أقنعة.. وشخصيات منشطرة

«أقصى الجنون.. الفراغ يهذي» لوفاء عبد الرزاق

أقنعة.. وشخصيات منشطرة
TT

أقنعة.. وشخصيات منشطرة

أقنعة.. وشخصيات منشطرة

يشكل العنوان في رواية «أقصى الجنون.. الفراغ يهذي» لوفاء عبد الرزاق عتبة مهمة للولوج إلى بنية النص السردي، فهو ليس طارئا عليها، ولا متطفلا على أنساقها العميقة المتشظية، وإنما هو نابع من أعماقها، ومشتبك بأحداثها ووقائعها اليومية التي تترى على مدى ستة عقود تحكي لنا السيرة الذاتية لساردة النص، وكل الشخصيات الفاعلة التي تدور في أفلاكها الخاصة، إضافة إلى دورانها في فلك البطلة التي انشطرت إلى أربع شخصيات متعددة ظاهرة وشخصية خامسة مضمرة منحت الرواية برمتها بعدا إشكاليا يستحق الرصد والدراسة المتأنية من جهة، والتثمين والإشادة من جهة أخرى.
يمكننا القول باطمئنان أن العنوان في هذه الرواية هو جزء من لُحمة النص وسَداته، وربما لن أغالي إذا قلت إنه يحمل بين طياته المهيمنة الفكرية التي تسعى الكائنة السيرية لبثها في تضاعيف الفضاء السردي الذي أخذ شكل البوح والتنفيس عما يدور في ذهن الساردة، وما يختلج في أعماقها من مشاعر وأحاسيس إنسانية مرهفة قد تتضح تارة، وتتضبّب تارة أخرى.
تعتمد هذه الرواية بشكل أساسي على تقنية الرسائل وهي تقنية معروفة في الأدب العربي أو العالمي غير أن الروائية وفاء عبد الرزاق قد جاءت بمقاربات فنية جديدة بعض الشيء، من بينها الشخصية المنشطرة إلى أربع شخصيات ظاهرة وشخصية خامسة مضمرة قد تذكِّرنا بـ«أدهم جابر» قرين «يونس الخطّاط» في رواية «حيث لا تسقط الأمطار» لأمجد ناصر، وإن اختلفت التفاصيل كثيرا، غير أن شخصيات وفاء عبد الرزاق المتناسلة تبدو أكثر عفوية وإقناعا وانسيابية ضمن السياقات السردية غير المفترضة، فهي تتقنع بأسمائها الجديدة على وفق الاشتراطات الملحة التي تمليها أجواء الغربة وفضاءات المنافي الطارئة والمستديمة.

