السياسة الخارجية الإيرانية... المغامرة الإقليمية مستمرة

علاقات معقدة بين إيران وجيرانها العرب على مدى أربعين عاماً من الثورة

السياسة الخارجية الإيرانية... المغامرة الإقليمية مستمرة
TT

السياسة الخارجية الإيرانية... المغامرة الإقليمية مستمرة

السياسة الخارجية الإيرانية... المغامرة الإقليمية مستمرة

أدت ثورة 1979 في إيران ونظرتها لدول الجوار إلى مواقف سلبية بين غالبية الشعوب والحكومات في دول الجوار العربية. سرعان ما انقلبت بارقة الأمل، خلال فترة ما قبل الثورة، بشأن تغيير في العلاقات بين إيران والدول العربية مع ثورة الخميني، وتحولت إلى يأس.
واتسعت الهوة بين إيران وجيرانها جراء الخطابات الحادة والخارجة على الأعراف الدبلوماسية للمسؤولين الإيرانيين والمقربين من النظام ضد الدول العربية فضلا عن السعي وراء تصدير الثورة.
تورطت إيران تدريجيا بتدخلات إقليمية وخاصة في شؤون لبنان وفلسطين والعراق وسوريا واليمن والبحرين والسعودية عبر دعم لوجيستي وعسكري لجماعات مسلحة وميليشيات مصنفة على قوائم الإرهاب العالمية.

تحظى دراسة علاقات إيران والدول العربية بأهمية بالغة نظرا للحدود المشتركة بينهما من أربعة أقاليم. لكن لا اختلاف بين الباحثين الإيرانيين على أن مستوى العلاقات على مدى أربعين عاما لم يكن في المستوى المطلوب. لكن الحدث الأكثر أهمية وتأثيرا في علاقات الجانبين خلال السنوات العشر الأولى من عمر النظام الإيراني، هو حرب الخليج الأولى التي عرفت بالعراق باسم «قادسية صدام» وفي إيران باسم «الدفاع المقدس». هذه الحرب التي تركت وراءها على مدى ثمانية أعوام، مليون قتيل، ولكن بمجرد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية وبداية حرب الخليج الثانية بعد احتلال العراق للكويت، بدأت إيران ترتيب أوراق اللعب الإقليمي. حاولت إيران فتح صفحة جديدة وانتهاز الفرصة للتقرب من الدول العربية لأن خسائر الحرب ونتائجها الاقتصادية كانت تتطلب البدء بمرحلة جديدة قادها الرئيس الإيراني الأسبق علي أكبر هاشمي رفسنجاني.
نجح هاشمي رفسنجاني والحكومتان الإصلاحيتان بقيادة خاتمي تدريجيا في حل العديد من النزاعات مع دول الجوار وإقامة علاقات ودية لكن وصول الرئيس المحافظ محمود أحمدي نجاد وتنامي الدور الإيراني بالعراق في العامين الأخيرين لولاية محمد خاتمي، وتصاعد الضغوط الدولية على الملف النووي الإيراني، أدت في مجموعها إلى تراجع العلاقات والدخول في أسوأ فترة منذ الثورة الإيرانية. وكان حسن روحاني وعد بتحسين علاقات إيران مع دول الجوار في انتخابات الرئاسة 2013 لكنه فشل في إحراز أي تقدم حتى الآن نتيجة التمدد الإيراني الإقليمي بعد أحداث الربيع العربي وعودة سياسة تصدير الثورة إلى أولويات السياسة الإقليمية الإيرانية. لذا يمكن اعتبار سجل علاقات إيران وجيرانها العرب خلال فترة ثلاثة عقود على نهاية الحرب الخليج الأولى، كانت في نصفها الأول أفضل من نصفها الثاني، وإن ثنائيات هاشمي رفسنجاني (الرئيس) وعلي أكبر ولايتي (وزير الخارجية) ومحمد خاتمي وكمال خرازي كانت أفضل من ثنائيات محمود أحمدي نجاد- منوشهر متكي وحسن روحاني ومحمد جواد ظريف.
وإذا ما أخذنا صلاحيات المرشد الإيراني في تعيين وزير الخارجية ودوره في السياسية الخارجية بشكل عام، فإن مستوى العلاقات مع الجيران العرب خلال 15 عاما الأولى من ولاية خامنئي كانت أفضل نسبيا من 15 عاما الثانية والمستمرة حتى الآن.

