل رفضهم الدور الأميركي الذي يوجّه مسار التطورات في الظرف الراهن. وتضمّ هذه المجموعة، المنضوية تحت اسم «منصّة الدفاع عن الدستور»، وزراء سابقين للتربية والتعليم الجامعي والمال والتجارة والخارجية والاقتصاد، إلى جانب عدد من السفراء السابقين وأعضاء مجلس قيادة الحزب الاشتراكي.
هؤلاء ما زالوا يرفضون الاعتراف بـ«شرعية» غوايدو، مع قبولهم به «طرفاً محاوراً شرعيّاً ورئيساً للبرلمان». ويعتبرون أن «مادورو وأد المشروع السياسي الذي وضعه هوغو تشافيز»-على حد قول غوستافو ماركيز، الذي كان مستشاراً سياسياً مقرّباً من تشافيز لسنوات. ويقول ماركيز: «غوايدو يتمتّع بشرعيّة أكثر من مادورو، لكن الاعتراف السياسي بهذه الشرعية لا بد أن يكون عبر صناديق الاقتراع. مادورو يحكم البلاد خارج نطاق الدستور منذ عام 2016، ونحن نسعى منذ سنوات لعزله... ولكن ليس بأي شكل أو ثمن. لذا نرفض كليّاً التدخّل الخارجي. والطريق الذي رسمته الإدارة الأميركية للمعارضة التقليدية ليس مقبولاً بالنسبة إلينا».
من هنا، لم يعد خافياً على المتابعين عن كثب للأزمة الفنزويلية أن دور واشنطن، الذي كان حيويّاً في إخراجها من الركود الذي كانت تعاني منه طوال سنوات، بات مصدر إحراج بالنسبة إلى المعارضة التي تجهد لتنظيم صفوفها وتحركاتها الشعبية منذ فترة طويلة، وصار عائقاً في وجه انفتاحها على الجناح التشافيزي المنشقّ عن مادورو، والذي يعتبر كثيرون أن التعاون والاتفاق معه على خطة مشتركة هو بداية النهاية لنظام مادورو.

- تساؤلات تواكب الانهيار الاجتماعي الكبير
بينما تغرق فنزويلا في حال غير مسبوق من الانهيار الاجتماعي، تؤكد المنظمات الدولية أن ربع مليون شخص مهدّدون بالموت لنقص الأدوية اللازمة لعلاجهم أو تعذّر حصولهم على المواد الغذائية الأساسية. ويضرب المحللون أخماساً بأسداس للإجابة عن التساؤلات التي تدور حولها المخارج المحتملة لهذه الأزمة:
- هل سيصمد ولاء القيادات العسكرية أمام إغراءات المعارضة وتهديدات الولايات المتحدة؟
- ما احتمالات نجاح التمرّد العسكري في صفوف الضبّاط الصغار الذي ما زالت تراهن عليه المعارضة سرّاً؟
- هل بإمكان الجيش، والرئيس نيكولاس مادورو، الصمود طويلاً في وجه الاحتجاجات الشعبية المتواصلة... تحت وطـأة العقوبات الاقتصادية الأخيرة التي تنذر بتجفيف المنابع النقدية للنظام؟
- هل أو متى، سيقرر الرئيس الأميركي دونالد ترمب، ومعه فريق «الصقور» الذي يمسك بمفاتيح السياسية الخارجية في واشنطن، ركوب مغامرة عسكرية جديدة في الحديقة الخلفية لواشنطن؟
- هل أو متى، سيقف خوان غوايدو أمام مواطنيه ليقول هذه المرة: استنفدنا كل السبل لحل الأزمة بالطرق السلمية... ولم يعد أمامنا سوى الخيار العسكري؟



أميركا اللاتينية منقسمة إزاء التعايش مع ترمب «العائد»

الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
TT

أميركا اللاتينية منقسمة إزاء التعايش مع ترمب «العائد»

الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)

