آلاف المدنيين يغادرون الباغوز مع اشتداد المعارك ضد «داعش»

«الشرق الأوسط» ترصد خروجهم إلى مناطق آمنة

نازحون من الباغوز آخر معاقل «داعش» شرق الفرات (الشرق الأوسط)
نازحون من الباغوز آخر معاقل «داعش» شرق الفرات (الشرق الأوسط)
TT

آلاف المدنيين يغادرون الباغوز مع اشتداد المعارك ضد «داعش»

نازحون من الباغوز آخر معاقل «داعش» شرق الفرات (الشرق الأوسط)
نازحون من الباغوز آخر معاقل «داعش» شرق الفرات (الشرق الأوسط)

بوجوههم المتعبة، وملابسهم المهترئة، وحقائب شبه خاوية وُضّبت على عجل، احتوت على قليل من اللوازم الشخصية وكثير من القهر والحزن والانكسار، يروي سكان قرية الباغوز الواقعة أقصى شرق سوريا أيامهم الأخيرة على وقع اشتداد المعارك العنيفة، المترافقة بقصف الطيران الحربي وسقوط قذائف الهاون والمدفعية.
ذاك النزوح الصعب، حيث لم يتوقع سكان تلك القرية المحاصرة من جهاتها الأربع، «النجاة»، وتمنوا لو أنه كان مجرد كابوس شتوي سيمر عليهم؛ دون أن ينخر البرد عظامهم في الواقع ويجبرهم على المبيت في العراء، ولم يسلم الذين فروا من الباغوز من قسوة الشتاء؛ إذ فتكت كثبان الرمال والرياح الشديدة الممتزجة بغبار الصحراء، بأجسادهم النحيلة وبنيتهم الهزيلة وأطرافهم المشدوّدة من البرد، وكانت بشرتهم الجافة الشاحبة تروي تفاصيل فرارهم من قبضة تنظيم داعش الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة.
تقول فاطمة (45 سنة) المتحدرة من مدينة البوكمال التابعة لمحافظة دير الزور وتقع أقصى شرق سوريا، حيث وصلت للتو إلى نقط آمنة تقع على بعد ثلاثة كيلومترات شمال شرقي الباغوز: «حقيقة كان كابوساً مخيفاً، عندما خرج مئات الناس كان أشبه بيوم الحشر، فالرصاص كان فوق رؤوسنا والطائرات كانت تحلق بالسماء، كان الموت بيننا وفوقنا وبكل مكان».
التفتت حولها لتتفقد بناتها وطفلها الرضيع وجارتها العراقية شيماء، وكانت تبلغ من العمر خمسين عاماً، والتي أوصتها الاهتمام بها طوال رحلة العبور، لتقول: «من يومين ما عرفنا طعم النوم والراحة»، طلبت المياه للشرب ثم رفعت نقابها الأسود ليظهر وجهها الشاحب الممتلئ بالتجاعيد من قسوة الظروف، وعند حديثها اغرورقت عيونها بالدموع، لتضيف: «حرمنا من مياه الشرب لأيام بسبب القتال وخوفنا من قناصة (داعش)».
وفرَ المئات ليل الاثنين - الثلاثاء الماضي من الأمتار الأخيرة المتبقية تحت سيطرة تنظيم داعش، وتواصل: «قوات سوريا الديمقراطية» المرحلة الأخيرة من هجومها الهادف لإنهاء وجود التنظيم.
ونقلت عتاب، وهي سيدة في بداية عقدها الرابع، المتحدرة من مدينة الأنبار العراقية، كيف تمكنت من الفرار رفقة زوجها وأطفالها الخمسة، وقالت: «زوجي يعمل في تجارة المواد الغذائية وقرر المجيء إلى سوريا، افتتح محلاً في بلدة الشعفة، وبعد اندلاع المعارك هناك، نزحنا للباغوز، خفنا نهرب لأن الدواعش قالوا إن الطريق مزروعة بالألغام».
توقفت عن الكلام، نظرت إلى أطفالها وتابعت حديثها بصوت ممزوج بالقهر والحزن لتقول: «خوفي على أطفالي دفعني للهروب، لم أتمكن من اصطحاب أي شيء معنا، حتى ثيابهم التي يحبونها لم أجلبها معي، تركنا كل شيء خلفنا ونجونا بأرواحنا».
وتمكن البعض من الفرار إما سيراً على الأقدام قاصدين المنطقة المحرمة بين سوريا والعراق المجاور، أو نحو الممر الآمن الذي تمكنت «قوات سوريا الديمقراطية» من فتحه بداية معركة الباغوز المستمرة منذ 9 يناير (كانون الثاني) الماضي.
وقال مصطفى بالي، مسؤول المكتب الإعلامي لـ«قوات سوريا الديمقراطية»، إنهم تمكنوا من فتح ممر آمن لإجلاء المدنيين من الباغوز، والمعبر يقع على بعد 3 كيلومترات شمال شرقي قرية الباغوز بمحاذاة المنطقة المحرمة بين سوريا والعراق، «يومياً هناك مدنيون يعبرون ومنذ فتحه خرج أكثر من 30 ألفاً، لكن اللافت خروج نحو 1500 مدني»، مشيراً إنّ الفارين يتحدثون عن وجود الآلاف من المدنيين محاصرين جراء المعارك المستعرة، وأضاف: «سيؤثر هذا بشكل مباشر على سير المعركة وحسمها، قواتنا ملتزمة أخلاقياً بعزل المدنيين عن الاشتباكات، وتتعاطى بحذر مع هذه المعركة، ونعلم أن (داعش) يحتمي بالمدنيين ويتخذهم دروعاً بشرياً»، على حد تعبير مصطفى بالي. ويقول عبد الجبار، الرجل الأربعيني المتحدر من حلب شمالي سوريا، كيف أجبر على ترك مدينته بداية عام 2014 بعد اشتداد المعارك وانقسامها بين شطر خاضع للقوات الحكومية الموالية للأسد، وآخر تسيطر عليه فصائل الجيش السوري الحر وتنظيمات إسلامية، وقال: «قصدت بلدة هجين وبعد اشتداد المعارك فيها، نزحت إلى الباغوز، أنا أعمل في مجال تصليح الدراجات النارية والهوائية، كنت مطلوباً للنظام وأجبرت على ترك مدينتي».