ماذا يقول الإيرانيون؟
بينما تواجه إيران اتهامات من الأميركيين والدول العربية في الشرق الأوسط بالتدخل في شؤون الدول الأخرى، فإن المرشد الإيراني علي خامنئي في خطاب بيوم 23 نوفمبر (تشرين الثاني) 2017 دافع عن التدخلات الإيرانية واعتبرها سياسة النظام الإيراني وقال في تبرير ذلك إن «إيران ستكون حاضرة في أي مكان يساعد حضورها على مواجهة الكفر والاستكبار». وكان خامنئي يعلن حينها على الدور الإيراني في العراق وسوريا. لم تمض ساعات على خطابه حتى أعلن قائد «الحرس الثوري» محمد علي جعفري، في اعتراف غير مسبوق بأن إيران «تقدم الدعم الاستشاري لليمن» وذلك في إشارة صريحة إلى دور عناصر «الحرس الثوري» في تدريب وتقديم الأسلحة لجماعات الحوثي المتمردة.
وفي عدة مناسبات، دافع وزير الخارجية الإيراني الحالي عن سياسة بلاده في الشرق الأوسط وكتب مقالا بمجلة «ذي أتلانتك الأميركية» أكتوبر (تشرين الأول) 2017 قال فيه إن «إيران لم تهاجم دولة أخرى خلال ثلاثة قرون تقريبا عندما كانت أقوى وأقدم دولة مستقلة من أي دولة من جيرانها تقريبا» ومع ذلك، قال: «الشؤون العربية هي شأن إيران أيضا، لن نتردد بأن إيران معنية بالشؤون العربية، كيف لا تكون معنية؟ نحن نتشارك الحدود والمياه والموارد، وعندما نستخدم المجال الجوي لبعضنا، لا يمكن إلا نكون معنيين بكيف يؤثر جيراننا على تلك البقعة من العالم التي نسكنها».
ويعد ظريف أحد المسؤولين الإيرانيين الذي تلقى تعليمه في الولايات المتحدة ويحاول توظيف أساليب المدرسة الأميركية في تسويق سياسات إيران على المستوى الدولي. ويعرب عن اعتقاد في المقال بأن «مصالح إيران في شؤون المنطقة ليست خبيثة وإنما المصالح مفيدة للاستقرار» وقال «نحن لا نرعب بأي نظام في جوارنا، مطلبنا - في المبادئ والعمل- هو أن تتمتع جميع دول المنطقة من الأمن والسلم والاستقرار».

نقطة تحول في علاقات إيران
والجوار الخليجي

في تطور كبير على صعيد العلاقات العربية - الإيرانية هاجم فريق من قوات الباسيج المحسوبة على «الحرس الثوري» الإيراني في الثاني من يناير (كانون الثاني) 2016 مقر السفارة والقنصلية السعودية وهو ما ردت عليه الرياض بطرد البعثة الدبلوماسية الإيراني وقطع العلاقات مع طهران وأدان مجلس الأمن بشدة تجدد الهجوم على السفارات في طهران.
في نهاية ذلك الشهر، نشرت الخارجية السعودية مذكرة حول 85 عملا مدمرا للنظام الإيراني أثار سخطا دوليا بعد الثورة. وفقا لهذه القائمة، فإن إيران وجماعات تدين لها بالولاء اتخذت سلسلة من الإجراءات في لبنان مثل خطف 96 أجنبيا في لبنان عام 1982. وتفجير السفارة الأميركية في بيروت، والهجوم الانتحاري على البحرية الأميركية والقاعدة العسكرية الفرنسية في لبنان عام 1983.
وفي الوقت ذاته تعرضت سفارات أميركا وفرنسا في الكويت للهجوم وتعرضت ناقلات النفط للقصف في الخليج. وفي 1985 فشلت محاولة اغتيال الشيخ جابر الأحمد الصباح. بعد ذلك بعام حرضت إيران حجاجها على إثارة الشغب بهدف تخريب موسم الحج وهو ما أدى إلى مقتل 300 شخص. وفي العام ذاته أحرق عناصر «حزب الله الحجاز» ورشة بالمجمع النفطي برأس تنورة شرق وهاجموا شركة «صدف» بمدينة الجبيل الصناعية شرق السعودية.
وفي 1987. أحبطت محاولة إيران لتهريب متفجرات مع حجاجها وتورط النظام الإيراني في اغتيال الدبلوماسي السعودي مساعد الغامدي في طهران، تم الاعتداء أيضا على القنصل السعودي في طهران رضا عبد المحسن النزهة، من قوات «الحرس الثوري» الإيراني وأطلقت سراحه بعد محادثات بين البلدين.
استقلال البحرين
والجزر الإماراتية الثلاث