من شائع القول، أن الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة يجب أن تكون مفتوحة لمشاركة جميع سكان العالم، لما لنتائجها من تأثير سياسي واقتصادي وأمني على الصعيد الدولي الواسع. لكن مما لا شك فيه أن أميركا اللاتينية التي تعد «الحديقة الخلفية» لواشنطن، والتي طالما كان ليد الإدارات الأميركية الطولى وأجهزة استخباراتها الدور الحاسم في تحديد خياراتها السياسية والاقتصادية، هي الأشد تأثراً بوجهة الرياح التي تهبّ من البيت الأبيض. «الصوت اللاتيني» كان هذه المرة موضع منافسة محتدمة بين الجمهوريين والديمقراطيين خلال الحملة الانتخابية، وكان راجحاً في كفّة المرشح الفائز، كما دلّ على أهميته قرار الرئيس العائد دونالد ترمب اختيار منافسه في الانتخابات الأولية، السيناتور الكوبي الأصل ماركو روبيو، لمنصب وزير الخارجية في الإدارة الجديدة. إلا أن ردود الفعل في بلدان أميركا اللاتينية على فوز دونالد ترمب بولاية رئاسية ثانية، جاءت متفاوتة ومتأرجحة بين القلق الدفين في أوساط الأنظمة اليسارية والتقدمية، والابتهاج الظاهر بين الحكومات والأحزاب المحافظة واليمينية المتطرفة.

أول المحتفلين بفوز الرئيس دونالد ترمب والمُنتشين لعودته إلى البيت الأبيض كان الرئيس الأرجنتيني اليميني المتطرف خافيير مَيلي الذي سارع، بعد أسبوع من إعلان الفوز، لملاقاته في مقره بولاية فلوريدا حيث أعرب له عن «استعداد الأرجنتين الكامل لمساعدته على تنفيذ برنامجه».

أيضاَ، المعارضة البرازيلية التي يقودها الرئيس اليميني المتطرف السابق جايير بولسونارو - الذي يخضع حالياً للمحاكمة بتهمة التحريض على قلب نظام الحكم وهو ممنوع من السفر خارج البلاد - لم تكن أقل ابتهاجاً من الرئيس الأرجنتيني أو المعارضة الفنزويلية التي عادت لتعقد الآمال مجدّداً على رفع منسوب الضغط الأميركي على نظام نيكولاس مادورو اليساري في فنزويلا والدفع باتجاه تغيير المعادلة السياسية لصالحها.

حذر في المكسيك

في المقابل، حاولت السلطات المكسيكية من جهتها إبداء موقف حذر على الرغم المخاوف التي تساورها من أن يفي الرئيس الأميركي العائد بالوعود التي قطعها خلال الحملة الانتخابية حول الهجرة والتجارة ومكافحة المخدرات، والتي تجعل من المكسيك أكثر بلدان المنطقة تعرّضاً لتداعيات السياسة الشعبوية المتشددة التي ستتبعها إدارته الثانية اعتباراً من العام المقبل. ومعلوم أن ترمب كان قد جعل من بناء «الجدار» على الحدود الفاصلة بين المكسيك والولايات المتحدة عنواناً لحملته الانتخابية الأولى وأحد ركائز حملته الثانية، إلى جانب خطابه العنصري المناهض للمهاجرين المكسيكيين الذين يشكلون الغالبية الساحقة من المهاجرين اللاتينيين إلى الولايات المتحدة. كذلك، كان ترمب قد هدد الرئيسة المكسيكية الاشتراكية الجديدة كلاوديا شاينباوم بفرض رسوم جمركية بنسبة 25 في المائة على السلع المستوردة من المكسيك ما لم تمنع تدفق المهاجرين من أميركا الوسطى إلى الولايات المتحدة عبر أراضي المكسيك.

الرئيسة شاينباوم قلّلت من شأن تهديدات ترمب، وقالت إن بلادها - كالعادة - «ستتمكن من تجاوز الأزمة»، لكن لا أحد يشك في أن الدولة المرشحة لأكبر قدر من الضرر جرّاء عودة ترمب إلى البيت الأبيض هي المكسيك، أولاً نظراً لكونها الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة، وثانياً لأن العلاقات بين البلدين المتجاورين هي أشبه بزواج لا طلاق فيه.

من جهة ثانية، كان لافتاً أن سوق المال (البورصة) المكسيكية لم تتعرّض لأي اهتزازات تذكر بعد إعلان فوز ترمب، خلافاً لما حصل بعد فوزه بالولاية الأولى عام 2016. وهو ما يدلّ على التأقلم مع أسلوبه والتكيّف معه، وأيضاً على متانة «اتفاقية التجارة الحرة» بين المكسيك وكندا والولايات المتحدة كإطار يحكم المبادلات التجارية بين البلدان الثلاثة.

