ثورة إيران والتجارب الفرنسية والروسية والصينية

روحاني يلقي خطاباً بمناسبة الذكرى الأربعين للثورة في ميدان آزادي (الحرية) وسط طهران (مهر)
روحاني يلقي خطاباً بمناسبة الذكرى الأربعين للثورة في ميدان آزادي (الحرية) وسط طهران (مهر)
TT

ثورة إيران والتجارب الفرنسية والروسية والصينية

روحاني يلقي خطاباً بمناسبة الذكرى الأربعين للثورة في ميدان آزادي (الحرية) وسط طهران (مهر)
روحاني يلقي خطاباً بمناسبة الذكرى الأربعين للثورة في ميدان آزادي (الحرية) وسط طهران (مهر)

في الموروث الشعبي الفارسي، غالباً ما يرتبط الرقم 40 بمفاهيم «ماورائية» أو غيبية، مثل «الشباب الثاني»، أو على سبيل التناقض ولوج عتبة الحكمة الناضجة. ويدخل الصوفيون في «الخلوة»، أي الانسحاب التام عن العالم الخارجي لمدة 40 يوماً يحاولون خلالها تصفية النفس وتنقية الروح وتخلية الذهن. وكان الطوفان العظيم وثيق الارتباط بقصة النبي نوح قد استمر لمدة 40 يوماً وليلة من الأمطار المتواصلة. وفي إيران القديمة، كانت منافسات الفروسية والمبارزة السنوية لمدة 40 يوماً تجتذب كثيراً من المتسابقين. وبالنسبة إلى الشاعر الإيراني السعدي، فإن الرجل يبلغ ذروة استيقاظه مع بلوغه العقد الرابع من عمره، بمعنى اكتمال إدراكه الحقيقي للكون، أي القوس الذي تنغلق أطرافه باتصال دائم خلال عقد كامل من الزمان.
وربما هذا هو السبب وراء أن رجال المذهب الشيعي الذين يُحكمون سيطرتهم اليوم على السلطة في طهران يحاولون تحويل الذكرى السنوية للثورة إلى مناسبة ذات طابع خاص. فلقد كرست السلطة جميع مواردها لتقديم عرض رائع ومبهر عبر العديد من المعارض، والمهرجانات، والمؤتمرات التي تحيي ذكرى النجاحات الكثيرة التي حقَّقَتها الثورة منذ اندلاعها.
لذا، لمَ لا نعقد مقارنة سريعة بين الموضع الذي تستقر عنده الثورة الخمينية راهناً وما حققته الثورات الأخرى حين بلغت حد النضوج الثوري، زعموا، بمرور أربعين حولاً على قيامها؟ وذلك لأن الثورة الخمينية الإيرانية تحمل في طياتها طموحات التبشير الثوري من النطاق العالمي، بمعنى رغبتها الأكيدة والشديدة في «تصدير» الذات إلى العالم بأسره، فمن الإنصاف عقد المقارنة بين أدائها لقاء أداء الثورات الأخرى التي احتملت الطموحات والآمال ذاتها. ومن واقع هذه الاصطلاحات، فهناك ثلاث ثورات مستحقة للمقارنة بين أيدينا: «الثورة الفرنسية» لعام 1789، ثم «الثورة البلشفية الروسية» لعام 1917.
وكلتا الثورتين ادعت بأنها تحمل النموذج المناسب للبشرية بأسرها، وحاولت كلتا الثورتين تمديد الفضاء الآيديولوجي من خلال شن الحرب، وتنفيذ سياسات القمع، وتطبيق آليات الدعاية مع النتائج التي تباينت كثيراً من حالة إلى أخرى.
صارت الثورة الفرنسية، مع بلوغها الأربعين عاماً، كمثل الفصل المنتهي من تاريخ الأمة الفرنسية التي كانت تستعين بدروس الماضي لاستشراف آفاق المستقبل. ولقد مرت كثير من الأحداث تحت جسر الحياة ابتداء من عام 1789. فلقد استعادت أسرة البوربون الحاكمة، التي أطاحت بها الثورة الفرنسية في دموية بالغة الروع، ذروة مجدها. وكان الملك شارل العاشر يحاول القبض بيد من حديد على السلطة الاستبدادية، الأمر الذي أفضى إلى اندلاع ثورة مصغرة تلك التي جاءت بالأمير لويس فيليب بعد ذلك بعام، وهو الأمير الحاكم من الأسرة المنافسة في أورليانز، إلى السلطة، ملكاً جديداً للبلاد.