بعد الثورة الإيرانية اعتبر نظام ولاية الفقيه إنهاء احتلال البحرين من «كبريات خيانات الشاه». وعلى أربعين عاما تعود المزاعم الإيرانية إلى الواجهة كلما توترت العلاقات. وفي زمن أحمدي نجاد أخذت المزاعم الإيرانية أطوارا جديدة. وفي 2007 نشرت صحيفة «كيهان» التابعة لمكتب المرشد الإيراني مقالا مثيرا للجدل حول «تابعية» البحرين لإيران. وشكلت المزاعم الإيرانية ركيزة لدعم إيران أعمالا تخريبية عبر تجنيد خلايا إرهابية بهدف زعزعة استقرار البحرين وهو ما أكدته مرارا الحكومة البحرينية بتوجيه أصابع الاتهام إلى طهران وتحديدا «الحرس الثوري».
من جانب آخر، فإن إيران دأبت على رفض الدعوات للتحكيم الدولي حول الجزر المتنازع عليها في الخليج العربي وشكلت قضية الجزر الإماراتية أبرز محاور الخلاف بين إيران والعالم العربي على مدى أربعة عقود. في 11 أبريل (نيسان) 2011 زار الرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد جزيرة أبو موسى وهو ما تسبب في زيادة التوتر بين الجانبين. وأدان مجلس التعاون الخليجي زيارة الرئيس الإيراني لكن خطوة أحمدي نجاد فتحت مسارا جديدا للمسؤولين الإيرانيين الذين يصرون على زيارة جزيرة أبو موسى كلما زادت الضغوط الدولية على إيران لتعديل مسارها الإقليمي. في الشهر الماضي زار رئيس الأركان محمد باقري وقائد «الحرس الثوري» محمد علي جعفري الجزيرة لتحدي القوات الأميركية حول البرنامج الصاروخي الإيراني واحتواء تهديدات إيران الإقليمية.

