«النهضة» والحركة الإنسانية

عودة إلى الأصالة والتراث في أوروبا

TT

«النهضة» والحركة الإنسانية

لا خلاف على وجود محطات مُتفق عليها تمثل علامات الانتقال السياسي والاقتصادي والثقافي في المجتمعات من مرحلة إلى مرحلة أخرى، وتكون هذه العناصر مترابطة إلى درجة كبيرة. ومن هذا المنطلق، فالحركة الفكرية الملقبة بـ«النهضة» (Renaissance) التي بدأت في منتصف القرن الخامس عشر في شبه الجزيرة الإيطالية تمثل في واقع الأمر بداية الانطلاقة الأوروبية، ومحطتها الفعلية الأولى للخروج من العصور المظلمة والوسطي، وهي تمثل في الوقت نفسه أحد الجذور الفكرية والثقافية التي بُني عليها مفهوم الحداثة، فهي الحركة التي أطلقت العنان للتحرر من القيود التقليدية التي ظلت تضغط على المجتمع الأوروبي، وتجذبه نحو التشدد والتضييق الفكري، وقد تزامن معها - أو حتى سبقها - تيار معروف بـ«الحركة الإنسانية» (Humanism). ومن خلال هذه التوأمة بُنيت محطة تحرر فكري وثقافي غيرت مجري تاريخ أوروبا، وأثرت في التاريخ البشري بصفة عامة.
لقد بدأت حركة «النهضة» في إيطاليا كحركة شاملة تدعو إلى العودة للكلاسيكيات، باعتبارها حركة رافضة لسيطرة الكنيسة على الأمور الحياتية، بتشدد فكري وسلوكي مقرون بالعنف في بعض الحالات، إضافة إلى بداية حركة علمية مرتبطة بدراسة الظواهر الطبيعية، بعيداً على الأبعاد الميتافيزيقية وتفسيرات الكتب المقدسة. وقد ارتبط ظهور هذه الحركة بعدد من المتغيرات الدولية، على رأسها بداية الحركة التجارية الإيطالية، خصوصاً مع الشرق الأقصى، التي أدت لظهور جذور الرأسمالية في شكلها البدائي. ومن ناحية أخرى، فقد تزامنت هذه الحركة مع سقوط القسطنطينية على أيدي العثمانيين في 1453، الذي أدي إلى هروب كثير من العلماء والأدباء إلى شبه الجزيرة الإيطالية، مما أحدث زخماً إضافياً أثرى هذه الحركة بحقن الفكر اللاتيني السائد في إيطاليا بالروح والثقافة اليونانية، بعد غياب الاتصال القوي لقرون بينهما.
لقد ربطت انطلاقة حركة «النهضة» التقدم الفكري الأوروبي بمحددات قوية على مدار القرون الثلاثة التالية، فوضعت له الإطار الفكري والأدبي والعلمي والفني الذي غير من المسار التقليدي لأوروبا. وفي هذا السياق، نجد ثلاثة محاور رئيسية ميزت هذه الحركة، وهي:
أولاً: التركيز على العناصر الكلاسيكية التي كانت سائدة قبل سيطرة الكنيسة على مجالات الأدب والفن والفكر اللاتيني التقليدي المرتبط بالدولة الرومانية وعظمتها على مدار قرون ممتدة.
ثانياً: التركيز على ما سمي الأبعاد «العلمانية» للحياة الإنسانية، في محاولة لتطليق الفكر الكنسي السائد الذي رؤى أنه أدى إلى إجهاض الإبداع والفن، خصوصاً أنه كان مرتبطاً بالفكر الكنسي المقرون فقط بتعاليم الكنيسة المستندة إلى التفسيرات المختلفة، فالفن كان مرتبطاً بتجسيد مشاهد من العهدين القديم والجديد، وهو ما تم استبداله بحركات فنية مرتبطة بالإنسان والطبيعة، مرتكزة على مفاهيم إنسانية بحتة، على أساس أن الإنسان ليس خطيئة، سواءً في جسده أو حمله للخطيئة الأولى وارتباطه بالخلاص الكنسي.
ثالثاً: ونتيجة لهذين العنصرين، فقد تجسدت الحركة في إيلاء التركيز الكامل على الفنون الليبرالية، وعلى رأسها عظمة الطبيعة والإنسان، وتبجيل علم الجمال، وهو ما ساهم مباشرة في انتشار فنون النحت والرسم، وارتباطهما بالماضي وتجسيد الحاضر، فطهرت أعمال دا فينشي، ورفائيل، ومايكل أنجليو، إلخ.
وعلى الصعيد الأدبي، فقد بدأت في أوروبا جذور ما يعرف بـ«الحركة الإنسانية» (Humanism)، التي ظهرت إرهاصاتها قبيل حركة «إعادة النهضة»، والتحمت معها بحلول نهاية القرن الخامس عشر، مستندة إلى العودة لجذور الفكر والأدب اللاتيني، تستوحي من عظماء الأدباء والمفكرين الرومان، مثل ليفي والشاعر أوفيد وفيرجيل وهوراتيو وشيشيرون، إلخ. فكان رائد هذه الحركة الأديب العظيم بترارك (Petrarch) الذي سعى لمد الجسر الفكري بين الأدب السائد والمرتبط بالمسيحية من ناحية، والتراث اليوناني-اللاتيني لأوروبا من ناحية أخرى، وسرعان ما تبعه بوكاشيا، أحد أبرز الأدباء، برائعته الأدبية «دي كاميروني» التي يحكي فيها بصيغة أدبية وشعرية متميزة حياة عشرة أفراد هربوا من الطاعون، فيحصل على لقب «مؤسس الرواية الحديثة»، وكان له أكبر الأثر على شكسبير وغيره من الأدباء الذين أتوا فيما بعد. وقد ساهم في انتشار هذه الحركة بقوة ظهور أول مطبعة في إيطاليا في 1464، مما ساعد على انتشار هذا الأدب بشكل محدث، وأصبح في متناول الكثير، فصارت مدينة فلورنسا مركزاً للحركتين الإنسانية والنهضة معاً.
لقد وضعت الحركتان بالفعل الأساس الثقافي لتحول القارة الأوروبية ثقافياً وأدبياً وفنياً، بل وسياسياً، خلال القرون التالية، فلم يعد بمقدور الكنيسة أو أي مؤسسات أخرى الوقوف أمام هذا التيار الجديد الذي ساهم في تغيير دفة الثقافة للقارة الأوروبية، وبدأ ينتشر كالنار في الهشيم، خصوصاً بعدما أدى الغزو الفرنسي لشمال إيطاليا إلى نقل هذه الحركة نحو الشمال تدريجياً مع مطلع القرن السادس عشر. وهكذا، فُتح الباب على مصراعيه من خلال امتزاج حركتين: الأولى فنية جمالية، والثانية أدبية فلسفية، لميلاد رؤية فكرية جديدة في أوروبا في مطلع القرن الخامس عشر، جسدتها شخصية قليلاً ما تتكرر في تاريخ الأدب والفكر، وهي «إيراسموس» الهولندي الذي لُقب بـ«أبي الإنسانية».



