نيتشه.. الرقص «معرفة مرحة»!

شخصيات اعتبرت الحياة نضالا من أجل الأذواق والألوان

نيتشه
نيتشه
TT

نيتشه.. الرقص «معرفة مرحة»!

نيتشه
نيتشه

يعتبر فريدريك نيتشه «15 أكتوبر (تشرين الأول) 1844 - 25 أغسطس (آب) 1900» المنعطف الأساسي للفلسفة في العصر الحديث، ذلك أن المفاهيم التي نحتها، والصيغ التي طرحها، والأرض التي حرثها بمطرقة (الجينالوجيا) كانت مدوّية. ورغم التجاهل الذي عانى منه في حياته، غير أن ما فعله فلسفيا لا يزال فعّالا في مدارس الفلسفة ومناهجها حتى الآن. منذ (التقويض) الهيدغري، ومن ثم فلسفات (الاختلاف) والمفاهيم المرتبطة بفلسفات الحداثة البعدية، ومن التفكيك إلى الأركيولوجيا، وصولا إلى دقائق التفصيل ونضج مفهوم «التجاوز» في القرن العشرين.
تشعّبت تداخلات نصوص نيتشه، بين علم النفس، والشعر، والموسيقى، والجمال، والأخلاق، والفلسفة اليونانية، وفلسفات عصره، وفقه اللغة (الفيللوجيا) الذي اعتنى به مبكّرا، حتى تدخّلت النص النيتشوي في التأثير على الرياضة والفنون والسينما، والموسيقى.
في هذه المساحة سأتناول - فقط - جزئية من الرؤية الفنيّة النيتشوية، وتحديدا فلسفة (الرقص) التي تناولها بمؤلفاته، وأهمها كتابه الأساسي (هكذا تكلم زرادشت).
تقوم فلسفة نيتشه على تغليب الجسد ليكون مركزا في تفاعل الإنسان مع وجوده، وهو يعتبر معاني الجسد يجب أن تعبّر عن القوة والصحة والسلامة. ارتبطت فلسفته بالجسد وإنصافه، وكان أن طرح مفهوم الرقص ليعبر عن «الإنسان القوي» وعن «معرفة الوجود المرحة» والتي نادى بها زرادشت. ولأن «زرادشت» هو (الإنسان الأعلى) والمعبر عنها في فلسفة نيتشه - كما يقول هيدغر في دراسته التي تصنّف على أنها الأهم حول فلسفة نيتشه، تليها دراسة جيل دلوز عن نيتشه - ولأن زرادشت كذلك فقد نادى من الأعالي من الجبال: «إن الجسد السليم، يتكلم بكل إخلاصٍ وبكل صفاء، فهو كالدعامة المربعة من الرأس حتى القدم، وليس بيانه إلا إفصاحا عن معنى الأرض. ما الجسد إلا مجموعة آلات مؤتلفة للعقل. إن ما يجب أن أومن به يجب أن يكون راقصا».
الرقص لديه هو عنفوان الإنسان، والتحدي لرتابة إيقاع الوجود. الرقص تنويع على إيقاع الوجود وتجاوز له، ذلك أن الإنسان يجب أن يهيمن على الغابات وعلى الجبال وأن يصطاد فرائسه بالنسور، وأن يلعب الأفعى بيده، وأن يبحث عن الخطر ليلجه. الرقص منذر بالخطر، ذلك أن الأقدام الرشيقة التي ترقص، هي الأقدام التي تجرّ الجيش، وتقرع طبول الحرب.
يمر زرادشت بالغابة، ومعه صحبه، وهو يفتش عن ينبوعٍ بين الأشجار والأدغال، وكان هناك رهط من الصبايا يرقصن بعيدا عن أعين الرقباء، وإذا لمحْن القادم توقفن عن الرقص، ولكن زرادشت اقترب منهن قائلا: «داومن على رقصكنّ، أيتها الآنسات الجميلات، فما القادم بمزعجٍ للفرحين، وما هو بعدو الصبايا. فهل يسعني أن أكون عدوا، لما فيكنّ من بهاءٍ ورشاقة وخفة روح. وهل لي أن أكون عدوا للرقص الذي ترسمه هذه الأقدام الضوامر الرشيقات؟».
الرقص التعبير الناصع عن قوة الإرادة، وعن «العود الأبدي» المفهوم النيتشوي العتيد. يهتف: «ما أنا بالمعبر عن أسمى المعاني بالرموز، إلا عندما أدور راقصا، لذلك عجزت أعضائي عن رسم أروع الرموز بحركاتها. وطمحت يوما إلى الرقص متعاليا بفنّي إلى ما وراء السبع الطباق». ينطلق نيتشه في فلسفة الرقص إلى مفهوم الإرادة الرئيسي لديه الذي يؤكد على أن: «لا إرادة إلا حيث تتجلى الحياة».
الحياة شرط للإرادة، وهو بهذا يتجاوز «تشاؤمية» شبنهور التي تضرب عن الوجود وتعتبره خطأ وتنظر إليه بالرؤية «الآسيانية» وهي رؤية تأثر بها نيتشه في شبابه غير أنه سرعان ما تجاوزها بنظرية «إرادة القوة» والإرادة لا توجد من دون حياة، والمعرفة شرطها أن تكون «فرحة».
في مجمل تحليلات نيتشه في الفنون والموسيقى الكلاسيكية وللرقص يربطها بالجسدانية، وبالإرادة، ذلك أن: «الحياة بأسرها هي نضال من أجل الأذواق والألوان، فويلٌ لكل حي يريد أن يعيش دون نضالٍ من أجل الموزونات والموازين والوازنين». الذوق والألوان والمسائل الفنية جزء من إرادة الإنسان الحي، وهي التي تميّز الإنسان الأعلى عن الإنسان الأدنى.
بالتعبير الجسدي الراقص تتجلى الأنانيّة الواضحة بوصفها «الفضيلة» في الرؤية النيتشوية. يكتب عن هذا: «ما الجسم المرن الذي ينطوي على قوة الإقناع إلا كالراقص الذي يرمز بحركاته عن مسرة نفسه، وهل المرح الأناني في مثل هذه الأرواح والأجساد إلا الفضيلة بعينها». تتجاوز رمزية الرقص وتعابيرها موضوع الإرادة لتصل إلى الأنانية الذاتية، والرقص في الظلمة تضيء الحكمة، إذ تبدو وامضة كأشباح الليل. ما يريده نيتشه من الإنسان: «من الرجل والمرأة أن يكونا أهلا للكفاح، وأن تكون المرأة أهلا للولادة، وأن يكونا أهلا للرقص». ثم يهتف: «لنعدّ كل يومٍ يمر بنا من دون أن نرقص فيه ولو مرة واحدة يوما مفقودا، ولنعتبر كل حقيقة لا تستدعي ولو قهقهة ضحكٍ بيانا باطلا».
لم تنفصل رؤية نيتشه في الرقص عن الخيوط الأساسية التي تنتظم فلسفته المتشعّبة على طريقة «الدروب المتعددة»، فلسفة نيتشه تنتظم من خلال فوضاها، جامعها «المطرقة» التي يحرث بها الأرض اليباب. كتب عن نفسه: «أعرف قدري، ذات يومٍ سيقترن اسمي بذكرى شيءٍ هائل، رهيب، بأزمة لم يعرف لها مثيل على وجه الأرض، أعمق رجة في الوعي، فأنا لستُ إنسانا بل عبوة ديناميت».



الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي الراحل كمال سبتي

الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي الراحل كمال سبتي
TT

الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي الراحل كمال سبتي

الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي الراحل كمال سبتي

تصدر قريباً الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي كمال سبتي (1955 - 2006)، أحد أهم شعراء ما عُرف بجيل السبعينات في العراق. متضمنة ثمانية دواوين، مستهلةً بديوان «وردة البحر ـ 1980»، ومختتمةً بـ«صبراً قالت الطبائع الأربع ـ 2006». هنا نص مقدمة هذه الأعمال التي ستصدر عن «دار جبرا للنشر والتوزيع ـ الأردن»، وبالتعاون مع «دار النخبة للتأليف والترجمة والنشر - لبنان».

وقد كتب مقدمة المجموعة الكاملة الشاعر العراقي باسم المرعبي، التي جاءت بعنوان «كمال سبتي... المرافعة عن الشعر» ويقول فيها:

«يحتاج شعر كمال سبتي، بالمجمل، إلى جَلَد عند قراءته، فهو على نقيض الكثير مما هو شائع من تقنيات شعرية تعتمد البساطة والعفوية والمباشرة، مع عدم تسفيه هذه النزعات الأسلوبية، طالما أن الشعر كقيمة وجوهر يبقى مُصاناً، غير منتهَك به. على أنّ إشاحة الشاعر عن مثل هذا الاتجاه ومخالفته، لم يجعل شعره غامضاً أو عصيّاً.

