قبل 3 عقود، سمحت الحكومة البريطانية بقيادة «المرأة الحديدية» مارغريت ثاتشر لشركة «الإمبراطور الإعلامي» روبرت مردوخ بامتلاك صحيفتي «التايمز» و«الصنداي تايمز» من دون الرجوع إلى هيئة الاحتكارات والاندماجات، على رغم من أنه كان يملك بالفعل صحيفتي «ذا صن» و«نيوز أوف ذا ورلد». وعلّق أحد محرري «الصنداي تايمز» في حينها أن القرار «غير مسبوق في تاريخ الصحافة البريطانية»، وأنه تم بلا رقابة في غضون 3 أيام.
الذاكرة الإعلامية البريطانية لا تنسى أن هذا القرار اتخذه وزير التجارة البريطاني في حكومة ثاتشر جون بيفن، على أساس أن الصحيفتين تشرفان على الإفلاس، ويجب البتّ في مصيرهما في أسرع فرصة، ومن دون العرض على هيئة الاحتكارات. وتم الاعتراض على هذا القرار بشدة في البرلمان والإعلام البريطاني، ولكن بعد فوات الأوان.
سيطرة على الإعلام المرئي
الغريب أن ما حقّقه مردوخ في مجال الإعلام المطبوع عاد وسجله أيضاً في مجال التلفزيون عندما دمج شركتين شبه مفلستين، هما «سكاي» و«بي إس بي». ومرّ الأمر أيضاً من دون عرض على هيئة الاحتكارات، على أساس أن الشركتين تسجلان كثيراً من الخسائر، وأن البديل لدمجهما هو إفلاسهما. هكذا ولدت شركة «بي سكاي بي»، وعلى رأسها روبرت مردوخ، وابنه جيمس مردوخ.
بعد مشادة طويلة الأجل في المحاكم البريطانية، كان القرار أنه يتعين على شركة مردوخ «بي سكاي بي» أن تخفض نسبة ملكيتها في قناة تلفزيون «آي تي في» عن 17.9 في المائة، بعد شكوى شركات منافسة مثل «فيرجن» و«بي تي». كما واجهت شركة مردوخ القابضة «نيوز كورب» مشكلات قضائية في الاستحواذ على النسبة الباقية من أسهم «بي سكاي بي» لم تكن تملكها بعد.
وعلى الرغم أن «بي سكاي بي» كان يديرها جيمس ابن مردوخ، ويملك فيها حصة 39 في المائة، وهي حصة تتيح له التحكم في الشركة، فإن المناقشات في المجال العام البريطاني، بما في ذلك البرلمان، كانت تخشى في الواقع نمو إمبراطورية مردوخ الإعلامية وزيادة نفوذه في المجال السياسي.
منحت «بي سكاي بي» مردوخ فرصة التحكم في نسبة كبيرة من سوق التلفزيون الفضائي المدفوع، واحتكار 10 ملايين مشاهد، وجني أرباح بقيمة 5.9 مليار إسترليني، أي أن الشركة أصبحت أكبر من هيئة الإذاعة البريطانية «بي بي سي» التي لا تزيد إيراداتها من رخص المشاهدة عن 3.6 مليار إسترليني. وسيطرت شركة مردوخ على مجالي الرياضة والأفلام، وكانت تسعى إلى السيطرة على مجالات أخرى مثل الأخبار، وهذا ما كانت تخشاه الحكومة البريطانية.
كانت المخاوف من قدرة قنوات مردوخ على دفع مبالغ عالية لشراء أفضل البرامج الأميركية وعرضها في بريطانيا لمن يدفع اشتراكات باهظة الثمن. كما ظهرت معالم تحول قناة «سكاي نيوز» إلى ما يشبه قناة «فوكس» الأميركية، التي تميل إلى اليمين السياسي.
وثائق تكشف علاقة شائكة
كشفت الوثائق البريطانية، التي نشرت حديثاً بعد مرور ربع قرن عليها، عن تحذير مسؤول حكومي هو غاس أودونيل في مذكرة له من أن مطبوعات وقنوات مردوخ لديها آراء منحازة فيما يتعلق بالسياسة البريطانية. وعبّر أودونيل عن دهشته أن مردوخ يتصل برئيس تحرير صحيفة «ذا صن» كيلفن ماكينزي في معظم الأيام لكي يسأله عما يجري في بريطانيا. وأضاف: «الله وحده يعلم لماذا يحصل مردوخ (من ماكينزي) على أخبار منحازة لما يجري هنا».
وأكدت المذكرة أن مردوخ يعلم على الأرجح المعلومات التي تبّثها جرائده، وإن كان هناك شك في أنه يقرأ الصحف التي يصدرها. كما شعر جون ميجور عندما تولى رئاسة الوزارة البريطانية أن مردوخ يتّخذ منه موقفاً عدائياً. وبلغ غضب ميجور أنه منع وزراءه من حضور حفل تدشين قناة تلفزيونية جديدة من «سكاي»، كما تذكر وثائق من عام 1993.
ومع ذلك، وفي مخالفة لأوامر ميجور، ذهب وزير الداخلية مايكل هاوارد إلى حفل مردوخ من أجل اكتساب مصداقية مع مردوخ. وعلل هاوارد ذهابه، على رغم عداء صحف مردوخ للحكومة، بأن الحكومة قد تحتاجه في الانتخابات المقبلة. كما أشار إلى أن رئيس المعارضة حينذاك، توني بلير، حضر احتفال مردوخ، وكان من الملائم أن يحضر أيضاً وزير من الحكومة.