رد الدول العربية
على دعم إيران للإرهاب

لطالما اشتكت الدول العربية من تجاهل إيران لمبادئ حسن الجوار وسيادة الدول المجاورة، انطلاقا من ذلك وجهت 11 دولة عربية في نوفمبر 2016 رسالة إلى الأمم المتحدة احتجاجا على استمرار سياسات إيران التوسعية في المنطقة.
وفي أبريل 2018. جدد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز الإدانة الشديدة للأعمال الإرهابية التي تقوم بها إيران في المنطقة العربية، ورفضه تدخلاتها السافرة في الشؤون الداخلية للدول العربية وقال: «ندين محاولاتها العدائية الرامية إلى زعزعة الأمن وبث النعرات الطائفية لما يمثله ذلك من تهديد للأمن القومي العربي وانتهاك صارخ لمبادئ القانون الدولي».
قبل ذلك بعدة أشهر، قال وزير خارجية البحرين: «نؤكد على أن قيام علاقات طبيعية مع إيران، يبقى مرهونا بتخليها عن سياسات الهيمنة الطائفية والمذهبية، واحترام قيم المواطنة لدى الشعوب، والكف عن محاولات تصدير ثورتها القائمة على ولاية الفقيه، والالتزام بمبادئ حسن الجوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية» وقال في نفس الخطاب إن النظام «يهدر ثروة شعبه وأمواله، وتسخيرها لتغذية العنف وتقويض الأمن في المنطقة، لتحقيق طموحاته في الهيمنة والتوسع، من خلال حرسه الثوري، ودعمه للتنظيمات الإرهابية التابعة له، ومن بينها حزب الله الإرهابي في لبنان وسوريا، والميلشيات الانقلابية في اليمن، والجماعات والخلايا الإرهابية في كل من البحرين والسعودية والكويت والعراق، وغيرها من الدول التي عانت من هذه التصرفات العدائية لسنوات طويلة».
والشهر الماضي، حذر ملك الأردن عبد الله الثاني خلال فعاليات المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس، من خطر السلوك الإيراني بسبب دعمها للميليشيات وقال «أحذّر من دقّ طبول الحرب لأن ذلك لن يعود بالنفع على أي منا. وآمل أن نتمكن عبر الحوار من التوصل إلى تفاهم».
وفي نفس المنتدى قال رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري: «إيران دولة يجب أن نتعامل معها، أنا كرئيس مجلس الوزراء في لبنان أريد أن تجمعني أفضل العلاقات بإيران، ولكن أن تكون هذه العلاقات من دولة إلى دولة» مضيفا «ربما إيران هي تحدٍ في المنطقة لكن الحوار هو جزء من حل هذا التحدي، وهذا ما نتطلع إليه، لا يمكن لإيران أن تتدخل في اليمن».
في سبتمبر (أيلول) الماضي، أكد وزير الخارجية الإمارات عبد الله بن زايد آل نهيان، في خطاب في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، أن إيران عبر تدخلاتها في شؤون دول المنطقة تقوّض الأمن وتنشر الإرهاب والطائفية، وقال: «امتد التوغل الإيراني إلى حد وصلت تهديداتها إلى المملكة العربية السعودية واليمن، حيث تتعرض المملكة إلى وابل من الصواريخ الباليستية الإيرانية» ودعا من هناك إلى توحيد الموقف الدولي ضد التهديدات الإيرانية، وكذلك برنامجها لتطوير الصواريخ، ودعمها الإرهاب.
قد ينقلب السحر على الساحر
الدور الإيراني الإقليمي لا يثير قلقا دوليا فحسب، إنما القلق يتزايد كل يوم بين الإيرانيين وأعربوا عن استيائهم خلال احتجاجات الحركة الخضراء في 2009. كما تنوعت شعارات الغضب في أكبر موجة احتجاجات شعبية في يناير 2018. بحسب الخبراء فإن هذا القلق يضع إيران على حافة اضطرابات عرقية في الداخل وقد تمتد إلى مناطق جوار إيران. يدرك الإيرانيون أن غضب الرأي العام في دول الجوار يتعمق كل يوم وهو ما يعرض حدود إيران لتحديات وأظهر استطلاع رأي أجراه مركز الأبحاث الاستراتيجية التابع للرئاسة الإيرانية وشمل 4500 بعد أيام قليلة من تراجع احتجاجات يناير 2018، أن 13 في المائة يعتقدون أن استياء الإيرانيين من دورها الإقليمي وراء الاحتجاجات وفي نفس الاستطلاع قال 74.8 من المشاركين بأنهم مستاؤون من أوضاع البلاد.



فرنسا لمواجهة «التحدي الاستراتيجي» الإيراني

الرئيس إيمانويل ماكرون ورئيس حكومته فرنسوا بايرو في أثناء حضورهما تجمعاً بمناسبة مرور 10 سنوات على الهجوم على صحيفة «شارلي إيبدو» الساخرة وسوبر ماركت يهودي في باريس (رويترز)
الرئيس إيمانويل ماكرون ورئيس حكومته فرنسوا بايرو في أثناء حضورهما تجمعاً بمناسبة مرور 10 سنوات على الهجوم على صحيفة «شارلي إيبدو» الساخرة وسوبر ماركت يهودي في باريس (رويترز)
TT