ومع ذلك، وبحلول عام 1830، توقفت فرنسا تماماً عن التحرك بالمد الثوري، واستأنفت التعامل كدولة قومية تحمل الطموحات التقليدية للقوة الصاعدة. وكان التركيز منصباً على تعزيز وترسيخ المؤسسات الديمقراطية في البلاد، التي أدركت القيادة الفرنسية الحاجة الملحّة إليها إن رامت فرنسا معاودة الظهور على المسرح السياسي كقوة قومية أوروبية كبرى. ومن ثم تعززت سلطات البرلمان التمثيلي، في حين سُمح للصحافة، التي وُصفت بالقوة الديمقراطية الرابعة، بالنمو والتطور إلى سلطة رئيسية معنية بالتقدم.
وبحلول عام 1830 أيضاً، أدركت فرنسا أهمية بناء اقتصاد رأسمالي حديث وقادر كمصدر من مصادر القوة القومية، والأكثر في أهميته من حيث كسب النفوذ في الخارج من أي دعايات آيديولوجية ممجوجة. وكان من سمات المرحلة الثقافية تلك رعاية علماء الاقتصاد الليبرالي أمثال فرنسوا غيزو الذي كانت نصيحته لأولئك الذين يبغون خدمة وطنهم شديدة البساطة: « كن ثريا!». وتميّزت تلك المرحلة أيضاً بظهور موجة تحديث البنية التحتية للبلاد، التي كان من المقرر أن تشتمل على بناء السكك الحديدية الفرنسية الأولى، وتشييد الموانئ الحديثة، والصناعات الرئيسية الجديدة في جميع أنحاء البلاد. وبعد مرور أربعين عاماً على اندلاع الثورة الفرنسية، وعلى الرغم من سنوات الحرب النابليونية العقيم، والاضطرابات الداخلية العارضة، تمكنت فرنسا في خاتمة المطاف من مضاعفة حجم اقتصادها الوطني.
وعلى الصعيد السياسي، فإن تلك المفاهيم الأكيدة مثل سيادة القانون، والفصل بين السلطات، والسيادة الوطنية، كانت تزداد زخماً، ورسوخاً، وعمقاً، واحتراماً، يوماً بعد يوم.
وبدأ «الأثر الفرنسي»، الذي كان مقتصراً في الأعوام السابقة على المسائل ذات الصلة بالدبلوماسية، والإتيكيت، والبروتوكول، والأزياء، والرفاهية، يمتد إلى عالم السياسة بمفاهيم جديدة مثل حقوق الإنسان، والمساواة، والتكافل الاجتماعي، الأمر الذي استمال قلوب الجماهير من جميع أرجاء العالم. وجرت محاكاة مبادئ نابليون من قبل العديد من البلدان الأخرى حول العالم، ثم تحول التعليم الفرنسي، لا سيما العلوم التطبيقية منه، إلى أنموذج يُحتذى ويُتبع من جانب الكثيرين.
وإثر تطبيع العلاقات مع كبار المنافسين على الصعيد الدولي، لا سيما إنجلترا وبروسيا، تمكنت فرنسا من اللحاق بالمسعى الأوروبي الشهير لبناء الإمبراطوريات الخارجية. وكانت نقطة الانطلاق في الحملة الاستعمارية الفرنسية، التي كانت ترمي إلى تحويل فرنسا إلى ثاني أكبر إمبراطوريات القرن التاسع عشر الميلادي، هي الاستيلاء على مدينة الجزائر إلى الشمال من القارة الأفريقية.