* متوالية الأقنعة
تتصف الروايات الإشكالية بوعورة شخصياتها، إن جاز لنا التعبير، وبثرائها الفكري الذي يناقش قضايا فلسفية كثيرة تُخرِج النص الروائي من أطره البسيطة الساذجة التي لا تتجاوز المتن الحكائي الذي يبدأ بالاستهلال، ثم يرتقي إلى الذروة، ويصل في خاتمة المطاف إلى نهاية سعيدة أو حزينة. فالقول السردي بكل أشكاله يحتاج إلى صواعق متواصلة تضرب الأبنية العميقة للنص وتفجرها كي تضع المتلقي الإيجابي أمام هزات ومفاجآت غير متوقعة على مدار النص الروائي برمته، وقد تكون هذه المفاجآت والمواقف المذهلة هي بمثابة الأنساغ الصاعدة في قامة الروايات الشامخة التي تنشد تغيير مزاج القارئ وتثوير ذائقته الفنية، ولا تكتفي بتحقيق المتعة وتزجية الوقت.
تتوزع الرواية على أربع راويات ظاهرات وراوية مضمرة منحن النص الروائي نكهة خاصة أخرجته عن إطار الأشكال السردية السائدة والمعروفة التي تعول على بطل أحادي الجانب، يستبد بالقارئ من أول الرواية إلى آخرها، وقد يجد المتلقي متنفسا في قرين الشخصية الرئيسة كما هو الحال في رواية أمجد ناصر آنفة الذكر، غير أننا في رواية «أقصى الجنون.. الفراغ يهذي» لوفاء عبد الرزاق نقف في مواجهة خمس شخصيات راويات يسردن لنا مراحل الجنون التي مر بها العراق في أوقاته العصيبة، وحروبه العبثية الشعواء، ومراحل الهذيان التي بلغتها بطلة النص الرئيسة وبعض شخصياته الثانوية التي لا تقل أهمية عن الساردة المهيمنة التي تقنعت بخمسة أقنعة متتالية، وهي «زينب، مريم، سُكينة، وصال، والأخرى التي ظلت مضمرة على مدار النص».
لا شك في أن غالبية الأسماء لها مدلولات دينية معروفة مثل زينب وسُكينة ولكنها لم تضفِ على النص الروائي أبعادا جديدة غير الحزن والأسى المتعارف عليه على مدى 14 قرنا ونيّف، غير أن الروائية أرادت أن تقول بأن الفجيعة هي قرينة المواطن العراقي المُبتلى بالأنظمة المستبدة، والحروب العبثية، والحصارات المتتالية التي جعلت من العراق طاردا لأبنائه الحقيقيين فلا غرابة أن تلوذ باسم زينب حينما تعرف عليها العم «أبو وفيق» بينما كان صديقها القديم «عباس» يُعرِّفها على طائفة من أصدقائه المثقفين من كُتّاب وشعراء وفنانين.
تكشف مرحلة القناع الأول شخصية عباس بوصفه فاعلا في المتن السردي؛ حيث يطل القارئ على هذه الأسرة المعذّبة التي غادرت الوطن واستقرت في سوريا بسبب تعاطيها السياسي، ثم نعرف أن السلطة القمعية في العراق قد أحرقت بيته وزوجته، لأنه كان ينتمي إلى تنظيم مناوئ للسلطة القائمة. لا تقف العلاقة بين «وصال أو زينب» وبين عباس عند حدود الانتماء إلى تنظيم سياسي محظور، بل تتعداها إلى حب عميق ربما لم يتخلص منه عباس حتى بعد زواجها من محمود، كما لم تفلح وصال في التخلص من غليان الحب الأول الذي لا يزال يعتمل في مهجة القلب.
تبرز إلى السطح أولى الملامح المعقدة لهذه الشخصية الإشكالية المتناقضة حينما تقول في سرها: «لا يستطيع الإنسان أن يغير مصيره» (ص31) خلافا للمقولة الشائعة التي تؤكد أنّ «الإنسان سيد مصيره»، وقد أقدمت هي على تغيير مصيرها حينما قررت السفر إلى سوريا أولا، ومنها إلى المغرب، لتصل في نهاية المطاف إلى مدينة «هل» البريطانية بعد أن مرت بلندن وليدز. وقد تقنعت باسمَي مريم الكاظمي، وسُكينة، قبل أن تستعيد اسمها الصريح وهي تتحدى أحد العناصر الأمنية للسلطة القامعة التي أوصلت مجساتها وعيونها السرية إلى كل المنافي العالمية النائية.

