الوجه الآخر لإقليم توسكاني

بعيداً عن سمعتها الفنية وعراقة تاريخها وجهةً لمدمني الأدرينالين من متسلقي الجبال والغوص في البحار

ريفها غني
ريفها غني
TT

الوجه الآخر لإقليم توسكاني

ريفها غني
ريفها غني

إن عطلات المغامرات أكثر من مجرد قضاء وقت في مكان بعيد عن الروتين اليومي، بل هي فرصة لاكتشاف ما وراء مشاهد العالم الحقيقي، والتعرف على أماكن وأشخاص وأشياء خارجة عن المألوف. إنها أيضاً استكشاف مناطق مثيرة من خلال مغامرات تتيح للمسافر الابتعاد عن المسار المعتاد المعروف والاقتراب مما هو غير متوقع، سواء كانت الوجهة إلى قمم باتاغونيا المرتفعة، أو الأنديز، أو السفاري في متنزه «سيرينغيتي»، وسواء كنت معلقاً في الهواء باستخدام معدات أمان مربوطة بحبل منزلق عبر وادي نهري ضيق في أي مكان يشتهر بأنه مقصد المغامرات مثل جبال روكي، أو غابات البيرو أو الألب، وغيرها من الوجهات، التي ستنقل إلى ثقافات مذهلة وتجارب وحياة برية مبهرة. بيد أنك أحياناً لا تحتاج إلى السفر بعيداً لكي تجد ما تبغيه من مغامرات وتجارب من هذا النوع. فكل ما تحتاج إليه أن تفتح عينيك وجوارحك على كل ما تقدمه أي منطقة تزورها. فقد تستغرب مثلاً أن تكون توسكاني واحدة منها؛ لأنك لا تعرف عنها سوى تجارب من سبقوك إليها وكانوا يبحثون عن إجازات ممتعة، بالمفهوم التقليدي، وبالتالي لم تسمع عن الإقليم الإيطالي سوى أوصاف عن فنونه وعمارة عصر النهضة، وعن حقول القمح الممتدة، ومزارع العنب المتناثرة على التلال التي تصلح لتكون بطاقة بريدية، فضلاً عن كنوز الطعام. أما للعارفين، فإن جزر توسكاني توفر مجموعة من المغامرات المذهلة، من الغوص العميق والغوص السطحي، وغيرها من الرياضات المائية.
هنا، وليس في جبال روكي، يمكن للسائح أن يجد نفسه ممسكاً بحبل منزلق صاعداً نحو درجات مسار التسلق، وحبل ضيق أعلى نهر ليما البلوري على أطراف بلدية «باني دي لوكا» التي تُعرف منذ عصر الإتروسكان والرومان بينابيعها الساخنة. وكما تقول الأسطورة، كان هناك تنين جائع قابع أسفل قاع النهر المليء بالصخور في مكان أدنى كثيراً من متنزه «كانيون»، الذي يعد مسار أكثر الحبال ارتفاعاً، في انتظار التهام من يسقط. كذلك، تختفي أبواب الجحيم أسفل مياه نهر ليما البيضاء، التي لا يجرؤ على النظر إلى أسفلها سوى الشجعان أو المجانين.
كتبت المؤلفة فرانسيس مايز في مذكرات رحلاتها «تحت شمس توسكاني»: «تقدم الحياة لك آلاف الفرص... وكل ما عليك فعله هو اقتناص واحدة». بالنسبة إلى مدمني الأدرينالين، وأصدقاء الهواء الطلق، تقدم العطلة النشطة في توسكاني الكثير من تلك الفرص، حيث تتسم هذه المنطقة بالثراء الثقافي والتاريخي بفضل ما بها من مشاهد مبهرة شهيرة، سواء كانت سلسلة جبال الألب، أو تلال كيانتي الزمردية، بدأت تظهر على خريطة أسفار المغامرات. يمكن للمسافرين من محبي النشاط والحركة ركوب الخيول في جنوب مستنقعات ماريما الساحلية أو ركوب القوارب أو الرمث في متنزه «توسكو إيميليانو» الوطني، الذي يعد جزءاً من شبكة المحميات الحيوية العالمية بحسب اليونيسكو. كذلك، يمكنهم ربط أنفسهم بما يشبه الطائرة الشراعية والتحليق أعلى «غارفانيانا»، وهي الجزء المليء بالغابات والجبال من شمال غربي توسكاني. كذلك، توفر تلك المنطقة متعة القيام برحلات سفاري وركوب الدراجات عبر الجبال. فتوسكاني تشتهر بركوب الدراجات، وبخاصة في منطقة كيانتي الجبلية الواقعة بين فلورنسا وسيينا.
تظهر مشاهد توسكاني الكلاسيكية، التي تشمل المراعي الخضراء وحقول القمح المتلألئة ومزارع العنب وبساتين الزيتون، كصفحات كتيب سياحي إعلاني وأنت تسير بدراجتك على طرقات الشوارع وتمر إلى جوار المنازل الريفية المبنية من الحجارة، والقلاع التي تعود إلى القرون الوسطى، والفيلات الناعسة أعلى التلال.
خلال جولة منشّطة للجسم طولها 40 كم في ريف كيانتي بالقرب من فلورنسا، يمكنك أن تمر بألف متر من التعرجات الصاعدة والهابطة على طول طريق «فيا ديل كاستيليتو سان بولو». تتوقف للاستراحة في بلدة رادّا التي تقع في منطقة وسطى بين فلورنسا وسيينا، لتأخذ نفسك وتحتسي فنجاناً من الكابوتشينو مع البسكويت، قبل أن تتوجه إلى قلعة «كاستيلو دي بروليو» المطلة على قرية غايولي. ظلت القلعة مسكناً لعائلة ريكاسولي لمدة 800 عام، وكانت كثيراً ما تتم محاصرتها أثناء الحروب الطويلة المستمرة بين سيينا وفلورنسا. الآن تعتبر القلعة، التي تطل على مشاهد الريف الخلابة، عملاً مميزاً من أعمال عمارة القرون الوسطى.
