السفر مهم بالنسبة لي على المستوى الشخصي والإنساني


المصمم الفرنسي كريستيان لوبوتان غني عن التعريف؛ فقد جعل من نعله الأحمر ماركة مسجلة يتعرف عليها الكل من النظرة الأولى، وبنى عليها إمبراطورية تمتد عبر القارات الخمس. وهذا ما يضطره إلى السفر باستمرار لحضور افتتاحات أو فعاليات، وغيرها. لكنه يؤكد أن السفر يجري في جيناته منذ الطفولة، وأجمل الأوقات هي التي يقضيها في بلد بعيد يغوص في ثقافته، ويستكشف ألوانه ليجسدها فيما بعد في تصاميم عالمية. يمكن القول إن مقره الرئيسي في باريس، التي يمتلك فيها شقة. يمتلك أيضاً عوامة في مصر تُطل على النيل وبيتاً آخر في الأقصر، منطقة يقول إنه يعشق كل ما فيها: شمسها، ألوانها، دفئها وأهلها. لكن يمكن القول إن البيت الذي يقضي فيه الكثير من الأوقات هو الطائرة. هل يجد الأمر متعباً، وهل يتذمر ويشتكي من كثرة تنقلاته؟ أبداً، حسبما يقول:
فأنا أعشق السفر وأعتبره جزءاً مهماً في حياتي الخاصة كما في عملية الإبداع.
السفر يحسّن مزاجي ويشحذ خيالي في الوقت ذاته؛ إذ قد تُلهمني ألوان الهند أو روائح التوابل في المغرب، كما قد تلُهني حدائق أندلسية بإسبانيا، وهكذا. أنا لا أتوقف عن السفر، ففي أسبوع واحد قد أزور وجهات عدة لدواعي العمل، لكني لا أتذمر أبداً على شرط أن يكون معي هاتفي المحمول وماكينة حلاقة لترتيب لحيتي. وأعتبر نفسي محظوظاً لأن أسفاري هي عن اختيار وليس إجباراً؛ لأني أعتبر كل شيء حولي مثيراً وجديداً. فهناك دائماً حديقة أكتشفها صدفة وأنا في طريقي إلى لقاء عمل، أو متحف أو كاتدرائية أو سوق مفتوحة لم أسمع عنها من قبل، أو مهرجان موسيقي أسعد بحضوره. حتى في بعض الأماكن التي لا تشتهر بمعالم تاريخية أو جماليات معينة، أجد فيها ما يُدهشني ويشد انتباهي. عموماً، أعتقد أن السفر خيار شخصي، لا أحد مضطراً للقيام به، على الأقل ليس بشكل مكثف، لكني أعشقه منذ الصغر.
فعندما كنت صبياً، يتراوح عمري بين الـ11 و14، كنت أضطر إلى المرور بجانب وكالة أسفار وأنا في طريقي إلى المدرسة. كنت دائماً أتوقف عندها لآخذ كاتالوجاً جديداً. كنت طفلاً منطوياً على نفسي وليس لدي أصدقاء كُثر؛ لهذا كنت أقضي ساعات طويلة ألعب بمفردي. كانت لعبتي المفضلة هي القيام بجولة خيالية حول العالم. كنت أحدد لنفسي ثلاثة أشهر مثلاً للقيام بهذه الجولة. أبدؤها من باريس متوجهاً غرباً إلى أميركا، ومنها أنطلق إلى فلاديفوستوك شمالاً، ومنها إلى اليابان ثم الهند، وأخيراً إلى أفريقيا. كنت أنظم الرحلة بشكل جيد ودقيق، بحيث أتأكد من مواعيد الطائرة ومن عناوين الفنادق التي أحلم بالإقامة بها. كنت أيضاً أقوم بأبحاث مستفيضة عن الوجهات التي سأمرّ بها، وما إذا كنت سأحتاج فيها إلى لقاح، فضلاً عن نوع العملات لكل بلد، واللغة التي يتكلم بها السكان المحليون، وهكذا. كنت أؤلف قصصاً خيالية كأن تُسرق محفظة نقودي، وفي مرة أخرى أصبت بمرض، طبعاً في خيالي، اضطرني إلى البقاء في الهند لمدة شهر كامل، وهكذا. كان لدي خيال لا ينضب عندما يتعلق الأمر بزيارة بلدان بعيدة. الآن لم أعد مضطراً إلى الخيال؛ فكل هذه البلدان زرتها في الواقع، بالتنظيم نفسه الذي كنت أرسمه. فأنا مسافر جيد للغاية. أدرس كل صغيرة وكبيرة قبل السفر بحيث لا أضطر أحياناً إلى حمل كل حقائبي معي من مكان إلى آخر، خصوصاً أن ما قد أحتاج إليه في جاكارتا في زيارة ليوم واحد لن أحتاجه في زيارتي التالية إلى اليابان، وهكذا. أضمن أن أحداً من فريق العمل يأخذها معه لأجدها تنتظرني في الوجهة التالية. فأنا بطبعي لا أحب أن أكون مُثقَلاً بالأشياء، وأفضل أن أكون خفيفاً طليقاً. شعرت بأن علاقتي مع السفر نضجت عندما قمت برحلة طويلة تنقلت فيها بين بلدان وقارات عدة من دون التوقف في باريس. فعندما تكون طفلاً وتسافر فإنك دائماً تعود إلى نقطة الانطلاق، لكني في تلك المرة انتقلت بين بلدان عدة من دون أن أعود إلى باريس؛ ما زاد من إحساسي بالحرية والانطلاق. الآن لا شيء يشدني إلى نقطة معينة بقدر ما يشدني الجمال وما يمكنني أن أتعلمه من أي مكان أزوره.
شهادتي في الأقصر مجروحة، فلدي بيت فيها أشعر فيه بأني بين أهلي. كما أحب مدينة الحجر الرملي المهجورة في ولاية أوتار براديش الهندية؛ فهي رائعة وأنصح الكل بزيارتها في مرحلة ما.
أما آخر زيارة قمت بها وتركت أثراً عميقاً في نفسي فكانت لمدائن صالح بالسعودية. لم أجرب من قبل ذلك الشعور بأن أقف في مكان مرتفع من العالم، كان في يوم ما من أهم المواقع الأثرية والتاريخية. إنها تستحق فعلاً لقب «المتحف المفتوح»؛ لما تضمه من آثار قديمة وزخرفات منقوشة على صخورها. كان إحساساً رائعاً، فرغم أني سمعت عنها الكثير وبأنها واحدة من الأماكن الأثرية المهمة، ورأيت أعمالاً تجسدها في اللوفر فتحت فضولي على زيارتها، لكن من رأى بأم عينه ليس كمن سمع.