المشهد البرازيلي

في البرازيل، كما سبقت الإشارة، كان الرئيس السابق جايير بولسونارو بين أوائل المهنئين بفوز دونالد ترمب. إذ أعرب عن ابتهاجه لهذا «النصر الأسطوري الذي منّ به الله تعالى على الولايات المتحدة والعالم»، في حين اكتفت حكومة الرئيس الحالي اليساري الحالي لويس إيناسيو (لولا) بالطقوس الدبلوماسية المألوفة، بعدما كان «لولا» قد أعلن صراحة دعمه لمرشحة الحزب الديمقراطي نائبة الرئيس المودّعة كمالا هاريس.

أكثر من هذا، تابع إدواردو بولسونارو، نجل الرئيس السابق والعضو في مجلس النواب البرازيلي، عملية فرز نتائج الانتخابات الأميركية في منزل ترمب بفلوريدا، حيث صرّح بعد إعلان الفوز: «ها نحن اليوم نشهد على قيامة مقاتل حقيقي يجسد انتصار الإرادة الشعبية على فلول النخب التي تحتقر قيمنا ومعتقداتنا وتقاليدنا». وبالمناسبة، لا يزال بولسونارو «الأب» عازماً على الترشّح للانتخابات الرئاسية البرازيلية في عام 2026. على الرغم من صدور حكم قضائي مُبرم يجرّده من حقوقه السياسية حتى عام 2030 بتهمة سوء استخدام السلطة والتحريض على الانقلاب.

بالتوازي، كان «لولا» قد تعرّض للانتقاد بسبب تأييده الصريح لهاريس، الذي ضيّق كثيراً هامش المناورة أمامه بعد هزيمتها. لكنه علّق بعد تهنئته ترمب: «الديمقراطية هي صوت الشعب الذي يجب احترامه».

اليوم يعتقد أنصار بولسونارو أن المشهد السياسي الأميركي الجديد، والدور الوازن الذي يلعبه الملياردير إيلون ماسك داخل إدارة ترمب، قد يشكّلان ضغطاً على الكونغرس البرازيلي والمحكمة العليا لإصدار عفو عن الرئيس البرازيلي السابق يتيح له الترشح في انتخابات عام 2026 الرئاسية. أما على الصعيد الاقتصادي، فتخشى البرازيل، في حال قرّر ترمب رفع الرسوم الجمركية وفرض إجراءات حمائية، خفض صادراتها إلى الولايات المتحدة وتراجعاً في قيمة موادها الخام. كذلك، من شأن إغلاق السوق الأميركية أمام السلع الصينية أن يؤدي إلى خفض الطلب على المواد الخام التي تشكّل عماد المبادلات التجارية البرازيلية. أما على الصعيد البيئي، فقد حذرت وزيرة البيئة البرازيلية مارينا سيلفا من أن الأسرة الدولية ستكون مضطرة لمضاعفة جهودها للحد من تداعيات أزمة المناخ إذا قرر ترمب المضي في تنفيذ سياساته البيئية السلبية المعلنة.

مَيلي متحمّس ومرتاح

الرئيس الأرجنتيني خافيير مَيلي، من جانبه، احتفى بفوز ترمب على وسائل التواصل الاجتماعي، وتعهد بالتعاون مع إدارته لتنفيذ برنامجه الانتخابي، معوّلاً على استثمارات أميركية ضخمة في القطاعات الإنتاجية الأرجنتينية. وانضمّ أيضاً إلى «التهاني» من معسكر اليمين الأرجنتيني الرئيس الأسبق ماوريسيو ماكري، الذي يشارك حزبه المحافظ في حكومة مَيلي الائتلافية، والذي سبق أن كان شريكاً لترمب في صفقات عقارية في الولايات المتحدة.