ويروي عبد الجبار الصور المثقلة التي رافقت فراره من الباغوز والمشي وسط الانفجارات الشديدة، وعن طريق رحلته المحفوفة بالمخاطر يقول: «بالبداية الدواعش أرعبونا، قالوا لنا إن كل الطرق مفخخة والطيران يقصف بشدة، خرج مئات المدنيين وقررنا المسير معهم، وين ما يروحوا نروح معهم، والحمد لله نجونا ولم يصب أحد بأذى».
وكشف مصدر مطلع، أن وجهاء عشائر من أبناء الباغوز وناحية السوسة، عرضوا وساطة بين الطرفين للتوصل إلى هدنة، تفضي بتحييد المدنيين من المعارك العنيفة والإفراج عن جميع الأسرى والمعتقلين لدى «داعش»، إلا أن عناصر التنظيم طلبوا ممراً أمناً لنقل مقاتليه إلى مدينة إدلب غربي سوريا والخاضعة لسيطرة هيئة تحرير الشام – جبهة النصر سابقاً – وتعد الفرع السوري لتنظيم القاعدة المحظور.
وبحسب المصدر، كانت طلبات «قوات سوريا الديمقراطية» الإفراج عن كافة الأسرى والرهائن والسماح للمدنيين الراغبين في الخروج بالعبور نحو مناطقهم، وقال: «سيما مقاتليه الذي سقطوا خلال المعارك الأخيرة، وجميع المختطفين والرهائن الذين في قبضة التنظيم ولا يزالون على قيد الحياة، وطلبوا الكشف عن أسمائهم ومصيرهم»، مشيراً إلى أن عناصر التنظيم أصروا على فتح طريق إلى إدلب: «لكن (قسد) رفضت ذلك، وفي الجولة الثانية تنازل التنظيم عن شروطه وطلب الطعام ومياه الشرب فقط، لكن (قسد) أعلنت استئناف القتال وقررت المضي في المعركة».
وقال ياسر (35 سنة) ويعمل سائق سيارة نقل، إن أكثر من 20 سيارة قامت بإجلاء المدنيين.
وقالت ليلوى العبد الله المتحدثة باسم حملة «عاصفة الجزيرة» للقضاء على آخر جيب خاضع لسيطرة التنظيم، إن معركة «دحر الإرهاب» باتت قاب قوسين لحسمها، وأوضحت أن اشتباكات مباشرة تدور بين قواتها وعناصر «داعش» في شوارع الباغوز، وعن المساحة الخاضعة لسيطرة عناصر التنظيم، قالت: «لا توجد مساحة محددة لديه، الاشتباكات تدور في الجهة الشرقية ولا تفصلنا سوى أمتار قليلة»، وكشفت أنّ جنسيات هؤلاء المقاتلين من الأجانب ولديهم خبرة كافية في قتال الشوارع والمناورة لكسب عامل الزمن،. وقال سعدون المتحدر من مدينة القائمة العراقية المواجهة لقرية الباغوز: «هربنا من الحشد الشعبي الشيعي إلى بلدة السوسة، وبعد اشتداد المعارك واقتراب قوات قسد أجبرنا التنظيم تحت قوة السلاح الخروج إلى الباغوز وكانوا يقول لنا إن الكفار سيقتلون الجميع»، وفي نقطة قريبة من خطوط الجبهة تبعد نحو 3 كيلومترات شمال الباغوز، قال عمر المكنى بـ«أبو زهرة»، وهو قيادي عسكري ميداني من «قوات سوريا الديمقراطية» إنّ الهجوم المضاد مستمر منذ إعلان استئناف الحملة السبت الماضي، «تدور اشتباكات عنيفة شرقي الباغوز ونحن حالياً نتقدم لتمشيط آخر الأمتار الخاضعة لسيطرتهم»، مشيراً إلى أن أقل من ربع القرية لا تزال تحت سيطرة المتشددين، لافتاً: «يصدون الهجمات بالقناصة وعبر التنقل بين الأنفاق التي حفروها، كما عمدوا إلى زرع الألغام والمفخخات والتي تبطئ من حسم المعركة».
وتستغرق رحلة العبور من قرية الباغوز حتى مخيم الهول التابع لمدينة الحسكة أكثر من 48 ساعة، بسبب إجراءات التفتيش والتدقيق في هويات الأشخاص الفارين خشية من تسلّل المقاتلين المتطرفين بين المدنيين.
وفي نقطة بالجانب الحدودي السوري، تبعد أمتار قليلة عن ساتر ترابي بالمنطقة الفاصلة بين سوريا والعراق المجاور، يقف مجموعة من الجنود الأميركيين ومسؤولين من قوات التحالف الدولي وقادة عسكريين من «قوات سوريا الديمقراطية»، يبدو أنها نقطة تفتيش.