شعر مثقل بالمعنى ومزدحم به، لأنه ذو مهمة توصيلية، وهو يتطلب إصغاءً وإعمال فكر. والقصيدة لدى كمال معمار ذهني - فكري ونفسي، في الآن ذاته، يستمدّ فيها الشاعر مادته من مغاور النفس والسيرة الشخصية، فضلاً عن استثمار راهن التجربة الحياتية، مشظّياً كلّ ذلك في النص، صراحةً أو رمزاً. دون أن يستثني مادة الحلم من استثماره الفني والموضوعي، وهو ما يُتبيَّن أثره في نصوصه، لا سيّما النصوص النثرية الطويلة، المتأخرة، ليتصادى ذلك مع قراءات الشاعر في الرواية أو اعتماده السينما مصدراً مفعّلاً في كتابته الشعرية. وعن هذه الأخيرة قد أشار إلى ذلك الشاعر نفسه في واحد من الحوارات التي أُجريت معه، ليرقى كلّ ذلك إلى أن يكون جزءاً عضوياً من تجربته الحياتية، الذهنية هذه المرة، مُسقَطة بالمحصلة على القصيدة، لتنعكس خلالها حركةً وتوتراً درامياً. وهو ما ينسحب بالقدر ذاته على نزوع الشاعر في سنواته الأخيرة إلى قراءات في التصوف والقرآن والتراث، ما نجمَ أثره بشكل جلي، في مجموعته الأخيرة «صبراً قالت الطبائع الأربع»، وإلى حد ما في المجموعة السابقة لها. وهو فارق يلمسه القارئ، إجمالاً، بين المنحى الذي اتخذه شعر كمال سبتي في السبعينات أو الثمانينات وما صار إليه في التسعينات وما بعدها. وعلى الرغم مما ذهب إليه الشاعر من مدى أقصى في التجريب الكتابي مسنوداً برؤية يميزها قلق إبداعي، شأن كلّ شاعر مجدّد، إلا أنه وبدافع من القلق ذاته عاد إلى القصيدة الموزونة، كما تجسد في كتابيه الأخيرين. وكان لقراءاته المذكورة آنفاً، دورها في بسط المناخ الملائم لانتعاش هذه القصيدة، ثانيةً، وقد بدت محافظة في شكلها، لكن بالاحتفاظ بقدر عال ورفيع من الشعرية المتينة، المعهودة في شعر كمال سبتي، وبدافع من روح المعنى الذي بقي مهيمناً حتى السطر الأخير، لأن الشعر لديه مأخوذ بجدية حدّ القداسة، وهو قضية في ذاتها، قضية رافع عنها الشاعر طوال حياته بدم القلب.

تصدر هذه الأعمال في غياب شاعرها، وهو ما يجعل من حدث كهذا مثلوماً، إذ عُرف عن كمال اهتمامه المفرط بنتاجه وتدقيقه ومتابعته، واحتفائه به قبل النشر وبعده، لأن الشعر كان كل حياته، هذه الحياة التي عاشها شعراً. فكم كان مبهجاً، لو أن مجموع أعماله هذا قد صدر تحت ناظريه.

ولأهمية هذه الأعمال وضروة أن لا تبقى رهينة التفرّق والغياب، أي في طبعاتها الأولى المتباعدة، غير المتاحة للتداول إلّا فيما ندر، ولأهمية أن تأخذ مكانها في مكتبة الشعر، عراقياً وعربياً، كانت هذه الخطوة في جمعها ومراجعتها وتقديمها للنشر. وقد كان لوفاء الصديق، الفنان المسرحي رياض سبتي، لشقيقه وتراثه الشعري، دوره الحاسم في حفظ مجموعات الشاعر، ومن ثمّ إتاحتها لكاتب سطور هذه المقدمة، حين تم طرح فكرة طباعتها ونشرها، إسهاماً في صون هذا الشعر وجعله قابلاً للانتشار من جديد، بما يجدر به».

من المجموعة الكاملة:

«الشاعر في التاريخ»

الرجل الجالسُ في المكتبة

مورّخٌ يكتبُ عن شاعرٍ

الرجل الهاربُ في سيرةٍ

مشرّدٌ في الليل كالليلِ

رغيفهُ باردْ

رغيفهُ واحدْ

عنوانه مصطبة

محطّةٌ مغلقةُ البابِ

الرجلُ الخائفُ في سيرةٍ

يغيّر الشكلَ تباعاً، فمرّةً

بلحية كثةٍ

ومرّةً بشاربٍ، ثمّ مرّةْ

بنصفِ قلبٍ حائرٍ في الطريقْ

يسيرُ فوقَ جمرةٍ، ثمّ جمرةْ

تلقيه فوقَ جمرةٍ، في الطريقْ.