هند الفهاد: أنحاز للأفلام المعبرة عن روح المغامرة

هند الفهاد على السجادة الحمراء مع لجنة تحكيم آفاق عربية (إدارة المهرجان)
هند الفهاد على السجادة الحمراء مع لجنة تحكيم آفاق عربية (إدارة المهرجان)
TT

هند الفهاد: أنحاز للأفلام المعبرة عن روح المغامرة

هند الفهاد على السجادة الحمراء مع لجنة تحكيم آفاق عربية (إدارة المهرجان)
هند الفهاد على السجادة الحمراء مع لجنة تحكيم آفاق عربية (إدارة المهرجان)

عدّت المخرجة السعودية هند الفهاد مشاركتها في لجنة تحكيم مسابقة «آفاق السينما العربية» بمهرجان القاهرة السينمائي في دورته الـ45، «تشريفاً تعتز به»، ومسؤولية في الوقت نفسه، مؤكدة أن «السينما العربية حققت حضوراً جيداً في المهرجانات الدولية». وأشارت، في حوارها مع «الشرق الأوسط»، إلى أنها تنحاز للأفلام التي تُعبر عن أصالة الفكرة وروح المغامرة، منوهة بعملها على فيلمها الطويل الأول منذ 3 سنوات، لكنها لا تتعجّل تصويره؛ كون الأفلام الطويلة تتطلّب وقتاً، ولا سيما الأفلام الأولى التي تحمل تحديات على صُعُد القصة والإنتاج والممثلين، مُشيدة بالخطوات التي قطعتها السينما السعودية عبر أفلام حقّقت صدى محلياً ودولياً على غرار «نورة» و«مندوب الليل».

بدأت هند الفهاد عملها عام 2012، فأخرجت 4 أفلام قصيرة شاركت في مهرجانات عدة وهي: «بسطة» الذي فاز بجائزة في «مهرجان دبي» 2015، و«مقعد خلفي»، و«ثلاث عرائس وطائرة ورقية»، و«المرخ الأخير» الذي جاء ضمن فيلم «بلوغ»، وتضمّن 5 أفلام قصيرة لـ5 مخرجات سعوديات، وشارك قبل 3 أعوام في «مهرجان القاهرة السينمائي».