الحوثيون يكثّفون حملة الاعتقالات في معقلهم الرئيسي

جنود حوثيون يركبون شاحنة في أثناء قيامهم بدورية في مطار صنعاء (إ.ب.أ)
جنود حوثيون يركبون شاحنة في أثناء قيامهم بدورية في مطار صنعاء (إ.ب.أ)
TT

الحوثيون يكثّفون حملة الاعتقالات في معقلهم الرئيسي

جنود حوثيون يركبون شاحنة في أثناء قيامهم بدورية في مطار صنعاء (إ.ب.أ)
جنود حوثيون يركبون شاحنة في أثناء قيامهم بدورية في مطار صنعاء (إ.ب.أ)

أطلقت الجماعة الحوثية سراح خمسة من قيادات جناح حزب «المؤتمر الشعبي» في مناطق سيطرتها، بضمانة عدم المشاركة في أي نشاط احتجاجي أو الاحتفال بالمناسبات الوطنية، وفي المقابل كثّفت في معقلها الرئيسي، حيث محافظة صعدة، حملة الاعتقالات التي تنفّذها منذ انهيار النظام السوري؛ إذ تخشى تكرار هذه التجربة في مناطق سيطرتها.

وذكرت مصادر في جناح حزب «المؤتمر الشعبي» لـ«الشرق الأوسط»، أن الوساطة التي قادها عضو مجلس حكم الانقلاب الحوثي سلطان السامعي، ومحافظ محافظة إب عبد الواحد صلاح، أفضت، وبعد أربعة أشهر من الاعتقال، إلى إطلاق سراح خمسة من أعضاء اللجنة المركزية للحزب، بضمانة من الرجلين بعدم ممارستهم أي نشاط معارض لحكم الجماعة.

وعلى الرغم من الشراكة الصورية بين جناح حزب «المؤتمر» والجماعة الحوثية، أكدت المصادر أن كل المساعي التي بذلها زعيم الجناح صادق أبو راس، وهو عضو أيضاً في مجلس حكم الجماعة، فشلت في تأمين إطلاق سراح القادة الخمسة وغيرهم من الأعضاء؛ لأن قرار الاعتقال والإفراج مرتبط بمكتب عبد الملك الحوثي الذي يشرف بشكل مباشر على تلك الحملة التي طالت المئات من قيادات الحزب وكوادره بتهمة الدعوة إلى الاحتفال بالذكرى السنوية للإطاحة بأسلاف الحوثيين في شمال اليمن عام 1962.

قيادات جناح حزب «المؤتمر الشعبي» في صنعاء يتعرّضون لقمع حوثي رغم شراكتهم الصورية مع الجماعة (إكس)

في غضون ذلك، ذكرت وسائل إعلام محلية أن الجماعة الحوثية واصلت حملة الاعتقالات الواسعة التي تنفّذها منذ أسبوعين في محافظة صعدة، المعقل الرئيسي لها (شمال)، وأكدت أنها طالت المئات من المدنيين؛ حيث داهمت عناصر ما يُسمّى «جهاز الأمن والمخابرات»، الذين يقودهم عبد الرب جرفان منازلهم وأماكن عملهم، واقتادتهم إلى معتقلات سرية ومنعتهم من التواصل مع أسرهم أو محامين.