يُذكر أن ترمب كان قد لعب دوراً حاسماً في منح صندوق النقد الدولي قرضاً للأرجنتين بقيمة 44 مليار دولار أميركي عام 2018 ما زالت عاجزة عن سداده. وفي حين يأمل مَيلي بأن تساعده الإدارة الأميركية الجديدة بالحصول على قرض جديد من صندوق النقد يحتاج إليه الاقتصاد الأرجنتيني بشدة للخروج من أزمته الخانقة، فإنه يعرف جيداً أن ترمب سيكون بجانبه في «الحرب الثقافية» التي أعلنها على اليسار الدولي وأجندته التقدمية.

فنزويلا وكوبا

في الدول الأميركية اللاتينية الأخرى، علّق إدموندو غونزاليس أوروتيا، مرشح المعارضة في الانتخابات الرئاسية الفنزويلية - المنفي حالياً في إسبانيا والذي تدلّ كل المؤشرات على فوزه - علَّق على فوز ترمب بوصفه هو أيضاً الفائز الذي اعترفت به دول عدة بينها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، فقال: «هذه إرادة الشعب الأميركي وأهمية التناوب على الحكم».

أما زعيمة المعارضة ماريا كورينا ماتشادو، التي اضطرت للتنازل عن ترشيحها لصالح غونزاليس بعدما جرّدها القضاء من حقوقها السياسية - فقد هنأت ترمب بقولها: «نعرف أنك كنت عوناً لنا دائماً، والحكومة الديمقراطية التي اختارها الشعب الفنزويلي ستكون حليفاً موثوقاً لإدارتك».

من الجانب الآخر، اختارت الحكومة الفنزويلية اليسارية التزام الحذر في تعليقها الأول على فوز ترمب، وجاء في تهنئتها البروتوكولية: «نوجه التهنئة لشعب الولايات المتحدة على هذه الانتخابات. إن فنزويلا على استعداد دائماً لإقامة علاقات مع الإدارات الأميركية في إطار الحوار والرشد والاحترام». وأضاف البيان الذي صدر عن الرئاسة الفنزويلية مستحضراً خطابه المعهود: «إن الاعتراف بسيادة الشعوب وحقها في تقرير مصيرها هو الأساس لقيام عالم جديد يسوده التوازن بين الدول الحرة»، في إشارة إلى المفاوضات المتعثّرة منذ سنوات بين واشنطن وكاراكاس لإيجاد مخرج من الأزمة الفنزويلية التي تمرّ اليوم بأكثر مراحلها تعقيداً. وهنا تجدر الإشارة إلى أن ترمب كان قد فرض إبان ولايته الرئاسية الأولى ما يزيد عن مائة عقوبة على فنزويلا، وانتقد بشدة قرارات إدارة بايدن برفع بعضها. غير أنه ليس واضحاً بعد كيف ستكون مقاربته لهذا الملف، خاصة، أن فنزويلا يمكن أن تساعد على تلبية الاحتياجات الأميركية من الطاقة في ظروف دولية معاكسة بسبب الحرب في أوكرانيا والاضطرابات في الشرق الأوسط.

وبما يخصّ كوبا، تحمل ولاية ترمب الثانية في البيت الأبيض معها أيضاً «سحباً سوداء» فوق كوبا التي تتوقع تشديد العقوبات والمزيد منها. وكان ترمب قد حطّم جميع الأرقام القياسية في العقوبات التي فرضها على النظام الكوبي، وأدرجها على قائمة «الدول الراعية للإرهاب»، الأمر الذي يضفي صعوبات جمّة على علاقات الدولة الكوبية المالية مع الخارج. ويلفت أن الحكومة الكوبية - حتى كتابة هذه السطور - لم تعلّق بعد على فوز دونالد ترمب بولاية ثانية.

تحمل ولاية ترمب الثانية في البيت الأبيض

معها «سحباً سوداء» فوق كوبا

التي تتوقع تشديد العقوبات

الرئيس المكسيكية الاشتراكية كلاوديا شاينباوم (رويترز)

