القذافي والهجرة غير الشرعية... روائياً

الواقع الليبي الشائك في «قيام وانهيار الصاد شين» لحمدي أبو جليل

القذافي والهجرة غير الشرعية... روائياً
TT

القذافي والهجرة غير الشرعية... روائياً

القذافي والهجرة غير الشرعية... روائياً

يلعب حمدي أبو جليل على تقاطعات الجغرافيا والتاريخ في روايته «قيام وانهيار الصاد شين» الصادرة حديثاً عن دار «ميريت» بالقاهرة، ويقدم شكلاً من أشكال المعرفة المستفيضة والعميقة بخبايا المهمش والمسكوت عنه في طوايا هذا التقاطع، متخذاً من الواقع الليبي الشائك والملتبس، خصوصاً في السنوات الأخيرة، جراباً للحكي، حيث تتضافر على مدار الرواية الواقعة في نحو مائتي صفحة خبرة الحياة في هذا الواقع وخبرة الحكي، ويشكلان معاً زمناً روائياً شيقاً، يقف على أطراف من السيرة الذاتية للكاتب نفسه، السارد المركزي في الرواية، تتنوع فيها أصوات الماضي والحاضر والمستقبل، سواء في رسمه لصورة قريته مسقط رأسه على أطراف محافظة الفيوم، التي منها تبدأ نقطة الانطلاق إلى حلمه ومغامرته الروائية، أو في سعيه الخاص المتميز لإيجاد لغة بديلة للسرد، بالدمج بين الفصحي والعامية أحياناً، أو توظيف اللهجات البدوية والعامية الليبية بطريقة حميمية داخل نسيج السرد، فتصبح ضمائره فضاءً لأزمنة محسوسة ومعيشة، بل طازجة كأنها تحدث للتو.
بهذه الحيوية تتحول مغامرة الحكي إلى ترحال في دروب الحياة والزمن، مسكونة بطاقة الخيال والحلم معاً، عبر هم أساسي، يشكل كتلة النص الأساسية، وهي تجربة الهجرة غير الشرعية من السواحل الليبية إلى السواحل الإيطالية، ومن خلال شخصية البطل السارد المركزي الذي هاجر إلى إيطاليا في تسعينيات القرن الماضي.
إنه قاع الحياة في ليبيا عبر سنوات قضاها الكاتب هناك، وتحت مظلة «الصاد شين» الجنسية التي اخترعها الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي، وضمت بدو مصر الواقعين على تخوم الصحراء ما بين الحدود الشرقية المصرية الليبية، وحسب الرواية، وفي فصل بعنوان «مصدر الصاد شين» يقول: «بدو مصر مصدر الصاد شين، بل القبائل اللبيبة كلها، وهم على المستوى العرقي نوعان من بدو الشرق وبدو الغرب، وهم يختلفون في اللهجة والزي، والتقاليد والأغاني والموطن الأصلي، البدو الشرقيون هجرات وثقافة ولغة صحاري الشام وشمال الجزيرة العربية، والبدو الغربيون هجرات وثقافة ولغة الصحراء الكبرى من ليبيا حتى المغرب».
ثم يمعن في التفاصيل لافتاً إلى أن بدو الغرب على المستوى الجغرافي نوعان أيضاً، بدو الأطراف، الحدود الصحراوية، وبدو الوادي المزروع، والأدق شبه المزروع، أو الذي يمتد في قلب مصر كأفعى وسط الصحراء من الإسكندرية حتى أسوان.