فرنسا لمواجهة «التحدي الاستراتيجي» الإيراني

الرئيس إيمانويل ماكرون ورئيس حكومته فرنسوا بايرو في أثناء حضورهما تجمعاً بمناسبة مرور 10 سنوات على الهجوم على صحيفة «شارلي إيبدو» الساخرة وسوبر ماركت يهودي في باريس (رويترز)
الرئيس إيمانويل ماكرون ورئيس حكومته فرنسوا بايرو في أثناء حضورهما تجمعاً بمناسبة مرور 10 سنوات على الهجوم على صحيفة «شارلي إيبدو» الساخرة وسوبر ماركت يهودي في باريس (رويترز)

استكمل وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو، اليوم الثلاثاء، «مضبطة الاتهامات» ضد إيران التي طرحها الرئيس إيمانويل ماكرون في كلمته أمام السلك الدبلوماسي، الاثنين، والتي لم تتضمن ملف الرهائن الفرنسيين المحتجزين في إيران منذ عام 2022.

وبذلك، أضاف بارو مدماكاً إضافياً إلى المداميك العديدة التي تؤدي إلى تصعيد التوتر في العلاقات الفرنسية - الإيرانية.

يعكس كلام بارو شكلاً من أشكال الإحباط بسبب فشل باريس في الحصول على الإفراج عن مواطنيها الثلاثة: سيسيل كوهلر ورفيق دربها جاك باريس ومواطن ثالث لم يكشف سوى عن اسمه الأول، أوليفيه، الذين ما زالوا محتجزين في إيران، علماً بأن السلطات الإيرانية قد وافقت سابقاً وفي فترات مختلفة على تحرير عدد من الفرنسيين.

رداً على ذلك، دعا بارو الفرنسيين، الثلاثاء، إلى الامتناع عن التوجه إلى إيران انتظاراً لـ«الإفراج الكامل» عن «رهائن الدولة»، كما تسميهم باريس.

وجاء في تصريحاته حرفياً: «أقول للسلطات الإيرانية: يجب الإفراج عن رهائننا. علاقاتنا الثنائية ومستقبل العقوبات يعتمد على ذلك. أدعو مواطنينا، وحتى يتم الإفراج الكامل عن رهائننا، إلى عدم التوجه إلى إيران».

وأفاد بارو بأنه «منذ انتخاب الرئيس (مسعود) بزشكيان، ورغم الجهود التي بذلناها على أعلى مستوى، فقد تدهورت أوضاعهم».

بارو يُلقي خطاباً بجانب وزير الخارجية البولندي رادوسواف سيكورسكي خلال المؤتمر السنوي للسفراء الفرنسيين الاثنين (رويترز)

وترفض باريس، قطعياً، الاتهامات الموجهة لمواطنيها الثلاثة، ومنها التجسس لصالح قوة أجنبية. ولم يتردد الوزير الفرنسي في اتهام إيران بممارسة التعذيب ضد الثلاثة بقوله: «إن وضع مواطنينا المحتجزين كرهائن في إيران غير مقبول بكل بساطة، فهم محتجزون ظلماً منذ عدة سنوات، في ظروف غير لائقة تندرج بالنسبة للبعض ضمن تعريف التعذيب بموجب القانون الدولي».

دبلوماسية الرهائن

ليس ملف احتجاز الرهائن في إيران جديداً، لا بالنسبة لفرنسا أو للبلدان الأوروبية ولدول أخرى. وآخر ما استجد توقيف الصحافية الإيطالية سيسيليا سالا في طهران يوم 19 ديسمبر (كانون الأول) بحجة «انتهاك القوانين الإيرانية»، الأمر الذي أثار حفيظة الحكومة الإيطالية.

كما أنه ليس سراً أن السلطات الإيرانية تلجأ إلى اعتماد سياسة الرهائن لمقايضتهم بمواطنين إيرانيين مسجونين في البلدان الغربية، والأدلة على ذلك عديدة.