بعد أربعين عاماً من اندلاع الثورة الفرنسية، عاودت فرنسا الظهور على المسرح العالمي كقوة أدبية وفنية هائلة. وأخرجت العديد من الكُتّاب والمؤلفين الناشئين، أمثال الروائي الفرنسي ستندال، والكاتب أونوريه دي بالزاكن وفيكتور هوغو، الذين ذاع صيت شهرتهم الآفاق وإلى أبعد من حدود فرنسا ذاتها. ثم ازدهرت الفنون الفرنسية، إذ خرج من عباءتها عمالقة مثل أوجين ديلاكروا. وأصبحت الموسيقى الفرنسية منافسة أكيدة لنظيرتيها الألمانية والإيطالية، وذلك بفضل جان باتسيت لولي، وغابرييل فوري، وجان فيليب رامو، وجاكومو بوتشيني، وجورج بيزيه. وأرسى مسرح ما بعد الحقبة الثورية أركانه ودعائمه من خلال الكونت دي ميرابو، وأوجين مارين لابيشيه، وجورج فيديو، من بين آخرين. ويرجع الخلاص الفرنسي الحقيقي من الحقبة السابقة وما أحرزته من نجاح في الأوقات اللاحقة، في جزء منه، إلى إدراك أن الثورة ليست إلا وسيلة لاكتساب القوة، وليست أبداً أداة من أدوات ممارسة السلطة. وكان المهم هو إغلاق فصل الثورة من التاريخ الفرنسي وإعادة إحياء فصل الدولة كإطار يحكم الحياة الوطنية في البلاد.
ثم ينتقل بنا المقام إلى الثورة البلشفية الروسية؛ فبعد مرور أربعة عقود على استيلاء البلاشفة الثوريين على السلطة في بتروغراد، خبرت روسيا، التي صارت في مركز اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية، انتقالاً مماثلاً من مرحلة الثورة إلى مرحلة الدولة. ففي عام 1956، تمكن نيكيتا خروتشوف، على اعتبار منصبه بالسكرتير الأول للحزب الشيوعي الحاكم في الاتحاد السوفياتي، من الكشف عن الجرائم المروّعة التي ارتكبها نظام الدولة في عهد جوزيف ستالين، وكان يهدف من وراء ذلك إلى إغلاق فصل الثورة تماماً من التاريخ الروسي الحديث. وأسفر ظهور ثلاثي تقاسم السلطة ممثلاً في: نيكولاي بولغانين رئيساً لوزراء البلاد، وكليمنت فوروشيليف رئيساً للبلاد، بالإضافة إلى خروتشوف رئيساً للحزب الشيوعي، عن العودة إلى السلوكيات السياسية شبيهة الصلة بالدولة القومية.
وفي خضم هذا السياق، شرع الاتحاد السوفياتي في تطبيع العلاقات مع مختلف البلدان القريبة منه والبعيدة. وجرى التوقيع على بيان رسمي مع اليابان، قاضياً بذلك على آخر مرحلة من مراحل الحرب بين الدولتين من دون أن يتحول إلى معاهدة رسمية للسلام بين الجانبين. ثم جرى إطلاق عملية عقد القمم الثنائية مع رؤساء الولايات المتحدة الأميركية، تلك التي تطورت لاحقاً لتوجيه الدعوة إلى زعماء آخرين، بما في ذلك شاه إيران، إلى موسكو، في زيارة دولة ذات طابع دبلوماسي وسياسي كبير، الأمر الذي بعث برسالة حول نيات الزعماء السوفيات التوقف عن انتهاج مسار تلقين الدروس الآيديولوجية لطائفة من الطوائف الموالية.
وكان إطلاق ترسانة الطاقة النووية السوفياتية، التي حملت رمزاً مهيباً بإجراء أول الاختبارات الذرية والهيدروجينية، يشير إلى نيات موسكو للتنافس مع الخصوم الرأسماليين من واقع أنها دولة قومية بدلاً من كونها ثورة وطنية. وأشار إطلاق الأقمار الصناعية «سبوتنيك 1»، و«سبوتنيك 2» الذي حمل الكلبة «لايكا» إلى الفضاء الخارجي في رحلة حول الأرض، إلى عزم وتصميم الاتحاد السوفياتي على التحول إلى قوة صناعية عملاقة ذات طموحات عالمية من الطراز الأول.
وعلى الصعيد الداخلي، أسفر إغلاق فصل الثورة من التاريخ الروسي المعاصر إلى إصدار عفو عام شمل ملايين المواطنين. ولقد سُمح لكثير من البلدان، مثل الشيشان في شمال إقليم القوقاز والتتار بشبه جزيرة القرم، إلى العودة من المنفى الإجباري في سيبيريا وكازاخستان.