يتمتع من يملكون صك «الشين صاد» بمكانة خاصة لدى الزعيم، فقبيلته تنتمي إليهم، وكان يعتبرهم ملاذه الأمني المخلص، كما راعت ذلك السلطات في البلاد، ووضعته في الحسبان، وأطاحت به أيضاً... فكلما تداعت واضطربت الظروف والأحوال، كشفت السلطات عن نظرة دونية لهم فتعتبرهم لقطاء هجين، وبحسب الرواية، «مصاروة ممصخين»، ليسوا ليبين أصلاء خلصاً، بل هم مجرد هامش عابر في فضاء وسيع لا مترامي الأطراف. ومن ثم كان لزاماً أن يرتبط قيامهم وصعودهم وانهيارهم بحياة الزعيم نفسه، الذي تروى وتحاك حول أصله ومكان ولادته الكثير من الحكايات، ومن بينها بحسب الرواية «أن الزعيم أصلاً فرنسي، أبوه طيار، سقط من سماوات الحرب العالمية الثانية، على خيمة عرب ليبيين هاملين في الصحراء وتزوج ابنتهم وأنجبت له الزعيم».
وبروح السخرية المرحة التي تغلف الرواية، يعلق الراوي على هذه الرواية، قائلاً: «وبمناسبة السماء التي سقط منها والد الزعيم الفرنسي (المُدعى طبعاً) فإن السماء أساسية في مسيرة الزعيم وديدنه اليومي، أولاً هو لا يحلق إلا في السماء، خلقة كده، في رقبته حنية ناصبة وجهه مباشرة على وجه السماء».
تكسر الرواية صندوق الجغرافيا، وتخترقه من الداخل، معرية ما يدور داخله من تناقضات، وأدوار متعددة خفية، تقاس دائماً بحسب معايير القوة والضعف، وشبكات المصالح، التي تصل إلى حد العمالة والإجرام أحياناً... فالفضاء الليبي مجرد جسر وقنطرة للعبور إلى الحلم العريض الأوسع، حلم الثراء والتمدن والحياة الحرة النظيفة، التي تتراءى على الشاطئ الآخر الإيطالي.
وتكشف من داخل التجربة عن مشاهد وأحداث وتفاصيل موجعة دامية غير إنسانية لما عرف بظاهرة الهجرة الجماعية غير الشرعية لأوروبا، والمصير الذي يلقاه المئات بل الآلاف من الأفارقة المعدمين، الذين يشكلون الهامش الأكبر في هذه الظاهرة، فراراً من الفقر والجوع والقمع، لكنهم يفرون من خوف وجوع إلى خوف وجوع أكثر إيلاماً، فلا حائط يستندون عليه، سوى الصبر وتحمل المذلة والإهانة، من أجل التمسك حتى بقشة صغيرة لبلوغ هذا الحلم، والمخاطرة في سبيله ولو بالسفر في قوارب مطاطية متهالكة تتكدس بالعشرات منهم، معرضة في كل لحظة لأن يثقبها الموج، أو يجرفها إلى مصير مجهول.
لم يسلم الراوي بطل الرواية من هذا الخوف، فتطالعنا صوره المرعبة في معظم الرواية، متجسداً تارة على أنه الخوف الكاشف المضيء، وتارة على أنه الخوف القاتل الغادر... «الإنسان المتحضر خواف، أقول لكم على حقيقة بشرية، الخوف يتناسب طردياً مع تقدم الأمم». إنه خوف الداخل من الخارج، والعكس أيضاً، ولا سبيل لكسره سوى بالحكي، الحكي عن الذات نفسها، وتشابكاتها وعلاقتها بالآخرين، وهم كثر ومن جنسيات شتي... هنا تبرز خصيصة مهمة في هذه الرواية، وهي مقدرة الكاتب على تحويل فعل الحكي بعشوائيته الخام إلى نسق فني، فيبدو كأنه صيرورة حياة ووجود لا يكف عن الحلم والأمل، إنه فعل مقاومة، وسياج لحماية الذات من صورة الخارج الموحشة المرعبة، كما أن هذا الفعل يتحول إلى مظلة من الونس، خصوصاً في لحظات الهدوء من اللهاث اليومي، ومحاولة التخفف من أعباء الرحلة ومعاناتها التي لا تنتهي. أضف إلى ذلك نقطة - أحسبها مهمة - في هذه الرواية - تكمن في المقدرة على بعثرة الحكي، وتعمد اعتباطيته وعشوائيته أحياناً، ثم لمه وتجميعه، على شكل كتل نصية