يهود دمشق في ثلاث روايات

هل تكون غواية الترجمة إلى لغات أخرى سبيلاً إلى العالمية؟

يهود دمشق في ثلاث روايات
TT

يهود دمشق في ثلاث روايات

يهود دمشق في ثلاث روايات

في سنة 2016، صدرت 3 روايات سورية، هي: «خمارة جبرا» لنبيل ملحم، و«عين الشرق» لإبراهيم الجبين، و«لعنة الكادميوم» لابتسام التريسي، وكان لليهودي في كل منها حضور مركزي. والروايات الثلاث منعقدة على الزلزال السوري الذي تفجر سنة 2011، فلماذا كان هذا الحضور؟ هل هي استجابة فنية لقوة الحضور اليهودي في سوريا ماضياً أو حاضراً؟ وإذا لم يكن هذا صحيحاً، فهل هي غواية الترجمة إلى لغات أخرى كسبيل إلى العالمية؟ ألا تتواتر هذه الغواية على نحو لافت في الرواية العربية بعامة في العقد الأخير؟
عن اليهود في حلب، كتبت رواية «لعنة الكادميوم». أما الروايتان الأخريان، فقد كتبتا عن يهود دمشق. وكانت قد سبقت إلى ذلك رواية «قصر شمعايا» لعلي الكردي.
قصر شمعايا
في حي اليهود في دمشق أقام الثري اليهودي شمعايا قصره عام 1885. وعندما قررت الحكومة السورية في خمسينات القرن الماضي فتح بيوت اليهود الذين غادروا إثر قيام إسرائيل، كان قصر شمعايا من نصيب 50 أسرة من اللاجئين الفلسطينيين. وقد جعل الكاتب الفلسطيني (السوري) علي الكردي من هذا القصر ومن الحي اليهودي فضاء لروايته التي صدرت عام 2010، وتمحورت حول أحمد الشيخ الذي درس في الأليانس، التي كانت واحدة من سلسة مدارس يهودية عالمية، تحولت إلى مدرسة تديرها الأونروا. وتتألق الرواية في رسم ما آل إليه القصر، فبدا غابة من براكيات الخشب والزنكو والإسمنت، لكأنه متاهة غرائبية.
ومن الشخصيات اليهودية في الرواية الطبيب الذي يرفض الهجرة إلى إسرائيل، عكس ابنه الذي يصبح طياراً إسرائيلياً، ويشارك في الحرب، فتسقط طائرته ويؤسر. وإذ تجري مواجهته مع أبيه، ينكره الأب. وثمة أيضاً راشيل التي أحبت فلسطينياً، لكن أسرتيهما تجعلان الزواج مستحيلاً، فيهرب الشاب إلى مصر بدعوى الدراسة، وتهاجر راشيل إلى الولايات المتحدة الأميركية. ومن قصص الحب في الرواية قصة روميو الفلسطيني وجولييت اليهودية، التي يدفع فيها الزواج المستحيل إلى انتحار الشاب حرقاً، فانتحار الشابة بالسم. غير أن للعلاقة الفلسطينية اليهودية صوراً أخرى من التعايش. وإذا كان مثل هذا التعايش هو ما كان في دمشق وحلب والقامشلي قبل قيام إسرائيل، فالأمر تبدل بعد ذلك، إلى أن مضت الهجرة السرية إلى إسرائيل بأغلب اليهود.
عين الشرق
يبدو الرهان الفني الأكبر لهذه الرواية على استراتيجية التشذير والبناء الشذري، وعلى السيرية التي بلغت أن جعلت من الذات مرسلاً ومستقبلاً معاً، كما وصف فيصل دراج لغة الذات المتوحدة، بعامة. وقد حمل الراوي اسم الكاتب الذي يروي أنه كان قد التقى مصادفة باليهودي الدمشقي المهاجر إخاد في نيويورك.
عاد إخاد إلى دمشق إثر زلزال 2011 لإخراج مخطوطات يكتنزها القبو السري: «وحين سيقرأ العالم بعد سنوات أخباراً تتحدث عن نقل مخطوطات تاريخية ذات قيمة دينية من دمشق إلى إسرائيل، في عمليات للكوماندوس الإسرائيلي تمت تحت جناح الليل، وحين تظهر تلك المخطوطات والقطع في متاحف الدولة اليهودية، سيتضح أن الواقع الذي كتبت عنه هو حي، وليس ترميزاً وحسب». وقد حضر إخاد أيضاً ليشهد التحولات على عتبة 2011، وكل ذلك حسب ما يروي إبراهيم الذي يجعل من إخاد قرينه.