ولقد أحرز الاتحاد السوفياتي بعض النجاحات في «تصدير» نسخته الثورية باستخدام موارد الدولة لإسناد الحركات الشيوعية في غير موضع من العالم. وفي عام 1949، أنجز الشيوعيون الصينيون غزوهم للصين في الوقت الذي كانت الحركة الشيوعية لا تزال تحظى بجاذبية خاصة في شبه الجزيرة الكورية وفي الهند الصينية كذلك. وسرعان ما تحولت بلدان أوروبا الشرقية والوسطى إلى الدوران في فلك الاتحاد السوفياتي ليس بفضل الآيديولوجية الشيوعية الجذابة وإنما بسبب الأسلحة السوفياتية الفتاكة. وفي أوروبا الغربية وأميركا اللاتينية، عثرت الأحزاب الشيوعية، التي مولتها موسكو في أغلب الأحيان، على جماهير غفيرة، وفي بعض الحالات، وهي إيطاليا على سبيل المثال، كانت الأحزاب الشيوعية قد اقتربت من الفوز بالسلطة من خلال الانتخابات.
وبعد مرور أربعين عاماً على الثورة البلشفية، كان الاتحاد السوفياتي يفتح المجال أمام الإبداعين الأدبي والفني، على الرغم من بقاء العديد من القيود الآيديولوجية. ومع ذلك، فإن ما يسمى بـ«ذوبان الجليد» قد جعل من الممكن للكاتب والشاعر الروسي بوريس باسترناك أن يخرج برائعته «دكتور زيفاغو»، ولأعمال أخرى من تأليف ميخائيل بولغاكوف، وآنا أخماتوفا، وأوسيب ماندلستام، أن تجد سبيلها للطباعة والنشر.
وسرعان ما تمكّن جيل كامل من الشعراء، وعلى رأسهم يفيغيني يفتوشينكو، وفارلام شالاميف، من كسر القيود الحديدية للآيديولوجية الشيوعية التي كانت جاثمة على صدور الناس في عهد لينين وتحت حكم ستالين.
وبحلول عام 1957، استعادت السينما الروسية، والباليه، والموسيقى زخمها ومكانتها المفقودة إثر اندلاع الثورة البلشفية، ثم ما تلاها من عقود من «الرعب الثوري» تحت حكم لينين وستالين.
بعد مرور أربعين عاماً من اندلاع ثورتها، تحولت روسيا إلى واحدة من القوتين العظميين في العالم، تماماً كما أصبحت فرنسا القوة الثانية في أوروبا بعد انقضاء أربعة عقود على قيام ثورتها. وكان إحياء روسيا، بعد أربعين عاماً على الثورة، كدولة قومية من أبرز العوامل في مقدرتها على البقاء حتى بلوغ الصدمة الهائلة بتفكك الاتحاد السوفياتي ثم انهياره.
ويمكن طرح حالة مماثلة بالإشارة إلى الثورة الصينية لعام 1949. وبحلول عام 1989، أغلقت الصين ذلك الفصل الثوري من تاريخها تماماً، وافتتحت فصلاً جديداً كدولة قومية ذات طموحات وطنية، مما يعني تكراراً أكيداً للتحارب الفرنسية والروسية وإنما بطريقتها الخاصة.
لقد تمكنت كل من فرنسا، وروسيا، والصين من النأي بالنفس بعيداً عن الزخم والضجيج الثوري القديم، ثم التحوّل إلى ولادة جديدة للدولة القومية، الأمر الذي لم تفطن إليه أو تدركه الجمهورية الإسلامية في إيران التي تحتفل حالياً بمرور أربعين عاماً على اندلاع الثورة في البلاد. وتُعزى حالة عدم اليقين من المستقبل، والانحدار الاقتصادي الراهن، والعزلة الدبلوماسية الدولية، والتضليل الاجتماعي والثقافي، إلى إخفاق قادة وزعماء البلاد في إدراك أن الثورة ليست إلا مرحلة موجزة وقصيرة الأمد في عمر الأمم، بينما تكوين الدولة القومية هو مشروع وطني ممتد وطويل الأمد.
ربما قد حان الوقت لدى ملالي إيران لطلب العلم والمعرفة، حتى وإن كانت في فرنسا أو روسيا أو الصين.