خاطفة، تتناسل وتتشكل بوعي فني شفيف، مشكلة محور إيقاع خاص للرواية، يجذب القارئ، ويشده ليدخل في مناخاتها بتشوق، وكأنه أصبح أحد مفردات المشهد أو اللقطة، أو المأزق السردي الحكائي. ثمة إذن فلسفة للخوف، يسردها الراوي، بطريقته المغوية البارعة في دمج الفصحى بالعامية، أو التضفير بينهما، لخلق مدارات مباغتة لفعل الحكي، تعززها قدرة متميزة على توظيف الكثير من آليات الحكي الشفاهي ابن الوجدان الشعبي، مثل فن النقورة والهزء، والتهكم، والمزاح وخفة الدم، والقفشة... يقول الراوي معلقاً على عشوائية مشروعات الحكومية الليبية لبناء مساكن لم تكتمل في حي «الطيوري» الفقير: «أنا شخصياً كان لي صديق ليبي، حاصل على ثانوية عامة أدبي، ودخل طب، ولما فشل في الطب دخل هندسة».
وجه آخر للصورة يطالعنا في فصل بعنوان «يوميات الخطف» صفحة (96)، مجسداً عمليات الخطف والتثبيت والتقليب، التي أصبحت من الأمور العادية في مدينة سبها، أحد النقاط المركزية لوجود الصاد شين، التي أشيع أن شرطتها وحكومتها متواطئة في ذلك، لكن الدنيا انقلبت وعمت الفوضى بعد خطف زوجة طبيب يوغسلافي كان يعمل في سبها، ما اضطر الزعيم رأس الدولة إلى أن يقوم بنفسه بتنظيم هذه الفوضى: «وجاء الزعيم شخصياً إلى سبها وأقام وقال (أنا اللي هظبطها بروحي)، رأيته يظبطها بروحه، ويوقف السيارات ويفحص الأوراق»؟
تحت هذه المظلة؛ مظلة الخوف وهواجس المغامرة المتشعبة المثقلة بالمفاجآت في مواجهة واقع منتظر، يمثل نوعاً من الخلاص بالحلم والقفز إلى أفق إنساني مفتوح على أشواق البطل الكاتب بأن يصبح مليونيراً، يبرز التاريخ كوعاء زمني للحكي وللجغرافيا أيضاً. وبعد معاناة قاسية من شظف العيش في الواقع الليبي، خصوصاً في مزرعة الأرانب، ومصنع البلوك، ومهن أخرى، امتهنها بمحض الصدفة، يصل البطل إلى ميلانو ليواجه بحلمه صدمة أخرى يجسدها واقع مغاير، يبدو فيه وكأنه سحابة ماء، لا تملك سوى أن تتكسر وتتبخر كل يوم. وما عليه سوى أن ينتظر المزيد من التكسر. فيخاطر بأقصى ما يملك جسداً وروحاً، حتى لا يظل معلقاً في فراغ لا يعرف كيف يحتويه. فتارة نراه صعلوكاً متشرداً يتسول طعامه من الكنائس، وينام في الغابات والحدائق وتحت الكباري، وتارة نراه مقامراً ثرياً، نديماً للبارات والنساء وصالات القمار، يتاجر في المخدرات، وكل ما هو ممنوع، وتجبره صدمة الحياة ومفاجآتها والتشبث بها إلى أن يتحول إلى فتوة بلطجي، يزج به في السجن مرتين، وبحيل الفهلوة واللعب التي يجيدها يتحول من متهم إلى بريء، مؤمناً بأن مصادفة الحياة ليست خالصة لذاتها، فدائما ما تنطوي على آلاعيب مباغتة وقذرة، ما يجعله يبدو أحياناً بطلاً تراجيدياً بامتياز قادراً على خلق مسارات للحكي وتصعيده إلى أقصى الذرى الدرامية من أبسط وأتفه نثريات الحياة.
إن القيمة الجمالية التي أرى أنها تشكل خلاصة قراءتي لهذا الرواية الممتعة، تكمن، في جعلها الحكي فعل معايشة للحياة، وليس مجرد استعارة لها، أو لعباً أجوف على وقائع هامشية مكررة ومعادة.