300 معتقل

مع حالة الاستنفار التي أعلنها الحوثيون وسط مخاوف من استهداف قادتهم من قبل إسرائيل، قدّرت المصادر عدد المعتقلين في الحملة الأخيرة بمحافظة صعدة بنحو 300 شخص، من بينهم 50 امرأة.

وذكرت المصادر أن المعتقلين يواجهون تهمة التجسس لصالح الولايات المتحدة وإسرائيل ودول أخرى؛ حيث تخشى الجماعة من تحديد مواقع زعيمها وقادة الجناح العسكري، على غرار ما حصل مع «حزب الله» اللبناني، الذي أشرف على تشكيل جماعة الحوثي وقاد جناحيها العسكري والمخابراتي.

عناصر من الحوثيين خلال حشد للجماعة في صنعاء (إ.ب.أ)

ونفت المصادر صحة التهم الموجهة إلى المعتقلين المدنيين، وقالت إن الجماعة تسعى لبث حالة من الرعب وسط السكان، خصوصاً في محافظة صعدة، التي تستخدم بصفتها مقراً أساسياً لاختباء زعيم الجماعة وقادة الجناح العسكري والأمني.

وحسب المصادر، تتزايد مخاوف قادة الجماعة من قيام تل أبيب بجمع معلومات عن أماكن اختبائهم في المرتفعات الجبلية بالمحافظة التي شهدت ولادة هذه الجماعة وانطلاق حركة التمرد ضد السلطة المركزية منذ منتصف عام 2004، والتي تحولت إلى مركز لتخزين الصواريخ والطائرات المسيّرة ومقر لقيادة العمليات والتدريب وتخزين الأموال.

ومنذ سقوط نظام الرئيس السوري بشار الأسد وانهيار المحور الإيراني، استنفرت الجماعة الحوثية أمنياً وعسكرياً بشكل غير مسبوق، خشية تكرار التجربة السورية في المناطق التي تسيطر عليها؛ حيث نفّذت حملة تجنيد شاملة وألزمت الموظفين العموميين بحمل السلاح، ودفعت بتعزيزات كبيرة إلى مناطق التماس مع القوات الحكومية خشية هجوم مباغت.

خلق حالة رعب

بالتزامن مع ذلك، شنّ الحوثيون حملة اعتقالات شملت كل من يُشتبه بمعارضته لسلطتهم، وبررت منذ أيام تلك الحملة بالقبض على ثلاثة أفراد قالت إنهم كانوا يعملون لصالح المخابرات البريطانية، وإن مهمتهم كانت مراقبة أماكن وجود قادتها ومواقع تخزين الأسلحة في صنعاء.

وشككت مصادر سياسية وحقوقية في صحة الرواية الحوثية، وقالت إنه ومن خلال تجربة عشرة أعوام تبيّن أن الحوثيين يعلنون مثل هذه العمليات فقط لخلق حالة من الرعب بين السكان، ومنع أي محاولة لرصد تحركات قادتهم أو مواقع تخزين الصواريخ والمسيرات.

انقلاب الحوثيين وحربهم على اليمنيين تسببا في معاناة ملايين السكان (أ.ف.ب)

ووفق هذه المصادر، فإن قادة الحوثيين اعتادوا توجيه مثل هذه التهم إلى أشخاص يعارضون سلطتهم وممارساتهم، أو أشخاص لديهم ممتلكات يسعى قادة الجماعة للاستيلاء عليها، ولهذا يعمدون إلى ترويج مثل هذه التهم التي تصل عقوبتها إلى الإعدام لمساومة هؤلاء على السكوت والتنازل عن ممتلكاتهم مقابل إسقاط تلك التهم.

وبيّنت المصادر أن المئات من المعارضين أو الناشطين قد وُجهت إليهم مثل هذه التهم منذ بداية الحرب التي أشعلتها الجماعة الحوثية بانقلابها على السلطة الشرعية في 21 سبتمبر (أيلول) عام 2014، وهي تهم ثبت زيفها، ولم تتمكن مخابرات الجماعة من تقديم أدلة تؤيد تلك الاتهامات.

وكان آخرهم المعتقلون على ذمة الاحتفال بذكرى الإطاحة بنظام حكم أسلافهم في شمال اليمن، وكذلك مالك شركة «برودجي» التي كانت تعمل لصالح الأمم المتحدة، للتأكد من هوية المستفيدين من المساعدات الإغاثية ومتابعة تسلمهم تلك المساعدات؛ حيث حُكم على مدير الشركة بالإعدام بتهمة التخابر؛ لأنه استخدم نظام تحديد المواقع في عملية المسح، التي تمت بموافقة سلطة الحوثيين أنفسهم