ماكرون يرسم خطوطاً حمراء للتعاون مع دمشق

الرئيس إيمانويل ماكرون متحدثاً في إطار الاجتماع السنوي لسفراء فرنسا عبر العالم في قصر الإليزيه الاثنين (رويترز)
الرئيس إيمانويل ماكرون متحدثاً في إطار الاجتماع السنوي لسفراء فرنسا عبر العالم في قصر الإليزيه الاثنين (رويترز)
TT

ماكرون يرسم خطوطاً حمراء للتعاون مع دمشق

الرئيس إيمانويل ماكرون متحدثاً في إطار الاجتماع السنوي لسفراء فرنسا عبر العالم في قصر الإليزيه الاثنين (رويترز)
الرئيس إيمانويل ماكرون متحدثاً في إطار الاجتماع السنوي لسفراء فرنسا عبر العالم في قصر الإليزيه الاثنين (رويترز)

احتلت ملفات الشرق الأوسط حيزاً واسعاً في الكلمة التي ألقاها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ظهر الاثنين، في قصر الإليزيه، بحضور سفراء فرنسا عبر العالم وكبار المسؤولين المدنيين والعسكريين. وبالنظر للتطورات الجارية في سوريا، فقد حرص ماكرون على إبراز موقف واضح، مشدداً على أن بلاده «لم تصدق أبداً أن الديكتاتور (في إشارة إلى بشار الأسد) يمكن إعادة تأهيله».

إلا أنه في الوقت عينه، دعا إلى التزام الحذر «من خلال النظر إلى تغيير النظام في سوريا من دون سذاجة». وما حرص عليه ماكرون يكمن في رسم ما يمكن تسميته «خريطة طريق» لكيفية التعامل مع السلطات الجديدة في دمشق، وما تتوقعه باريس والعواصم الأوروبية الأخرى، من السلطة الجديدة، مع التذكير بالزيارة التي قام بها وزير الخارجية الفرنسي، جان نويل بارو، ونظيرته الألمانية أنالينا بايربوك مؤخراً إلى دمشق.

الأكراد «الحلفاء الأوفياء»

قوات من «قسد» في تدريب مشترك مع القوات الأميركية شمال شرقي سوريا (أ.ف.ب)

وفيما تتصاعد المعارك في الشمال السوري بين قوات سوريا الديمقراطية «قسد»، والقوات الحليفة لتركيا، حرص ماكرون على التأكيد بقوة على موقف بلاده من الأكراد الذين وصفهم بـ«الحلفاء الأوفياء» في محاربة تنظيم «داعش»، ملمحاً إلى أن بعض الدول كانت مستعدة للتخلي عنهم، في تلميح للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، الذي كان مستعداً في عام 2018 لسحب القوات الأميركية لتسهيل سيطرة تركيا على المنطقة.