وفي حالة فرنسا، فإن ما يثير استغرابها أن طهران لا تأخذ بعين الاعتبار حرص باريس على استمرار التواصل معها الدبلوماسي على أعلى المستويات. لكن اللافت أن وزير الخارجية ربط، وللمرة الأولى، كما تقول مصادر فرنسية، بين ملف الرهائن، وتواصل العقوبات على إيران. ويبدو أن بارو تعمد الغموض من حيث امتناعه عن تحديد العقوبات التي أشار إليها، وما إذا كانت مرتبطة فقط بمسألة الرهائن أم بالملفات الخلافية العديدة القائمة مع طهران، والتي شكلت لـ«مضبطة الاتهامات» التي فصّلها ماكرون.

أشخاص يشاركون الثلاثاء في وقفة نظمتها نقابة الصحافيين في لاتسيو ورابطة الصحافة الرومانية للمطالبة بالإفراج عن الصحافية الإيطالية سيسيليا سالا المحتجزة في إيران (د.ب.أ)

ماكرون والعودة لـ«سناب باك»

لم تكن المرة الأولى التي ينتقد فيها ماكرون إيران وبرنامجها النووي ودورها الإقليمي، لكن اللافت فيما جاء على لسانه، الاثنين، وصفه إياها بـ«التحدي الاستراتيجي والأمني لفرنسا وللأوروبيين وللمنطقة بكاملها (الشرق الأوسط)، وأبعد من ذلك». وتشمل «مضبطة الاتهامات» برنامج إيران النووي المتسارع الذي يقودنا إلى حافة القطيعة أو «اللاعودة»، في إشارة إلى ارتقائها بتخصيب اليورانيوم، وبالتالي اقترابها من القدرة على امتلاك السلاح النووي.

كذلك، ندد ماكرون ببرنامج إيران للصواريخ الباليستية الذي «يهدد التراب الأوروبي ومصالحنا». وكان لا بد لماكرون أن يشير إلى «انخراط إيران في الحرب الروسية على أوكرانيا»، وهو أمر «مثبت»، وكذلك «توفيرها الدعم للمجموعات الخطيرة» الضالعة في كافة نزاعات وحروب الشرق الأوسط، مدللاً على الميليشيات التي تساندها طهران في غزة ولبنان والعراق واليمن.

وللمرة الأولى، يشير ماكرون لدور إيراني في أفريقيا من خلال «وكلائها»، فضلاً عن اللجوء إلى «ممارسة الإرهاب».

الخلاصة التي توصل إليها ماكرون تقول إن إيران «تشكل خطراً إن لم يتم التعامل معها»، ما يحتّم «القيام بمناقشة شاملة» تضم الملفات الخلافية العديدة: النووي، والباليستي، والأنشطة المزعزعة للاستقرار في المنطقة بما فيها أفريقيا»، والغرض «بناء حلول قابلة للتحقق ولا رجعة فيها».

ثم إن ملفاً بهذه الخطورة يفترض، وفق ماكرون، أن يكون على رأس الملفات الرئيسية المفترض مناقشتها مع الإدارة الأميركية الجديدة من أجل التوصل، بخصوص النووي، إلى «اتفاق أوسع نطاقاً، وهو الخط الذي نسير عليه».

وذكر الرئيس الفرنسي أنه طرح، في عام 2018، على الرئيس ترمب، عوض نقض اتفاق 2018، استكماله ببنود إضافية للتوصل إلى اتفاق أقوى وأوسع. ويريد ماكرون انخراطاً واسعاً لمعالجة الملفات الإيرانية، يشمل بالطبع الولايات المتحدة والأوروبيين، ولكن أيضاً دول المنطقة الرئيسية. أما القنبلة التي فجرها ماكرون والتي يعدّها الورقة الرئيسية الضاغطة على إيران، فعنوانها تفعيل ما يسمى آلية «سناب باك» التي تعني إعادة الملف النووي إلى مجلس الأمن، وما يمكن أن يُفضي إلى إعادة فرض العقوبات الدولية على طهران.