* الشخصية المنشطرة
لم تتوقف وصال عند حدود الشخصيات الأربع المقنعة التي أشرنا إليها توا، وإنما انشطرت إلى شخصية خامسة أسمتها «الأخرى» التي دخلت إلى طقس كتابتها وقررت أن تكتب للراوية، بينما تكتب الراوية لجدتها. وعلى الرغم من أن وصال قد كتبت 19 رسالة وأن الراوية الأخرى قد كتبت ست رسائل فقط، فإن هذه الأخيرة قد أعادتنا إلى البصرة والحلة وبغداد، وإلى التاريخ الأسري للعائلة والوطن برمته، حتى صار بإمكاننا أن نضع غالبية شخصيات الرواية في مختبرات نفسية، ونقدية، وفلسفية ونخرج بحصيلة مهمة عن كل الفاعلين في هذا النص، والمؤسسين لرؤاه الفنية والفكرية والاجتماعية والأخلاقية على حد سواء، ولكي تزيد وفاء عبد الرزاق الأمور تعقيدا فقد خلقت ظلا أو كائنا مواربا يلاحق وصال ويتعقبها في كل مكان تقريبا.
لم تقتصر مواهب وصال على الكتابة، وتحدي السلطة القمعية فقط، وإنما تعدتها إلى ولعها بالثقافة البصرية فهي محبة للفن التشكيلي، وملمة به، كما أنها قوية جدا، وقادرة على التحدي. تنطوي شخصية وصال المستديرة على بعض التناقضات التي تعمق الجانب الإشكالي فيها، فهي تشعر أنها غريبة في وطنها، كما أنها غريبة من دونه، فقد غادرته مضطرة بعد أن اغتصبوا شقيقتها أمام والدها كي ينتزعوا منه اعترافا مشبوها. ثم تعرض الاثنان إلى تعذيب مروع تقشعر له الأبدان قبل أن يلاقيا مصيرهما المحتوم على أيدي جلاوزة النظام الديكتاتوري السابق. لم تتحمل الأم هول الفاجعة الكبيرة فانهارت فوقهما جثة هامدة.
تستثمر وفاء عبد الرزاق المخصبات النصية وتفيد منها كثيرا سواء بالإبقاء عليها أم من خلال تحويرها قليلا، فجملة النفري الشهيرة «كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة» تصبح على لسان الراوية «تتسع الثقافة وتضيق الرؤية» في إشارة إلى الشخصية العراقية التي تبقى حدودها ضيقة مهما اتسعت ثقافتها. ولكي تشير إلى مناوءتها للسلطة القمعية التي تطارد ضحاياها ترد على أحد السائلين بمقولة الثقفي ذائعة الصيت «أنا أحد الرؤوس التي أينعت وحان قطافها».
تتألف شخصية الراوية أو ساردة النص من مجموعة من العناصر المعقدة التي لا تخبئ تناقضاتها في بعض الأحيان، فقد هربت وصال من الموت المحقق الذي قد تصادفه في أية لحظة ضمن حدود الوطن المستباح، لكنها كانت تسر عبد الله، الشخص الشيوعي السوري اللاجئ إلى لندن، قائلة إن «أجمل ما في الموت أنه يطلق الروح من عبودية الجسد» (ص120). يمثل محمود، زوج الراوية وصال الذي التحق بالمنتفضين الثائرين، أنموذجا للبطل الإيجابي الذي لم يُدِر ظهره لأزلام السلطة ويولي هاربا كما فعل البعض حتى أن زوجته المتململة هي الأخرى التي يلاحقها سيف الثقفي الجديد كانت تخفف عنه ثقل المسؤولية التي ألقاها على عاتقه حينما تخاطبه قائلة: «لست وحدك الذي يحمل على عاتقه تغيير الوضع» (ص 162) لكنه يذكرها بضرورة أن تحارب من أجل حرية الآخرين قبل حريتها، تماما مثلما يفعل هذا البطل الإيجابي الذي نذر نفسه لمحراب الوطن مضحيا بالغالي والنفيس من أجل الحرية والعيش الكريم.
قد يسلّم البعض بأن الراوية قد فقدت بوصلتها منذ أن تركها زوجها محمود وانضم إلى جموع الثائرين، وأنها بدأت تفكر بالخلاص الفردي كحل لمحنتها الشخصية، إلا أنها تظل إنسانة قوية تمجد الحياة، وتنشد الحرية. صحيح أنها امرأة خفيضة الصوت لكنها قوية كالزوبعة حتى بعد أن فقدت الزوج والولد وباتت تصف نفسها بأنها «مجرد رأس يجر أعضاء مثقلة» (ص 237).
خلاصة القول، لا تحتاج الرموز، واللغة المجازية، والاستعارات، والمشفرات الكلامية التي وردت في المتن السردي إلى من يفك طلاسمها، فالألغاز اللغوية تتكشف تلقائيا وتسقط عنها كل الأقنعة بعد أن يضع القارئ إصبعه على ثنائية القامع والمقموع؛ حيث تنمسخ الكائنات السلطوية المستبدة إلى ضفادع مقززة، وقد يختزلون إلى كراس وأوسمة لا معنى لها، فيما تظل الراوية التي نجت بجلدها.. قوية، صامدة.



قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية
TT

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

لطالما كانت كلمات الأغاني محل اهتمام البشر بمختلف أجناسهم وأعمارهم وشرائحهم الاجتماعية والثقافية. وإذا كانت القلة القليلة من الباحثين وأهل الاختصاص تحصر تعاملها مع الأغاني في الإطار النقدي، فإن معظم الناس يبحثون في كلماتها، كما في اللحن والصوت عما يحرّك في دواخلهم أماكن الرغبة والحنين وترجيعات النفس والذاكرة. لا، بل إن بعض الأغاني التي تعجز عن لفت انتباه سامعيها بسبب سذاجتها أو مستواها الهابط سرعان ما تكتسب أبعاداً وتأثيرات لم تكن لها من قبل، حين يمرون في تجربة سفر أو فراق أو حب عاصف أو خيانة غير متوقعة.