مقالات ذات صلة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

ثقافة وفنون أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية

سحر عبد الله
يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة
TT

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية، من كتب وتحف وصور فردية وعائلية عبر مراحل حياتها. قدمت إيزابيل الليندي عبر أربع ساعات ونصف الساعة نصائح إلى الكُتاب الناشئين أو مشروع الروائيين الجدد، من خلاصة تجربتها الشخصية في كتابة ونشر 28 كتاباً، تمّت ترجمتها لعشرات اللغات عبر العالم وبِيعت منها ملايين النسخ. يضم الكورس عشرين نصيحة أو درساً مع أمثلة من تجربتها الشخصية أو تجارب كتاب تعدّهم أعلاماً في الأدب اللاتيني والعالمي، مثل غابرييل غارسيا ماركيز.

بدأت الليندي بنقطة أساسية في مقدمة الكورس، وهي أهمية «الصدق والأصالة» في أي حكاية، ثم انتقلت مباشرة إلى الحديث بإسهاب عن صنعة الكتابة بوصفها مهنة تحتاج إلى الكثير من التمرين والانضباط وتحديداً فترة البداية. كما تتطلّب طقوساً مهمة، وتنصح هنا بعدة أمور؛ من أهمها: اختيار يوم محدد يقرّر فيه الكاتب الالتزام بالكتابة. بالنسبة إليها شخصياً، فهو اليوم الذي تلقت فيه رسالة من ناشرتها الإسبانية التي تحدّتها بكتابة كتاب ثانٍ ناجح، بعد «بيت الأرواح»، ففعلت وكان ذلك يوم الثامن من يناير (كانون الثاني)، وهو اليوم الذي لم تغيّره بعد إنجاز عشرات الكتب. تشبه الليندي بداية الكتابة بعملية زراعة بذرة، قد تبدو في بداية نموها نبتة ضعيفة، إلا أنها ستصبح شجرة قوية هي «الكتاب الأول». ركزت أيضاً على ضرورة إبقاء الكاتب مسافة ضرورية من المادة الأساسية، مستعيرة مثال الإعصار فتقول: «حين تكون داخل الإعصار لا يمكنك الكتابة عنه»، وكذلك في الكتابة يجب أن تكون لديك «غرفة توفّر لك الصمت الداخلي والعزلة». بهذا المعنى تتوفر للكاتب تصوراته ومسافته اللازمة؛ ليكتب عن الشخصيات والحدث في أي عمل.

أما عن أهمية القراءة على طول الخط فتقول: «لا يمكن أن تكتب أدباً إن لم تقرأ وتقرأ كثيراً. ربما لكاتبك المفضل، أو غيره، فبذلك تتقن السرد دون انتباه إلى ما تتعلّمه». تنتقل الكاتبة إلى الحديث في أحد الدروس عن صوت الراوي، فتعده موضوعاً بسيطاً للغاية: «إنه الشخص الذي يروي الحكاية بكل تفاصيلها، وقد يكون الحديث بصيغة المتكلم، وهو أسهل بكثير من الحديث بلغة الأنا». ثم تنتقل بنا الليندي إلى موضوع النبرة في السرد، معرفة إياها بالمزاج الذي يأخذ طابعه من الحبكة، فإما أن يكون مستفزاً، مشوقاً، مثيراً... حسب التيمة الأساسية للعمل، سواء كان تاريخياً، رومانسياً أو تراجيدياً إلخ... وهنا تحث الكاتب على التخلي عن إحساس الخوف من عيوب الكتابة مثل ارتكاب الأخطاء، قليلة أو كثيرة. فهي تعدّ ذلك أمراً طبيعياً في عملية الكتابة وتحديداً كتابة الرواية.