وقال ماكرون ما حرفيته: «في الأشهر المقبلة، سيتعين علينا أن نطرح على أنفسنا مسألة استخدام آليات إعادة فرض العقوبات من الآن وحتى أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، ونحن مستعدون للقيام بذلك، ولكننا بحاجة إلى التزام أوسع نطاقاً من أجل التوصل إلى معاهدة أكثر تشدداً. من وجهة نظري، هذه إحدى القضايا ذات الأولوية في النقاش الاستراتيجي مع الولايات المتحدة والمنطقة بأسرها».

وإشارة ماكرون إلى شهر أكتوبر مردّها لانتهاء الاتفاقية النووية والقرار 2231، رسمياً، في الخريف المقبل.

الرئيس الأميركي دونالد ترمب في صورة قديمة جمعته في 2020 مع ينس ستولتنبرغ أمين عام حلف شمال الأطلسي وقتها (د.ب.أ)

ترمب والمُعطَى الجديد

ليست المآخذ الغربية على برنامج إيران النووي جديدة ولا حاجة لتكرارها، بيد أن ما يفسر اللهجة «الهجومية» التي يعتمدها الرئيس الفرنسي لا يمكن فصلها، وفق سفير سابق في المنطقة، عن ثلاثة عوامل رئيسية: الأول، عودة ترمب إلى البيت الأبيض وخططه المرتقبة تجاه إيران. والثاني، ضعف النظام الإيراني حالياً بسبب التطورات العسكرية التي تشهدها المنطقة منذ أكتوبر 2023. والثالث فرنسي خالص «ملف الرهائن الفرنسيين في إيران». ولذا، أصبح واضحاً اليوم أن إيران فقدت الكثير من مخالبها التي سعت خلال العقود الماضية إلى تقويتها وفق استراتيجية تطويق إسرائيل وتقوية «الوكلاء»؛ سواء كانوا في غزة أو لبنان أو العراق أو اليمن؛ من أجل حماية النظام.

يضاف إلى ما سبق أن الضربات العسكرية التي وجهتها إسرائيل لإيران، خصوصاً الضربة الجوية الأخيرة، أواخر أكتوبر الماضي، أضعفت قدراتها الدفاعية بسبب القضاء على منظومات الدفاع الجوي التي تمتلكها، ما دفع برئيس الوزراء الإسرائيلي بـ«التباهي» وتأكيد أن سلاح الجو الإسرائيلي يستطيع أن يسرح ويمرح في الأجواء الإيرانية على هواه، ما دفع الدبلوماسي الأميركي السابق المعروف جيمس جيفري إلى القول لقناة «بي بي سي» يوم 22 ديسمبر ( كانون الأول) الماضي، إن ما تعيشه طهران هو «انهيار غير مسبوق لهيمنة إقليمية»، وإن «كافة أحجار الدومينو التي بنتها قد تهاوت»، ما ينعكس حكماً على قدراتها.

بالنظر لما سبق، ثمة قراءة تقول إن «الوقت مناسب للحصول على تنازلات من إيران»، وهو الأمر الذي يفسر قبولها معاودة المفاوضات مع الثلاثي الأوروبي: فرنسا وبريطانيا وألمانيا حول برنامجها النووي في اجتماع ثان سيعقد يوم 13 الحالي استباقاً لتسلم ترمب مسؤولياته رسمياً بعد أسبوعين.

وثمة قناعة لا تتزحزح، قوامها أن ملف إيران اليوم مرهون بما سيقرره ترمب، وليس أي جهة أخرى. من هنا، تتلاطم التكهنات بين من يتوقع ضربة عسكرية إسرائيلية أو أميركية - إسرائيلية للقضاء على برنامج إيران التي اتهمها جاك سوليفان، مستشار الأمن القومي للرئيس بايدن، بأنها تعمل على تصنيع القنبلة النووية، ومن يعتقد أن السلطات في طهران، المشغولة أيضاً بخلافة خامنئي البالغ من العمر 85 عاماً، والذي يتحكم بالقرار منذ عام 1989، ستظهر ليونة في التعاطي مع الوضع الإقليمي والدولي الجديد لتجنب الأسوأ.