وقال ماكرون: «نحن نعي الدين الذي ندين به لمجمل (القوات الديمقراطية السورية) وللمقاتلين من أجل الحرية مثل الأكراد، الذين تحلوا بالشجاعة في محاربة المجموعات الإرهابية». وأضاف أن بلاده «لم تتخل عنهم أبداً، ولن نتخلى عنهم في المسار الجديد، ونحن متيقظون لعملية الانتقال السياسي» الجارية حالياً في سوريا.

وتابع: «ما تريده فرنسا هو قيام سوريا ذات سيادة وحرة وتحترم تعدديتها الإثنية والسياسية والطائفية». وشدد ماكرون على أهمية أن تضم العملية الانتقالية الديمقراطية «كل مكونات المعارضة» للنظام السابق، بالتوازي مع «توفير الأمن للاجئين للعودة إلى بلادهم ومواصلة محاربة الإرهاب بشكل واضح، وتدمير كل البنى المنتجة للسلاح الكيماوي وشبكات إنتاج وتهريب المخدرات».

ويرى ماكرون، في إشارة على الأرجح للبنان، أنه «يتعين على سوريا أن تشارك في ضمان الأمن والاستقرار الإقليميين»، مذكراً بـ«مؤتمر بغداد» في نسخته الثالثة التي ستعقد في الربيع القادم، دون أن يحدد مكان انعقادها، لعرض تنفيذ مشاريع إقليمية «لمصلحة الجميع ولتحقيق السلام والأمن».

وسبق لوزير الخارجية الفرنسي أن شدد، في حديث صحافي، الأحد، على ضرورة ألا تستغل أي قوة أجنبية سقوط حكم نظام الأسد لإضعاف سوريا، مشيراً إلى أن سوريا «تحتاج بطبيعة الحال إلى مساعدة، لكن من الضروري ألا تأتي قوة أجنبية، كما فعلت لفترة طويلة روسيا وإيران، تحت ذريعة دعم السلطات أو دعم سوريا... وتُضعفها بشكل إضافي».

وبحسب جان نويل بارو، فإن «مستقبل سوريا يعود إلى السوريين. وانطلاقاً من وجهة النظر هذه، فإن هدف السيادة الذي أظهرته السلطة الانتقالية وممثلو المجتمع المدني و(أفراد المجتمعات) الذين التقيناها كذلك هو أمر سليم». وكان بارو يلمح للدور المتعاظم الذي لعبته وتلعبه تركيا في العملية الانتقالية الجارية حالياً.

الدور الإيراني

قاآني يستقبل الرئيس مسعود بزشكيان خلال مراسم ذكرى قاسم سليماني في طهران الخميس الماضي (الرئاسة الإيرانية)

بيد أن أشد العبارات استخدمها ماكرون في الحديث عن إيران التي اعتبرها «التحدي الأمني والاستراتيجي الرئيسي» في الشرق الأوسط. وجاء في حرفية كلام ماكرون أن إيران «تشكل التحدي الاستراتيجي والأمني الرئيسي لفرنسا والأوروبيين والمنطقة بكاملها، وأبعد من ذلك بكثير»، محذراً من أن «تسارع برنامجها النووي يقودنا إلى حافة القطيعة».

وما يعنيه الرئيس الفرنسي أن طهران اقتربت كثيراً من الحصول السلاح النووي. واللافت أن ماكرون يعد أحد القادة الغربيين القلائل الذين يحافظون على خط تواصل دائم مع القيادة الإيرانية. لكن يبدو أن قرب عودة ترمب إلى البيت الأبيض يجعل الأوروبيين ومنهم فرنسا يلجأون إلى خطاب أكثر تشدداً إزاء طهران.

وجاء لافتاً أن ماكرون أشار في كلامه، وفي إطار نظرته لما تمثله إيران، إلى «أنها ستكون، بلا شك، واحدة من القضايا الرئيسية في الحوار الذي سنقيمه مع الإدارة الأميركية الجديدة». ومن المرجح أن ينتهج الرئيس ترمب خطاً بالغ التشدد إزاء طهران، بحيث يذهب أبعد من التدابير التي اتخذها بحقها إبان ولايته الأولى. وثمة مراكز بحثية أميركية لا تتردد في الحديث عن اللجوء إلى ضربات عسكرية مشتركة إسرائيلية - أميركية ضد البرنامج النووي الإيراني.