وحيث لا يُظهر البعض أي اهتمام يُذكر بالدوافع التي أملت على الشعراء كتابة النصوص المغناة، فإن البعض الآخر يجدُّون بدافع الفضول أو المعرفة المجردة، في الوقوف على حكايات الأغاني ومناسباتها وظروف كتابتها. وهو فضول يتضاعف منسوبه إذا ما كانت الأغنية تدور حول حدث بعينه، أو اسم علم مبهم الملامح وغير مكتمل الهوية.

وإذا كان لموت الأبطال في الملاحم والأساطير وحركات المقاومة تأثيره البالغ في النفوس، فإن موت الأطفال في الحروب يكتسب تأثيره المضاعف لأنه ينتقل من الخاص إلى العام فيصيب البراءة في عمقها ويسدد طعنته القاتلة إلى نحر الأحلام ووعود المستقبل. وهو ما جسّدته بشكل جلي أعداد وافرة من الروايات واللوحات التشكيلية والقصائد والأغاني، بدءاً من قصيدة «الأسلحة والأطفال» لبدر شاكر السياب، وليس انتهاءً بشخصية «شادي» المتزلج فوق ثلوج الزمن الذي حولته الأغنية الفيروزية رمزاً أيقونياً لتراجيديا البراءة الطفولية التي قصفتها الحرب في ريعانها.

ولم تكن مأساة «أيمن» الذي قتلته الطائرات الإسرائيلية المغيرة على الجنوب اللبناني في نهاية عام 1977 والتي استوحيت من حادثة استشهاده القصيدة التي تحمل الاسم نفسه، سوى حلقة من حلقات التراجيديا الإنسانية التي تجدد نفسها مع كل صراع قومي وإثني، أو مواجهة قاسية مع الطغاة والمحتلين. تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن الفارق بين شادي وأيمن هو أن الأول قد اخترعه الرحبانيان بخيالهما المحض، في حين أن أيمن كان طفلاً حقيقياً من لحم ودم، قضى في ظل الظروف نفسها والصراع إياه.

أما الفارق الآخر الذي لا ينبغي إغفاله، فيتمثل في كون النص الرحباني كُتب في الأساس ليكون جزءاً من مسرح الأخوين الغنائي، في حين أن قصيدة أيمن لم تُكتب بهدف الغناء، رغم أن جرسها الإيقاعي سهّل أمر تلحينها وغنائها في وقت لاحق. ومع ذلك، فإن ما يثير العجب في تجربة الرحبانيين هو أن كتابة النص أغنيةً لم تنقص بأي وجه من رشاقته وعوالمه الساحرة وأسلوبه التلقائي.

والواقع أنني ما كنت أعود لقصة أيمن بعد 47 عاماً من حدوثها، لو لم تكن هذه القصة محلّ أخذ ورد على مواقع التواصل الاجتماعي في الآونة الأخيرة، فهوية الطفل القتيل قد حُملت من قِبل المتحدثين عنها على غير رواية ووجه. على أن تبيان وقائع الحدث المأساوي لا بد أن تسبقه الإشارة إلى أن الفنان مرسيل خليفة الذي كانت تربطني به ولا تزال صداقة وطيدة، كان قد فاتحني بشأن كتابة نص شعري يعكس مأساة لبنان الرازح تحت وطأة حربه الأهلية، أو معاناة الجنوبيين وصمودهم في وجه العدو الإسرائيلي. ومع أنني عبّرت لمرسيل عن حماسي الشديد للتعاون معه، وهو الذي اعتُبر أحد الرموز الأبرز لما عُرف بالأغنية الوطنية أو الملتزمة، أبديت في الآن ذاته توجسي من أن يقع النص المطلوب في مطب الحذق التأليفي والصنعة المفتعلة. وإذ أجاب خليفة الذي كان قد أنجز قبل ذلك أغنيات عدة مقتبسة من نصوص محمود درويش، بأن المسألة ليست شديدة الإلحاح وأنه ينتظر مني الاتصال به حالما ينجز الشيطان الذي يلهمني الشعر مهماته.