هناك خيارات أخرى تتضمن أنشطة مماثلة على ساحل توسكاني في البحر التيراني. وتعد جزيرة جيليو، التي كانت يوماً ما تابعة للإتروسكان وأصبحت موقعاً عسكرياً رومانياً فيما بعد، من الأماكن المفضلة للمتجولين. بعد استكشاف قلعة «جيليو»، وحصنها الواقع أعلى الجبال الذي يشبه المتاهة، يكتشف الزائر فنار «فاكارايتشي» القديم، الذي كان ملهماً لـ«فنار العشاق» في رواية فيديريكو موتشا الأكثر مبيعاً «سكوذا ما تيكيامو أموري». هنا لا بد من جولة في المستعمرات القديمة، التي يعود تاريخها إلى ما قبل يوليوس قيصر، متتبعاً مسارات البغال القديمة الممهدة بالحجر عبر غابات البلوط، وبين السهول التي حرقتها أشعة الشمس والمكسوة بالشجيرات، وبساتين الزيتون، والصخور الجرانيتية التي نحتتها الرياح.
ليس ببعيد من هنا توجد صخور بارزة في البحر عند الطرف الجنوبي لجزيرة جيليو يطلق عليه اسم «بونتا ديل كابيل روسو»، ويعد واحداً من أبعد مناطق جنوب غربي توسكاني. يطل ذلك الجزء على فنار يبلغ ارتفاعه 60 متراً من اللونين الأبيض والأحمر تم تشييده من الحجارة عام 1883. تقدم المطاعم في تلك المنطقة أطباقا خاصة مثل «كونيليو ألا كاتشاتورا»، و«كاتشوكو» و«بالاميتا ألا جيليزي»، وتطل غرف الفنادق الأسبرطية على المياه الخلابة ذات اللون الأزرق الياقوتي لجزيرة «مونت كريستو» المجاورة.
تمثل جيليو جزءاً من مجموعة جزر توسكاني، وهي سلسلة من الجزر الواقعة بين البحر الليغوري والبحر التيراني، وتشمل جزيرة إلبا التي تم نفي نابليون إليها عام 1814. لا يمكن لمحبي العزلة مقاومة نداء جزيرة إلبا، التي جاء ذكرها في رواية روبنسون كروزو؛ إذ لا يمكن الوصول إلى الجزيرة، التي تشبه جسم سمكة يشير رأسها نحو كورسيكا، وذيلها نحو ساحل توسكاني، بينما ينحدر الجزء المحزز الذي يمثل الجسم بشدة نحو سلسلة من الشواطئ الصخرية التي تضم أجزاء على شكل هلال، إلا عبر البحر، ولا يكتشفها حتى اليوم سوى قلة من الزائرين.
سرعان ما أصبحت جزيرة إلبا، التي لا تزال بكراً إلى حد ما، وجهة مفضلة لراكبي الزوارق، والبحارة وممارسي الغوص السطحي، وصيادي البحر العميق، والغواصين الباحثين عن حطام السفن القديمة في قلب حياة غريبة تحت البحر تضم المرجان المروحي، والشعب المرجانية الحمراء النادرة، وثعابين المياه، وفرس البحر، وسمكة الشمس.
كذلك، تزداد شعبية تسلق الجبال في النصف الغربي البري من الجزيرة، حيث تختبئ الشواطئ الحجرية ذات الرمال البيضاء، والصخور البركانية السوداء والمصقولة أسفل منحدرات الجرانيت. مثل الولائم متعددة الأطباق التي استمتعت بها في الفيلا الفاخرة داخل الغابة المحمية المطلة على خليج كافو، ستتناول قطع التونة الحمراء، وفطائر الحبار، والمكرونة الأسباغيتي مع الكلاماري.
وهنا يكمن أفضل جزء في توسكاني، فإلى جانب الإثارة، من المؤكد أنك ستستمع بمطبخ أسطوري وضيافة ودودة. الكرز الذي يزين الآيس كريم وحده سيمنحك حسّ التاريخ ومعرفة أن مغامرين مثلك قد ساروا في الطرق نفسها الأقل ارتياداً.
- فلورنسا وبيزا هي نقاط الانطلاق لأكثر مغامري توسكاني، حيث يوجد اتصال مستمر بين المدينتين والمدن الأوروبية المركزية مثل لندن وفرانكفورت.
> يمكن الذهاب إليها خلال فصلي الخريف والربيع عندما يقل الازدحام، وتنخفض درجات الحرارة، وكذلك الأسعار؛ لذا يمثل الفصلان وقتاً مناسباً لرحلات المغامرات في توسكاني.
> تزخر توسكاني بخيارات الإقامة كافة حسب الطلب والقدرة، من منازل متواضعة إلى فيلات فاخرة. يعد موقع Booking.com مصدراً رائعاً لمعرفة الخيارات المعقولة البديلة للفنادق باهظة الثمن التي يتم الإعلان عنها في المراكز السياحية، مثل فلورنسا وسيينا. من الفنادق التي يُوصى بها فندق «كاستيلو مونتيتشيلو» في جزيرة جيليو hotelcastellomonticello.com، وقصر ومنتجع «باني دي بيزا» bagnidipisa.com، بالقرب من بيزا، وفندق «سان بياجو ريليس» في بلدة أوبتيلو sanbiagiorelais.com، وفندق «تيرا دي كاسولي» hotelterredicasole.it في كاسولد إلسا، و«إكسبيرينس ريليس إل تيرميني» iltermineelba.com في جزيرة إلبا.