حقيقة الأمر أن ماكرون أقام «مضبطة اتهام» بحق طهران وقادتها. وتشمل هذه المضبطة ما تعتبره باريس دوراً مزعزعاً للاستقرار في الشرق الأوسط وأبعد منه تقوم به طهران؛ في الإشارة إلى الدعم الذي تقدمه «للمجموعات التي تشكل خطراً في جميع مناطق المواجهة في الشرق الأوسط»؛ في إشارة إلى «حزب الله» و«حماس» و«المجموعات الميليشياوية في العراق»، فضلاً عن الحوثيين في اليمن.

غير أن أهم إعلان صدر عن ماكرون تناول إشارته إلى احتمال تفعيل الآلية المسماة «سناب باك» التي يعاد بفضلها الملف النووي إلى مجلس الأمن، ويمكن أن تعقبه إعادة فرض العقوبات الدولية على طهران.

وذهب ماكرون أبعد من ذلك، بإشارته إلى أن أمراً كهذا يمكن أن يحل في الخريف القادم. وقال ماكرون: «خلال الأشهر المقبلة، سيتعين أن نسأل أنفسنا ما إذا كان يتعين علينا استخدام... آلية إعادة فرض العقوبات على إيران»، مشيراً إلى أن أكتوبر (تشرين الأول) 2025، هو الموعد الذي تنتهي فيه اتفاقية 2015 رسمياً.

يأخذ الغربيون على إيران انخراطها في الحرب الروسية على أوكرانيا، كما أنهم يتخوفون من البرنامج الصاروخي - الباليستي الإيراني الذي يمكن أن يشكل تهديداً لأوروبا.

وتخطط باريس لأن يدور حوار واضح بينها وبين واشنطن حول سبل التعاطي مع إيران، التي تزايدت المخاوف الغربية منها بعد أن وصلت صواريخها إلى الأراضي الإسرائيلية. وخلال الاجتماعات الأخيرة لمجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية، صدرت قرارات قوية بخصوص إيران. بيد أن الدول الغربية وعلى رأسها الموقعة على الاتفاق النووي لعام 2015، امتنعت عن تفعيل آلية «سناب باك» لأسباب مختلفة ومتغيرة.

لكن يبدو أن الغربيين عازمون، أخيراً، على اجتياز خطوة مهمة فيما إيران أصيبت إقليمياً بالضعف بسبب حرب إسرائيل على «حماس» ولبنان وضرباتها ضد الأراضي الإيرانية نفسها وضد الحوثيين، ومؤخراً تدمير قدرات الجيش السوري العسكرية. لكن هذا التصعيد يترافق مع محاولات دبلوماسية للدول الأوروبية الثلاث - فرنسا وبريطانيا وألمانيا - للبحث عن مخارج دبلوماسية للأزمة مع إيران، ومن ذلك الاجتماع المقرر في 13 الجاري. وآخر ما تشكو منه باريس هو محاولات إيران الانغراس في أفريقيا، التي ترى فيها فرنسا إضراراً بمصالحها.

لبنان

المبعوث الأميركي آموس هوكستين مجتمعاً مع قائد الجيش اللبناني العماد جوزف عون (أ.ف.ب)

لم يأت الرئيس الفرنسي بجديد بالنسبة للبنان «حيث لفرنسا تاريخ طويل والكثير من المواطنين والأصدقاء». وما يسعى إليه ماكرون هو توفير الهدوء على طول «الخط الأزرق»، من خلال مشاركة وحدات فرنسية في قوة «اليونيفيل»، وتسهيل انتشار الجيش اللبناني «بشكل حاسم» جنوب نهر الليطاني وامتداداً حتى الحدود مع إسرائيل.