ولم يكد يمرّ أسبوعان اثنان على لقائي صاحب «وعود من العاصفة»، حتى كنت أتصل هاتفياً بمرسيل لأسمعه دون إبطاء النص الذي كتبته عن أيمن، والذي لم يتأخر خليفة في تلحينه وغنائه. لكن مَن هو أيمن؟ وفي أي قرية وُلد وقضى نَحْبَه؟ وما هي قصته الحقيقية وسبب معرفتي به وبمصيره الفاجع؟

في أوائل سبعينات القرن المنصرم وفي قرية «العزّية» الجنوبية القريبة من الطريق الساحلية الواقعة بين صور والبيّاضة وُلد أيمن علواني لأب فلسطيني وأم لبنانية من بلدة برجا اللبنانية الشوفيّة. وإذ كانت معظم أراضي القرية ملكاً لعائلة سلام البيروتية المعروفة، فقد قدُمت العائلة إلى المكان بهدف العمل في الزراعة شأنها في ذلك شأن عائلات قليلة أخرى، ليؤلف الجميع مجمعاً سكنياً صغيراً لا يتجاوز بيوته العشرين بيتاً، ولا يبلغ سكانه المائة نسمة. أما البساتين الممتدة هناك على مرمى البصر، فقد كان يتعهدها بالنمو والخصوبة والاخضرار نبع دائم الجريان يحمل اسم القرية، ويختتم سلسلة الينابيع المتقطعة الذي يتفتح أولها في كنف الجليل الفلسطيني دون أن يتمكن آخرها من بلوغ البحر.

شكَّل نبع العزية جزءاً حيوياً من مسرح طفولتي الأولى، حيث كان سكان قريتي زبقين الواقعة على هضبة قريبة من مكان النبع يقصدونه للسباحة والاستجمام ويلوذون بمياهه المنعشة من حر الصيف، كما أن معرفتي بأيمن وذويه تعود إلى عملي في التدريس في ثانوية صور الرسمية، حيث كان من بين تلامذتي خالة الطفل وبعض أقاربه الآخرين. وحين قصف الإسرائيليون بيوت القرية الوادعة بالطائرات، متسببين بتدمير بيوتها وقتل العشرات من سكانها الآمنين، ومتذرعين بوجود معسكر تدريب فلسطيني قريب من المكان، فقد بدا اغتيال أيمن ذي الوجه القمري والعينين الخرزيتين بمثابة اغتيال لطفولتي بالذات، ولكل ذلك العالم المصنوعة فراديسه من قصاصات البراءة ونثار الأحلام. وفي حين لم أجد ما أردّ به على موت أيمن سوى كتابة القصيدة التي تحمل اسمه، فإن ذوي الطفل القتيل قرروا الذهاب إلى أبعد من ذلك، فأنجبوا طفلاً آخر يحمل اسم ابنهم الراحل وملامحه، ويواصل حتى الساعة الحياة بالأصالة عن نفسه ونيابة عن أخيه.

بعد ذلك بات اسم أيمن بالنسبة لي محفوراً في مكان عميق من القلب والذاكرة إلى حد أنني كلما قرأته في جريدة أو كتاب، أو قابلت أحداً بهذا الاسم تناهت إلي أصداء ضحكات الطفل القديم وأطيافه المدماة على ضفاف نبع العزية. ومع ذلك، فإن السيناريو الذي ضجت به في الأسابيع الأخيرة مواقع التواصل الاجتماعي في لبنان، ومفاده أن قصيدة أيمن قد استوحيتْ من مقتل الطفل أيمن رحال إثر غارة إسرائيلية على قرية طير حرفا الجنوبية عام 1978، لم يكن هو وحده ما أصابني بالذهول، بل معرفتي بأن الرقيب في الجيش اللبناني الذي استُشهد مؤخراً بفعل غارة مماثلة هو الشقيق البديل لأيمن الأول.

ومع أنه لم يسبق لي معرفة أيّ من «الأيمنين» الآخرين، إلا أن نسبة القصيدة إليهما لا تضير الحقيقة في شيء، بل تؤكد مرة أخرى على أن الشعر كما الأغنية والفن على نحو عام يتجاوز الحدث الباعث على كتابته ليلد نفسه في كل زمن، وليتجدد مع كل مواجهة غير عادلة بين الأطفال والطائرات. لكن كم من أيمن عليه أن يسقط، وكم من قصيدة ينبغي أن تُكتب لكي يرتوي القتلة من دم القتلى وتأخذ الحرية طريقها إلى التفتح؟