أهم الأنشطة التي يمكنك القيام بها:

- رحلات قيادة دراجات كيانتي.
- رحلات سفاري في غارفانيانا.
- مسار حبال نهر ليما المرتفعة.
- ركوب الخيول، ورحلات السفاري، والهبوط بالمظلات، وركوب الزوارق، وقيادة الدراجات في الجبال.



سوق البحرين العتيقة... روح البلد وعنوان المقاهي القديمة والجلسات التراثية

سوق المنامة القديم (إنستغرام)
سوق المنامة القديم (إنستغرام)
TT

سوق البحرين العتيقة... روح البلد وعنوان المقاهي القديمة والجلسات التراثية

سوق المنامة القديم (إنستغرام)
سوق المنامة القديم (إنستغرام)

«إن أعدنا لك المقاهي القديمة، فمن يُعِد لك الرفاق؟» بهذه العبارة التي تحمل في طياتها حنيناً عميقاً لماضٍ تليد، استهل محمود النامليتي، مالك أحد أقدم المقاهي الشعبية في قلب سوق المنامة، حديثه عن شغف البحرينيين بتراثهم العريق وارتباطهم العاطفي بجذورهم.

فور دخولك بوابة البحرين، والتجول في أزقة السوق العتيقة، حيث تمتزج رائحة القهوة بنكهة الذكريات، تبدو حكايات الأجداد حاضرة في كل زاوية، ويتأكد لك أن الموروث الثقافي ليس مجرد معلم من بين المعالم القديمة، بل روح متجددة تتوارثها الأجيال على مدى عقود.

«مقهى النامليتي» يُعدُّ أيقونة تاريخية ومعلماً شعبياً يُجسّد أصالة البحرين، حيث يقع في قلب سوق المنامة القديمة، نابضاً بروح الماضي وعراقة المكان، مالكه، محمود النامليتي، يحرص على الوجود يومياً، مرحباً بالزبائن بابتسامة دافئة وأسلوب يفيض بكرم الضيافة البحرينية التي تُدهش الزوار بحفاوتها وتميّزها.