وعبر العلاقة بين إبراهيم والقرين، تعري الرواية ما تعري من ديكتاتورية النظام، ويشتبك الماضي بالحاضر في مفاصل شتّى من تاريخ سوريا خلال القرن العشرين، فيكون لليهودي فعله المتواصل، وصورته الروائية التي تتألق في حديثه عن الكتابة (البرجبابلية) مثلاً، لكنها تنوء تحت وطأة الحمولة التي تجعله عليماً بالشأن السوري، من قصيدة سليم بركات السردية إلى حديث ياسين الحافظ عن أن الديمقراطية لا تناسب الأقليات، إذ يرى إخاد ذلك كلاماً دقيقاً وعلمياً، فلا أقليات أو أكثريات دينية أو عرقية في الديمقراطية، بل مشاريع سياسية تتنافس على الصناديق. والأقليات - حسب إبراهيم - لا تريد ذلك. لماذا؟ لأنه يذيبها في الأكثرية، حسب إخاد، فمشروعها -حسب إبراهيم - هو التمايز في المجتمع بناء على الاختلاف، وليس بناء على حقوق المواطنة. وإخاد الخبير بسوريا ثقافياً وسياسياً، لكأنه لم يغادرها يوماً، يجيب عن سؤال إبراهيم له عما إن كانت رابطة العمل الشيوعي - التي صارت حزب العمل الشيوعي - طائفية، فيجيب الخبير بأن اليسار كان يسميها رابطة الأقليات. ويطول الحوار بين إبراهيم وإخاد مراراً، حيث تبهظه التأرخة، والمعلومة غير المسرّدة، كما في الحديث عن حرب القرم بين الروس والأتراك، الذي لم تنفعه معه لعبة التشذير.
وإذا كانت الرواية قد انتهت بلحظة كتابة أطفال درعا على الجدران بأسمائهم الصريحة، ففي النهاية أيضاً أن إبراهيم ظل محبوساً في السرداب، ومن خرج ليس هو، كما ظل إخاد معه حبيساً.
خمارة جبرا
يحضر حي الأمين (حي اليهود) في رواية نبيل الملحم «خمارة جبرا»، ومنه بيت عزرا، صاحب مخزن المخطوطات والكتب المستعملة، وحيث كانت ابنته آنا قبل أن تهاجر إلى إسرائيل، مخلفة الفتى جاد الذي سيسكنه عشقها ما عاش. وتبدأ الرواية بإصابة الثمانيني جاد في تفجيرات دمشق، ثم تتوالى استعادات الماضي، فإذا بآنّا «ذات النظرة العبقرية» التي يوصيها والدها: «إنسي الشام يا آنّا»، ويوصيها: «لكل وطن جديد رجل جديد، وذاكرة جديدة. الحب في معنى من معانيه مكان». ولم تكن الهجرة بعد 1948 تعني لعزرا غير القطع مع ماضي الأجداد، والتجول في متاهة وطن جديد مبني بقوة السلاح والهاجاناه. كما لم تكن إسرائيل تعني لعزرا غير مقبرة ثمينة: «ليست دولة الوعد يا آنّا». ولئن كان يرى رجال اللاهوت اليهودي حشرات، فقد سئم أيضاً من كونه أقلية عليها أن تقدم مبررات يومية لبقائها على قيد الحياة. وإلى أن يهاجر، كما سيخبر في ملخص سردي، يكون هو الباحث عن اللقى، ويكون مخزنه غطاء لنشاطاته الأثرية التي يحمّلها ليهود مهاجرين يكتشف أمزجتهم المريضة، ويراهم متسوّلي يهوه، كما يرى سوراً مرتفعاً من خوف، تعززه فكرة الآخر العدو، وارتهان الوجود على الفكرة. ويتردد جاد على ديار الحبيبة آنّا مستذكراً كيف علمته القراءة والكتابة، ومعايناً الحراس المتحفزين تحت ما كان شرفة آنّا قرب الكنيس المهجور، فأسرار الكُنُس لا بد أن تُحرس، وكل بيوت اليهود تحت حراسة الأمن العسكري، كما يسوق السارد الذي يوالي ظهوره، فيخبر مثلاً بما لا يعرفه جاد من أن آنّا مع والدها صارا في مستوطنة بتاح آرائيل، وأنها رفضت الزواج، وباتت وحيدة صامتة بعد موت عزرا... أو يخبر، مثلاً أيضاً، أن ما همَّ جاد في أثناء معركة بورسعيد عام 1956 هو أن آنّا وعزرا ربما قضيا، كما أن حرب أكتوبر (تشرين الأول)، واجتياح إسرائيل للبنان، وكل حرب، تجعل المسافة عن آنّا أكبر، حتى يستحيل الأمل بعودتها، وإن يكن جاد سيظل يحلم بهذه العودة وهو يحتضر. تلك هي الرسوم الكبرى ليهود دمشق في الروايات الثلاث. ولعل للمرء أن يتساءل عن اشتغال روايتي الجبين والملحم على «تيمة» المخطوطات اليهودية وتهريبها، مما سبقت إليه رواية فيصل خرتش «حمام النسوان». لكن الأهم هو السؤال عن معنى استحضار اليهودي إلى الحاضر السوري بعد 2011، حيث ينتفي الفعل اليهودي في سوريا منذ عقود، بينما يظل فؤاد جاد معلقاً بآنّا، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، وليس شأن إخاد بأقل!