وأولت الليندي اهتماماً كبيراً بالبحث عن المزيد، خصوصاً في الروايات التاريخية. فالتفاصيل هي ما يبعث الحياة في القصص. وهنا قدمت مثالاً عن كيفية بحثها قبيل كتابتها لرواية «ابنة الحظ». فتقول: «لقد بحثت في موضوع الرسائل التي كان يرسلها عمال مناجم الذهب، ويدفعون أونصة منه، مقابل إيصال رسالة إلى عائلاتهم. لقد كانت مهنة ساعي البريد خطيرة وتستغرق مخاطرة السفر لمدة قد تستغرق شهرين لعبور مسافة وعرة من الجبال إلى مكان إرسال الرسائل»، قرأت الليندي مثل هذه المعلومات في رسائل من أرشيف المكتبة الوطنية في تشيلي.

في منتصف هذه الدورة التعليمية، وتحديداً في الدرس التاسع، ركزت الليندي على تفصيل رسم شخصيات مقنعة: «ليس مهماً أن تحب الشرير في الرواية أو المشهد المسرحي، المهم أن تفهم شره». وكما في مجمل أجزاء الكورس، أعطت الكاتبة أمثلة من تجربتها الروائية وطريقتها في رسم ملامح شخصياتها، فهي تتجنّب الوصف الشكلي إن لم يكن ضرورياً، وإن اضطرت تحرص أن يكون مختلفاً وبعيداً عن المعتاد والكليشيهات.

احتلّت الحبكة والبنية موضوع الدرس الثاني عشر، وفيه عدّت إيزابيل أن أهم نصيحة يمكن إعطاؤها هي تشكيل بداية بسيطة للحبكة، فذلك يفسح مجالاً للشخصية أو الشخصيات كي تتجول بحرية في الزمان والمكان. أما الجملة الأولى فكانت موضوع الدرس الثالث عشر، وتعدّه الليندي مهماً جداً، فهي «الباب الذي يفتحه الكاتب لقارئه كي يدخل في الحكاية». أما المقطع الأول فهو يهيئ للصوت الأساسي في الرواية. مع ضرورة تجنب الكليشيهات، خصوصاً في الاستعارات التي قد تنقلب وتصبح فخاً مملاً.

خصصت الكاتبة درساً أيضاً عن الروتين والانضباط وعملية خلق عادة للكتابة، فهي بمثابة تكوين «عضلات لجسد الكتابة»، يتطلّب التمرين والتكرار. يلاحظ المستمع في هذا الدرس نقاطاً طُرحت في الدروس الأولى عن طقوس الكتابة. وهنا كما في «سن الأربعين، وأنا أعمل في وظيفتين، استلزم مني ذلك العمل منذ الساعة السابعة صباحاً والعودة في السابعة مساء». لم أكن أفوّت وقتاً لتدوين ملاحظاتي في دفتر أحمله معي أينما ذهبت «كطفلي الصغير»، وخلال عام كتبت 560 صفحة شكلت مسودة «بيت الأرواح». لقد صممت الليندي على كتابة ما تراكم في داخلها خلال السنوات الماضية، بعد مغادرتها القسرية لتشيلي، بسبب انقلاب بينوشيه الذي أطاح بسلفادور الليندي. استخدمت الكاتبة هذه الاستعارة أكثر من مرة؛ لتؤكد أهمية الشغف «إن كنت تود الكتابة، يمكنك فعل ذلك في أي مكان، فالكتابة كممارسة الحب، إن أردتها من أعماقك فستجد دوماً الوقت والمكان لفعلها».

في الدرس السادس عشر، تشبه الكاتبة تفاصيل الرواية بخصلات الشعر التي يمكن ضفرها بإتقان خصوصاً الخصلة الوسطى، فهي التي تجمع طرفي الحكاية بجزالة. يمكن للكاتب أن يضيف خصلات إضافية لجديلة الحكاية، ويجعل الشخصيات أكثر عدداً وقصصها أكثر تعقيداً. استخدمت الليندي مثال أي مسرحية من مسرحيات شكسبير، مشبهة إياها بعشرات الخصل المعقدة التي تتضافر معاً وتخلق نصاً مذهلاً.