وبين حضورها المهرجان في أحد أفلامها قبل سنوات، ومشاركتها بلجنة تحكيم العام الحالي، ترى هند الفهاد فرقاً كبيراً، موضحة: «أن أكون مشاركة في فيلم ويعتريني القلق والترقب شيء، وأن أكون أحد الأعضاء الذين يُسمّون هذه المشروعات شيء آخر، هذا تشريف ومسؤولية، إذ أشاهد الأفلام بمنظور البحث عن الاختلاف والتميز وأساليب جديدة لصناع أفلام في تناول موضوعاتهم، وأجدني أنحاز للأفلام التي تعبّر عن أصالة الفكرة وتقدم حكاية لا تشبه أي حكاية، وتنطوي على قدر من المغامرة الفنية، هذه من الأشياء المحفزة في التحكيم، وقد ترأستُ قبل ذلك لجنة تحكيم أفلام الطلبة في مهرجان أفلام السعودية».

لا تتعجل الفهاد فيلمها الطويل الأول (الشرق الأوسط)

وعن رؤيتها للسينما العربية بعد مشاهدتها أحدث إنتاجاتها في «مهرجان القاهرة»، تقول هند الفهاد: «لا شك في أنها قطعت خطوات واسعة في السنوات الأخيرة بحضورها في المهرجانات الكبرى؛ لأن لدينا حكايات تخصّنا، وهناك مخرجون ومخرجات أثبتوا حضورهم القوي عبر أفكار وأساليب متباينة، وأنا أقول دائماً إن الفكرة ليست في القصة، وإنما في كيف تروي هذه القصة ليتفاعل معها الجمهور في كل مكان».

وتكشف المخرجة السعودية عن استعدادها لتصوير فيلمها الروائي الطويل الأول الذي تعمل عليه منذ سنوات، قائلة: «كتبته المخرجة هناء العمير، ووصلنا أخيراً لنسخة السيناريو المناسبة، لكن الأفلام الطويلة، ولا سيما الأولى تحتاج إلى وقت للتحضير، خصوصاً إذا كان في المشروع تحديات على صُعُد القصة والممثلين والإنتاج».

وتتابع هند: «لم أحدّد بعدُ توقيت التصوير. وعلى الرغم من أنه مشروعي الأساسي، لكن هناك مشروعات أخرى أشتغل عليها، وفي تعدّدها أضمن استمرارية العمل لأكون حاضرة في المجال، فقد تكون هناك فكرة رائعة، لكن حين تُكتب نكتشف أنه من الصعب تنفيذها، لأسباب عدة».

وعن نوعية الفيلم تقول: «اجتماعيّ دراميّ، تدور أحداثه في غير الزمن الحالي. وانتهت مرحلة تطوير النص لفيلمي القصير، ووصل إلى النسخة المناسبة، وأنا، الآن، أختار أبطاله، وهو يروي حكاية تبدو في ظاهرها بسيطة، وتحمل أوجهاً عدّة، فأنا لا أُعدّ الأفلام القصيرة مرحلة وانتهت، بل أحب العمل عليها بشغف كبير في ظل ما أريده، والمعطيات من حولي وكيف أتقاطع مع هذه الأشياء».

وحاز مشروع فيلمها الطويل «شرشف» على منحة إنتاج من معمل البحر الأحمر، وترى هند الفهاد أن التّحدي الحقيقي ليس في التمويل؛ لأن النص الجيد والسيناريو المكتمل يجلبان التمويل، مُشيدة بتعدّد جهات الدعم في المملكة من منطلق الاهتمام الجاد بالسينما السعودية لتأسيس بنية قوية لصناعة السينما أوجدت صناديق تمويل متعددة.

وعلى الرغم من عمل هند الفهاد مستشارة في تطوير المحتوى والنصوص الدرامية، فإنها تواصل بجدية الانضمام إلى ورش السيناريو؛ بهدف اكتساب مزيد من الخبرات التي تُضيف لها بصفتها صانعة أفلام، وفق تأكيدها.

هند الفهاد على السجادة الحمراء مع لجنة تحكيم آفاق عربية (إدارة المهرجان)

بدأت هند الفهاد مشوارها قبل القفزة التي حققتها صناعة السينما السعودية. وعن ذلك تقول: «كنا نحلم بخطوة صغيرة فجاءنا بحرٌ من الطموحات، لذا نعيش لحظة عظيمة لتمكين المرأة ورعاية المواهب المحلية بشكل عام، وقد كنّا نتطلع لهذا التّحول، وأذكر في بداياتي أنه كان وجود السينما أَشبه بالحلم، لا شك في أن نقلة كبيرة تحقّقت، لكن لا تزال التجربة في طور التشكيل وتتطلّب وقتاً، ونحن مهتمون بتطوير المواهب من خلال مشاركتها في مشروعات عربية وعالمية لاكتساب الخبرات، وقد حقّقت أعمالٌ مهمة نجاحاً دولياً لافتاً على غرار (نورة) و(مندوب الليل)».

وتُعبر هند الفهاد عن طموحاتها قائلة: «أتطلع لأحكي قصصنا للعالم، فالسينما هي الصوت الذي يخترق جميع الحواجز».