«فن الاستلقاء»... تأملات فلسفية في الاسترخاء والسعادة

«فن الاستلقاء»... تأملات فلسفية في الاسترخاء والسعادة
TT

«فن الاستلقاء»... تأملات فلسفية في الاسترخاء والسعادة

«فن الاستلقاء»... تأملات فلسفية في الاسترخاء والسعادة

عن دار «العربي» في القاهرة صدر كتاب «فن الاستلقاء» للباحث الألماني بيرند برونر، ترجمة: سمر منير، الذي يطرح بأسلوب مشوق وعبر رؤى غير تقليدية ملاحظات ذات طابع فلسفي تحليلي حول فكرة الاسترخاء وعلاقتها بسعادة الإنسان عموماً، مشدداً على أن الاستلقاء لا يعني بالضرورة الكسل أو يعد مؤشراً على حياة شخص فاشل.

ويخاطب المؤلف القارئ مباشرةً في البداية، مؤكداً أنه إذا كنت مستلقياً الآن فلن تلام بالتأكيد، فكلنا نستلقي ونفعل ذلك بانتظام، وغالباً ما نسعد بذلك كثيراً. وعندما نستلقي نشعر بالاسترخاء، إذ إن الاستلقاء يمثل الوضعية التي تتيح للجسم أقل مقاومة وتتطلب منه أقل قدر من الطاقة. وفي أثناء الاستلقاء أيضاً نؤدي بعض الأنشطة، إذ ننام ونحلم ونحب ونفكر وأيضاً نستسلم للحزن والاكتئاب ونغفو ونعاني، لكن هناك شيئاً واحداً لا نكاد نفعله عندئذ ألا وهو أن نتحرك.

عندما نستلقي في وضع أفقي ندنو كثيراً مما نطلق عليه بغرابة «الجمود والثبات»، فليس من السهل على الإطلاق نقل قيمة الاستلقاء إلى مجتمعنا الذي اعتاد الإنجازات القابلة للقياس، إذ يتوق الناس إلى إثبات قدرتهم على اتخاذ القرارات عن طريق التصرف بسرعة وإثبات اجتهادهم بين الحين والآخر بالجلوس لساعات طويلة إلى مكاتبهم وأمام أجهزة الكومبيوتر الخاصة بهم. والأسوأ من ذلك أن الاستلقاء يعد لدى كثيرين، تعبيراً عن الكسل أو علامة على العجز في مواجهة عالم يمر بتغييرات هائلة، فمن يستلقي لا يواكب الآخرين ويقال إنه ضعيف ولا يستفيد استفادة كاملة من وقته المحدود.