كولومبيا تثير موضوع غزة

كولومبيا أيضاً يسود فيها الترقّب الحذر لمعرفة الوجهة التي ستسير بها العلاقات بين ترمب والرئيس الكولومبي اليساري غوستافو بترو اللذين لا يجمع بينهما أي رابط شخصي أو عقائدي. بيد أن هذا لم يمنع بترو من توجيه رسالة تهنئة إلى الرئيس الأميركي العائد لعلها الأكثر صراحة في مضمونها السياسي والمواضيع التي ستتمحور حولها علاقات المعسكر التقدمي في أميركا اللاتينية مع الإدارة الأميركية اليمينية المتشددة الجديدة. وجاء في رسالة بترو: «إن السبيل الوحيد لإغلاق الحدود يمرّ عبر ازدهار بلدان الجنوب وإنهاء الحصار»، في إشارة واضحة إلى العقوبات الأميركية المفروضة على فنزويلا وكوبا. ثم تناولت الرسالة موضوع غزة، الذي يستأثر باهتمام كبير لدى الرئيس الكولومبي، وأوردت: «الخيار التقدمي في الولايات المتحدة لا يمكن أن يقبل بالإبادة التي تتعرّض لها غزة».

باقي اليمين يرحب

في المقابل، اكتفت رئيسة البيرو، دينا بولوارتي، التي منذ سنة لا تتمتع بتأييد سوى 8 في المائة من مواطنيها، بتوجيه رسالة تهنئة «للمرشح دونالد ترمب على فوزه في الانتخابات الديمقراطية التي أجريت في الولايات المتحدة»، بينما غرّد دانيال نوبوا، رئيس الإكوادور اليميني الذي تشهد بلاده أزمة سياسية وأمنية عميقة منذ أشهر، على حسابه مرحباً: «مستقبل زاهر ينتظر قارتنا بفوز دونالد ترمب».

وفي تشيلي - التي يحكمها اليسار - كان أول المهنئين خوسيه أنطونيو كاست، زعيم الحزب الجمهوري اليميني المتطرف الذي يطمح للفوز في الانتخابات الرئاسية العام المقبل. وفي المقلب الآخر، على الصعيد الرسمي بادر وزير الخارجية التشيلي ألبرتو فان كلافيرين إلى التهنئة المبكرة قائلاً: «نتيجة الانتخابات كانت واضحة وكاشفة على أكثر من صعيد. نقيم علاقة دولة مع الولايات المتحدة، والعلاقات هي بين الدول، ونطمح لأفضلها مع حكومة الرئيس ترمب الجديدة». أما الرئيس التشيلي اليساري غابريل بوريتش، الذي كان آخر المهنئين بين زعماء المنطقة، فجاء في رسالته: «تؤكد تشيلي التزامها توطيد العلاقات مع الولايات المتحدة من أجل تحقيق تنمية شاملة، واحترام حقوق الإنسان والعناية بالديمقراطية».

 

حقائق

واقع العلاقات والمخاوف في أميركا الوسطى

في أميركا الوسطى، وتحديداً السلفادور، وعلى الرغم من العلاقات الجيدة التي تربط رئيسها نجيب أبو كيلة (الفلسطيني الأصل) مع دونالد ترمب، كما تَبيّن خلال الولاية الأولى للرئيس الأميركي المنتخب، فإن ثمة مخاوف ملموسة من التهديدات التي أطلقها ترمب خلال حملته الانتخابية بطرد جماعي للمهاجرين غير الشرعيين. للعلم، فإن ملايين من مواطني السلفادور يعيشون في الولايات المتحدة بصورة غير شرعية، ويُشكِّلون مصدر الدعم الاقتصادي الأساسي لعائلاتهم في وطنهم الأم. وحقاً تعدّ تحويلات المهاجرين الواردة من الولايات المتحدة المحرّك الرئيسي لاقتصاد السلفادور، إذ بلغت في العام الماضي ما يزيد على 5 مليارات دولار.وراهناً، يسود الاعتقاد بين المراقبين الأميركيين اللاتينيين - على امتداد القارة - بأن دونالد ترمب، الذي استطاع خلال 8 سنوات أن يهدم المجتمع الأميركي ويعيد تشكيله على مزاجه وهواه، يشكّل اليوم - في أحسن الأحوال - مصدر قلق عميق بالنسبة لبلدان المنطقة. ويتوقع هؤلاء أن تكون التداعيات المحتملة لولايته مرهونةً بأمرين: الأول، مدى اعتماد هذه البلدان سياسياً واقتصادياً على الولايات المتحدة. والثاني، أين سيكون موقع أميركا اللاتينية بين أولويات السياسة عند الإدارة الجديدة في واشنطن.