مجموعة من الزوار قدموا من دولة الكويت حرصوا على زيارة مقهى النامليتي في سوق المنامة القديمة (الشرق الأوسط)

يؤكد النامليتي في حديثه لـ«الشرق الأوسط» أن سوق المنامة القديمة، الذي يمتد عمره لأكثر من 150 عاماً، يُعد شاهداً حيّاً على تاريخ البحرين وإرثها العريق، حيث تحتضن أزقته العديد من المقاهي الشعبية التي تروي حكايات الأجيال وتُبقي على جذور الهوية البحرينية متأصلة، ويُدلل على أهمية هذا الإرث بالمقولة الشعبية «اللي ما له أول ما له تالي».

عندما سألناه عن المقهى وبداياته، ارتسمت على وجهه ابتسامة وأجاب قائلاً: «مقهى النامليتي تأسس قبل نحو 85 عاماً، وخلال تلك المسيرة أُغلق وأُعيد فتحه 3 مرات تقريباً».

محمود النامليتي مالك المقهى يوجد باستمرار للترحيب بالزبائن بكل بشاشة (الشرق الأوسط)

وأضاف: «في الستينات، كان المقهى مركزاً ثقافياً واجتماعياً، تُوزع فيه المناهج الدراسية القادمة من العراق، والكويت، ومصر، وكان يشكل ملتقى للسكان من مختلف مناطق البلاد، كما أتذكر كيف كان الزبائن يشترون جريدة واحدة فقط، ويتناوبون على قراءتها واحداً تلو الآخر، لم تكن هناك إمكانية لأن يشتري كل شخص جريدة خاصة به، فكانوا يتشاركونها».

وتضم سوق المنامة القديمة، التي تعد واحدة من أقدم الأسواق في الخليج عدة مقاه ومطاعم وأسواق مخصصة قديمة مثل: مثل سوق الطووايش، والبهارات، والحلويات، والأغنام، والطيور، واللحوم، والذهب، والفضة، والساعات وغيرها.

وبينما كان صوت كوكب الشرق أم كلثوم يصدح في أرجاء المكان، استرسل النامليتي بقوله: «الناس تأتي إلى هنا لترتاح، واحتساء استكانة شاي، أو لتجربة أكلات شعبية مثل البليلة والخبيصة وغيرها، الزوار الذين يأتون إلى البحرين غالباً لا يبحثون عن الأماكن الحديثة، فهي موجودة في كل مكان، بل يتوقون لاكتشاف الأماكن الشعبية، تلك التي تحمل روح البلد، مثل المقاهي القديمة، والمطاعم البسيطة، والجلسات التراثية، والمحلات التقليدية».

جانب من السوق القديم (الشرق الاوسط)

في الماضي، كانت المقاهي الشعبية - كما يروي محمود النامليتي - تشكل متنفساً رئيسياً لأهل الخليج والبحرين على وجه الخصوص، في زمن خالٍ من السينما والتلفزيون والإنترنت والهواتف المحمولة. وأضاف: «كانت تلك المقاهي مركزاً للقاء الشعراء والمثقفين والأدباء، حيث يملأون المكان بحواراتهم ونقاشاتهم حول مختلف القضايا الثقافية والاجتماعية».

عندما سألناه عن سر تمسكه بالمقهى العتيق، رغم اتجاه الكثيرين للتخلي عن مقاهي آبائهم لصالح محلات حديثة تواكب متطلبات العصر، أجاب بثقة: «تمسكنا بالمقهى هو حفاظ على ماضينا وماضي آبائنا وأجدادنا، ولإبراز هذه الجوانب للآخرين، الناس اليوم يشتاقون للمقاهي والمجالس القديمة، للسيارات الكلاسيكية، المباني التراثية، الأنتيك، وحتى الأشرطة القديمة، هذه الأشياء ليست مجرد ذكريات، بل هي هوية نحرص على إبقائها حية للأجيال المقبلة».

يحرص العديد من الزوار والدبلوماسيين على زيارة الأماكن التراثية والشعبية في البحرين (الشرق الأوسط)

اليوم، يشهد الإقبال على المقاهي الشعبية ازدياداً لافتاً من الشباب من الجنسين، كما يوضح محمود النامليتي، مشيراً إلى أن بعضهم يتخذ من هذه الأماكن العريقة موضوعاً لأبحاثهم الجامعية، مما يعكس اهتمامهم بالتراث وتوثيقه أكاديمياً.

وأضاف: «كما يحرص العديد من السفراء المعتمدين لدى المنامة على زيارة المقهى باستمرار، للتعرف عن قرب على تراث البحرين العريق وأسواقها الشعبية».