ويلفت المؤلف إلى أنه مع ذلك يمكن أن يبدو لنا الاستلقاء كأنه «نزهة وسط الضباب الكثيف» بحيث تصير أفكارنا أكثر وضوحاً من ذي قبل بنهاية تلك النزهة، فلا ضرر من الاستلقاء بوعي، الذي يعد ممارسة محسوبة جيداً للهروب من الضغط الدائم بسرعة وفاعلية، بل إن هذا الاستلقاء ذو قيمة كبيرة.

ويعد الاستلقاء وضعية أفقية تماثل النزهات الحالمة لرجل مكتئب يسير من دون السعي وراء هدف، إذ إن الشخص المستلقي يجوب المدن والريف أيضاً لكن في أغلب الأحيان في خياله فقط. وتتطلب هذه النزهات قدرة أكبر على التخيل، فالشخص المستلقي لا يلتقي وجوهاً وأماكن حقيقية قد تؤثر في أفكاره.

ويوضح أنه عندما نستلقي على ظهورنا وتكون عيوننا مفتوحة ونوجه أنظارنا إلى الأعلى نحو سقف الغرفة أو نحو السماء بالخارج، فإننا نفقد اتصالنا الجسدي بالأشياء من حولنا وتستطيع أفكارنا أن تحلق عالياً. إن حالتنا العقلية بأكملها تتغير مع تغير وضعية أجسادنا، ففي أثناء الاستلقاء لا يمكن أن يكون رد فعلنا بالطريقة ذاتها التي فعلناها عندما كنا نقف قبل وقت قليل، إذ تظهر الأسئلة التي شغلتنا للتوّ من منظور مختلف عندما نتأملها من وضعية أفقية، كما أن الأصوات، وحتى رنين الهاتف، لا تصل إلينا بالشدة ذاتها ويصبح من السهل أن نتشكك في الأمور التي كانت تبدو لنا من قبل يقينية ولا تقبل المناقشة.

ولا يتعلق التفكير فيما يعنيه الاستلقاء بأبعاد فسيولوجية ونفسية وإبداعية فحسب، بل بقضايا ثقافية عميقة أيضاً متعلقة باقتصاديات الوقت ووتيرة حياتنا التي وصفها عالم النفس الأمريكي روبرت ليفين ذات مرة بأنها «ترتيب متداخل للتناغمات والإيقاعات»، حيث يعد الاستلقاء وقتاً مستقطعاً من ضغوط الحياة اليومية لنعود إلى العمل بنشاط. وفي عصر مثل عصرنا وثقافة مثل ثقافتنا، هناك إيمان تام بضرورة الحركة المستمرة، وهو ما يسفر عن مشاعر قلق داخلية مهيمنة على جوانب حياتنا كافة.

ويرفض المؤلف ميلنا التقليدي إلى اعتبار الشخص المستلقي سلبياً أو عاجزاً عن الحركة أو خاضعاً للآخرين، فغالباً ما نكون أمام شخص يستريح ويسترخي وربما يريد أن يلتقط أنفاسه من أجل خطواته التالية. ويمكن أن يكون الاستلقاء كذلك أيضاً تمرداً كما هو الحال عندما يتجمع أشخاص كثيرون فجأة ويستلقون ويمنعون حركة المارة والمركبات من أجل الاحتجاج للمطالبة بشيء ما أو الاعتراض على شيء ما.

والباحث الألماني بيرند برونر من مواليد 1964، برلين، تخرج في كلية الاقتصاد وتجمع مؤلفاته بين العلوم والأدب والتاريخ. تُرجم له عملان آخران إلى العربية هما « القمر- في التاريخ والأساطير وأثره في النساء» و«الرمان».