ولم يتوقف ماكرون طويلاً عند العقبات التي يواجهها وقف إطلاق النار والشكاوى الكثيرة التي تقدم بها لبنان ضد الانتهاكات الإسرائيلية، التي لا تحترم الآلية التي توصلت إليها فرنسا بالتشارك مع الولايات المتحدة. كذلك بقي ماكرون عند العموميات فيما يخص موضوع الفراغ المؤسساتي وعملية انتخاب رئيس جديد للجمهورية، مذكراً بالحاجة لإنجاح المسار السياسي، ومشيراً إلى الجهود التي يبذلها ممثله الوزير السابق جان إيف لو دريان في هذا الخصوص.

وبحسب ماكرون، فإن انتخاب رئيس جديد «يمثل الخيار الحاسم الذي من شأنه توفير السيادة اللبنانية، ويفتح الطريق لتشكيل حكومة قادرة على القيام بالإصلاحات الضرورية».

الاعتراف بدولة فلسطين

الدمار والخراب في قطاع غزة بعد أكثر من عام من القصف الإسرائيلي المتواصل (أ.ف.ب)

كالعادة، ذكّر ماكرون بـ«الصداقة التاريخية» بين فرنسا وإسرائيل وتضامنه معها «في مواجهة الهمجية التي ظهرت في هجمات» «حماس» في 7 أكتوبر 2023، وضرورة إطلاق سراح الرهائن. كذلك أعرب ماكرون عن «تفهم بلاده لحاجة إسرائيل بألا تتكرر أمور كهذه وأن تضمن أمنها... ومما شدد عليه اعتباره أن الضربات الإسرائيلية (المستهدفة) في لبنان وسوريا وإسرائيل غيرت الوضع الاستراتيجي في الشرق الأوسط، ما يرتب علينا جميعاً استخلاص النتائج وفتح أفق لسلام صلب ودائم وآمن للجميع في المنطقة».

وبحسب ماكرون «لا يمكن بناء هذا النوع من السلام على الأمن وحده، إذ يجب أن ينطوي على العمل الإنساني والسياسي، وهو شرط أساسي مطلق، أولاً وقبل كل شيء في غزة». وأضاف ماكرون: «لا يوجد أي مبرر عسكري لاستمرار العمليات الإسرائيلية والعرقلة المتعمدة للمساعدات الإنسانية، ولاستمرار العوز الشديد وحالة الجوع التي وصل إليها السكان المدنيون» في القطاع، معتبراً أنه ينبغي على إسرائيل «أن تضع حداً للحرب دون مزيد من التأخير، وأن تعترف بأن لديها شركاء للسلام، وأن تلتزم بتسوية عادلة ودائمة للقضية الفلسطينية، وذلك بالتنسيق مع جميع دول المنطقة بشأن غزة، والحفاظ على الأوضاع السياسية في الضفة الغربية وغزة».

ورغم سوداوية الوضع، يرى ماكرون أن «السلام ممكن، حيث إن المملكة العربية السعودية وشركاءنا العرب من ذوي النوايا الحسنة، (الأردن ومصر وقطر والإمارات العربية المتحدة) على وجه الخصوص، ملتزمون بذلك، وفرنسا قدمت ولا تزال تقدم دعمها الكامل».

وحث ماكرون الأوروبيين على العمل في هذا الاتجاه، وبالتنسيق مع الشركاء العرب، «من أجل حل الدولتين، مع احترام الاحتياجات الأمنية للإسرائيليين والتطلعات المشروعة للفلسطينيين».

ودعا الرئيس الفرنسي إلى «بناء إطار جديد للأمن والتعاون في الشرق الأوسط» مشيراً إلى أن «هذا هو هدف المؤتمر الدولي الذي بادرنا به مع المملكة العربية السعودية، والذي سيعقد في نيويورك في يونيو (حزيران) المقبل. وسيكون علينا أن نجعل من هذا المؤتمر لحظة حاسمة». واختتم كلامه بالإشارة إلى أن فرنسا «يمكنها من هذا المنطلق التحرك نحو الاعتراف بدولة فلسطين».