أودونيل نصح أيضاً جون ميجور في مذكرة أخرى أن عليه أن يناقش انحياز صحف مردوخ ضد جون ميجور وحكومته.
مردوخ وثاتشر
علاقة مردوخ كانت أفضل مع مارغريت ثاتشر؛ حيث استغاث بها بعد تراكم خسائره إلى 95 مليون إسترليني من قناة «سكاي»، مع خسائر أكبر من «بي إس بي»، وكان الحل الوحيد هو دمج الشركتين. وذهب مردوخ لمقابلة ثاتشر في بداية تسعينات القرن الماضي، وكانت تودع زائراً أجنبياً، فقدمت له مردوخ بالقول: «هذا هو السيد مردوخ الذي يشرف على (سكاي نيوز)، وهي قناة الأخبار الوحيدة غير المنحازة في بريطانيا». فقال مردوخ: «تعرفين أنها تكلفنا الكثير، وسوف نضطر إلى دمجها». فأومأت ثاتشر بالموافقة. وتشير صحيفة «غارديان» في أرشيفها إلى واقعة غريبة حيث أنشأت الحكومة هيئة منفصلة للإشراف على محطات التلفزيون، اسمها هيئة التلفزيون المستقلة، بدلاً من هيئة الإذاعة المستقلة. وكان الفرق بين نهاية مهام هيئة الإذاعة وهيئة التلفزيون أسبوعاً كاملاً تم في خلاله، وبعلم البرلمان، دمج شركتي سكاي و«بي إس بي» لتكوين «بي سكاي بي» من دون مراجعات رسمية لمخاطر الاحتكار الإعلامي. ونشرت «غارديان» حينذاك أن تمرير الاندماج لمردوخ «كان آخر هدية من حكومة ممتنة له».
اجتماعات سرية
كان دور شركة «سكاي» الاحتكاري، هو السبيل الوحيد لمردوخ في تحويل خسائر قدرها 646 مليون إسترليني في عام 1991 إلى أرباح، قيمتها 271 مليون إسترليني في عام 1998. ولكن هل جرى ذلك في إطار المنافسة الطبيعية بين وسائل الإعلام في بريطانيا؟
الوثائق تؤكد أن مردوخ ومديري شركة «نيوز كورب» استمتعوا بمعاملة مفضلة من السياسيين على أعلى مستوى في الحكومات البريطانية المتعاقبة. وفي الفترة بين أبريل (نيسان) 2015 إلى سبتمبر (أيلول) 2016 اجتمع مديرو شركة مردوخ مع مسؤولين حكوميين 22 مرة، وهو عدد أكبر من اجتماعات أي مؤسسة إعلامية أخرى، بما في ذلك هيئة الإذاعة البريطانية. واستمرت هذه الاجتماعات أثناء حكومتي ديفيد كاميرون وتيريزا ماي.
وشملت اللقاءات 18 اجتماعاً مع رئيس الوزراء، ووزير الخزانة، ووزير الثقافة. وحضر مردوخ نفسه 8 اجتماعات منها. ولا توجد وثائق عن محتوى الموضوعات التي نوقشت في هذه الاجتماعات. وبالمقارنة، لم يجتمع مسؤولو «بي بي سي» بأعضاء الحكومة البريطانية على هذا المستوى خلال الفترة نفسها سوى 6 مرات فقط، بينما اجتمع إيفغني ليبيدف مالك صحيفتي «إندبندنت» و«إيفينينغ ستاندرد» سوى 4 مرات فقط.
«كومكاست» تنهي احتكار الشاشة
تفتح هذه الاجتماعات المتكررة مع مسؤولي «نيوز كورب» التساؤلات حول المعاملة المفضلة التي تمتع بها مردوخ ورجاله، بالمقارنة مع مسؤولي وسائل الإعلام الأخرى، ومدى تقدير الحكومة لروح العدالة في التعامل مع وسائل الإعلام المختلفة.
من ناحيته، نفى روبرت مردوخ أنه يفرض أي سيطرة على الحكومات البريطانية، وأنه لم يسأل قط عن أي معاملة مفضلة من أي رئيس وزراء. ووصف مردوخ خبراً نُشر عنه في صحيفة «غادريان» بأنه من نوع الأخبار الكاذبة. وكانت الصحيفة قد نشرت عبارة، ذكرت أنها منسوبة لمردوخ، يقول فيها إنه عندما يذهب إلى «دوانينغ ستريت» (مقر الحكومة البريطانية) فهم يفعلون ما أشير به، ولكن عندما أذهب إلى بروكسل (مقر الاتحاد الأوروبي) لا أحد يسمع لي. وعلى هذا الأساس تساهم صحف مردوخ في تبني خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
وانتهت سيطرة مردوخ على قطاع التلفزيون الفضائي المدفوع في شهر أكتوبر (تشرين الأول) 2018 عندما اشترت شركة «كومكاست» مجموعة «سكاي»، ولكن مردوخ حافظ على أصول صحفه الورقية ضمن مجموعة «نيوز كورب». وتعد شركة «كومكاست» الأميركية التي تعمل من فيلادلفيا هي ثاني أكبر مجموعة بثّ تلفزيوني في العالم، بحساب الإيرادات، وأكبر مجموعة للبثّ التلفزيوني المدفوع وتلفزيون الكيبل. وأضافت «سكاي» لشركة «كومكاست» 53 مليون مشاهد باشتراكات في أوروبا وحدها.