أما عن التعاطي مع أصوات الرواية والانتباه لأصالة المكان الذي قد يتطلّب استخداماً معيناً بثقافة أو جغرافية ما، فقد خصّصت له الكاتبة أيضاً درساً مستقلاً أتبعته مباشرة بالحديث عن أهمية الحوار بين الشخصيات. وهنا أشارت الليندي إلى إمكانية تجريب أي كاتب للقراءة الشخصية بصوت عالٍ. مخطوط روايته مثلاً، قد يضطره الأمر إلى تعديل الحوار أو اختصاره.

بالاقتراب من نهاية تلك الدورة التعليمية المصغرة، تطرّقت الليندي إلى موضوع التصعيد، مستعيرة مثال نقاط الصمت بين العلامات الموسيقية ومدى أهميتها. وكذلك مثال من يلقون النكت الساخرة أو المزحات، حين يؤجلون جوهر المزحة تقريباً للنهاية، مما يجعل المستمع متشوقاً.

أربع ساعات ونصف الساعة أطلّت خلالها الكاتبة الشهيرة عبر منصة «مايسترو» في «هيئة الإذاعة البريطانية»، قدّمت خلالها إلى قرّائها ومحبيها خلاصة تجربتها في محبة الكتابة وطرائق صناعتها

أما عن نهاية القصة أو الرواية التي صمّمت على أن تكون نهاية النصائح، في آخر الكورس، فتكثفها بالقول: «في سياق الكتابة وتطوير الحبكة وتصعيدها، ليس مستغرباً أن يفهم الكاتب جميع شخصياته ويحدّد نبرات أصواتهم، وكذلك منتهى الحكاية ومآل الشخصية الأساسية أحياناً أو الشخصيات. قد تغيّر جملة أو حركة مسار الحكاية كلها، وتُعطي للنهاية لمسة لا تُنسى». استعارت الكاتبة كلمة واحدة من المشهد الأخير في رواية «الحب في زمن الكوليرا» لماركيز، عن العاشقين الأبديين في لقائهما المتأخر بعد خمسين عاماً من الفراق: «لقد أبحرا، أبحرا إلى الأبد». فتعلّق بالقول: «لو اكتفى الكاتب بجملة (أبحرا)، لن يكون لتلك النهاية ذات التأثير. حين أضاف لهما (إلى الأبد) منح الخلود لتلك النهاية، وأعطى القارئ مشهداً لا يُنسى».

اختتمت الليندي نصائحها المهمة بخلاصة شخصية وعامة عن النشر، مركزة على ضرورة الكتابة من أجل المتعة، لأنها بصفتها مهنة لن تمنح الشهرة أو المال بسهولة أو بسرعة. ومع ذلك حثت المستمع والمشاهد على الكتابة بكل الأحوال. وهنا نبهت الكاتبة على أهمية العلاقات الاجتماعية والمهنية لجميع الكتاب الناشئين، وحتى المشهورين. وكذلك على حضور مؤتمرات ومهرجانات تساعد جميعها على توسيع دائرة المعارف.

نصائح إيزابيل العشرون، أشبه بحكاية حب حقيقية عن تجربة الروائية الثمانينية التي لم يوقفها شيء عن الكتابة، لا المنفى ولا إخفاقات الزواج والطلاق لأكثر من مرة، ولا خسارة ابنتها الوحيدة... بل جعلت من كل محنة نقطة انطلاق، أو سبباً للكتابة، وهذا ما ذكرته في لقطة الدعاية للكورس: «إن الأدب العظيم غالباً ما ينطلق من المحن الشخصية أو العامة».

يُذكر أن هذه الدورة التعليمية وشبيهاتها غير مجانية، إلا أنها بالقياس لقيمتها وأهميتها تُعدّ رمزية، بل متواضعة وقد استقطبت «هيئة الإذاعة البريطانية» قبل إيزابيل الليندي كتاباً آخرين؛ مثل: مارغريت أتوود وسلمان رشدي وغيرهما؛ لتقديم محتويات مشابهة.