يبدو أن معرض القاهرة للكتاب قد نجح في تحديه نصف قرن من الزمن، وسط مد وجزر. والإقبال الجماهيري الكبير على مدار اليوم، من العاشرة صباحاً حتى الثامنة مساءً، حيث تجاوز عدد زوار المعرض المليون خلال أيامه الأولى، دليل ملموس على نجاحه الكبير، بل تحقيقه طفرة نوعية.
وخلال جولتنا في أجنحة المعرض، التقينا عدداً من الكتاب الذين عبروا عن دهشتهم من الإقبال الجماهيري غير المسبوق، وإعجابهم بدقة التنظيم، وتوفر الخدمات، بالإضافة إلى أن المعرض يصدر للمرة الأولى مجلة يومية باسم «مرايا»، يرأس تحريرها الكاتب الصحافي أسامة الرحيمي. لكن هناك أيضاً ما يثير الشجن، خصوصاً غلاء الكتب، كما سنرى في هذا التحقيق.
تقول الكاتبة مي التلمساني: «في الحقيقة، أذهلني حجم الإقبال على المعرض من الجمهور؛ إنه أمر غير متوقع على الإطلاق. أما في ما يخص الفعاليات، فوجدت أن اختيار سهير القلماوي شخصية للمعرض هذا العام أمر يستحق التقدير». واتفق معها الروائي المغربي أنيس الرافعي الذي شارك أيضاً في أمسية السرد العربي، إلى جانب الليبي إبراهيم الكوني، والسوداني حمور زيادة، والمصري وحيد الطويلة.
أما أحمد بدير، مدير النشر بدار الشروق، فيقول: «المعرض في سنواته الخمسين الماضية لم يكن يرقى للمقارنة مع المعارض العالمية، لكنه استقطب شريحة جديدة هذا العام من الشباب الذين لم يقدموا من قبل على زيارة المعرض، رغم أن الكتاب أصبح رفاهية لدى شريحة كبرى من المصريين. وأقترح هنا أن تتم مراعاة المهنية في تنوع تصميمات العرض، لأن لكل دار نشر هويتها التي تعبر عن فلسفتها في النشر. وكانت دار الشروق قد طالبت بتغيير تصميم جناحها ليعكس هويتها».
- أجنحة المعرض
جناح ضيف الشرف، المخصص لجامعة الدول العربية هذا العام، قدم مبادرة طيبة، وهي «كتاب لكل زائر»، هدفها التعريف بدور الجامعة وتاريخها. وتقول هالة جاد، مديرة إدارة المعلومات والتوثيق بالجامعة: «المبادرة أطلقها الجناح، ليحصل كل زائر على كتاب مجاني من الكتب التي تبرعت بها الدول الأعضاء».
وتميز الجناح السعودي في المعرض بما يقدمه من أنشطة وفعاليات وتطور في المعروضات كل عام، وبمشاركة الجامعات السعودية ودارة الملك عبد العزيز، عبر إصدارات تعرف بتاريخ المملكة ونشأتها، نفدت في ثالث أيام المعرض، وفقاً لمسؤول الجناح كريم صلاح، فضلاً عن المقهى الثقافي الذي يقدم يومياً 3 فعاليات كحد أدنى، تتنوع بين الندوات الفكرية والنقاشات الأدبية وحفلات التوقيع، فضلاً عن معرض الفن التشكيلي، مما أعطى زخماً للقاعة رقم (4)، التي تضم أيضاً جناح الأزهر الشريف، بإصداراته التي تخاطفها الزوار، خصوصاً من الدارسين بمصر من مختلف الجنسيات، وتضم عناوين بـ13 لغة، وركن إصدارات الطفل الذي لقي إقبالاً كبيراً. أما جناح مؤسسة الأهرام، وهو من أكبر الأجنحة، فشهد أيضاً إقبالاً ملحوظاً، وتنوعت معروضاته ما بين الكتب والمراجع والمجلات الفكرية.
- أسعار الكتب
لكن التردد أمام أرفف الكتب بحثاً عن الأفضل والأرخص خلق حالة زحام في الممرات بين الأجنحة، كما افتقد الزوار غياب مشاركة سور الأزبكية الذي كان يستقطب عشاق البحث عن النوادر وأمهات الكتب بأسعار زهيدة. «شراء الكتب هذا العام عملية مقننة، تستدعي الزيارة عدة مرات، وانتقاء وانتخاب الأفضل من الكتب، وفقاً للحاجة، دون المجازفة باقتناء كتب لأسماء جديدة»، وفقاً لما قالته سها لطفي التي أكدت أنها اعتادت أن تأتي بـ«ميزانية المعرض» التي تدخرها كل عام.
مقابل ذلك، وللالتفاف على غلاء الكتب، لجأ بعض الناشرين للترويج لكتبهم بوسائل مبتكرة، حيث جاب الناشر فتحي المزين المعرض بلافتة يعلن فيها عن توزيع كتب مجانية في ساعات محددة من اليوم، وروايتين بسعر واحدة، لتشجيع القراء، كما حرص الجناح الجزائري على تقليل هامش الربح، لتشجيع القراء على اقتناء الكتب.
ويشير عبد العزيز المهنا، المسؤول عن جناح دار «العربية» للنشر، إلى أنه «هناك زحام كبير، لكن ليس على الكتب»، مؤكداً أن المعرض هذا العام أكثر تنظيماً ورقياً، مع توافر الخدمات، عن الأعوام السابقة، لافتاً إلى أن دار «العربية» تشارك بإصدارات متنوعة تُعين القارئ على فهم طبيعة القرن الحادي والعشرين والثورة التكنولوجية.
وتقول الروائية هالة البدري إن استجابة الجمهور رغم بعد المكان أمر مثير للإعجاب، لكنها انتقدت عدم وجود مساحات كافية أمام أجنحة دور النشر لتجنب التزاحم الذي يعيق انتقاء الكتب، ولفتت إلى أن غلاء أسعار الكتب سيؤدي لأن يعيد الأدباء النظر في أسلوب كتاباتهم الأدبية، لا سيما إذا كانت من الروايات الكبيرة، متخوفة من أن يصبح الكتاب رفاهية! وتساءلت لماذا لا يتم تخصيص طوابير لكبار السن لتسهيل دخولهم لقاعات المعرض؟ واقترحت تجهيز شاشات إلكترونية ضخمة للتعريف بأماكن إقامة الندوات وتوقيتها.
في حين أثار تغيير اسم قاعة الندوات من «المقهى الثقافي» إلى «الصالون الثقافي» علامات استفهام لدى الروائي هشام أصلان، لافتاً إلى أن اسم «المقهى» كان أفضل لأنه يشعر جمهور المعرض بأنه مكان حميم للمثقفين، يمكن فيه لقاء الأدباء ومسامرتهم. أما اسم الصالون، فاعتبر أنه سبب حاجزاً نفسياً بين جمهور المعرض واللقاءات والندوات. واعتبر أصلان أن التنظيم الجيد هذا العام بداية مبشرة، متمنياً تسهيلات أفضل للناشرين والكتاب في الأعوام المقبلة. واقترح فكرة التصويت الجماهيري على الاحتفاء بشخصية المعرض لخلق ترابط وحراك بين الجمهور والمعرض.
أما الروائية هدى أنور، فأكدت أن المعرض هذا العام يرتكز على أسس ومعايير دولية، مع توحيد طرق العرض، ووجود قواعد تمنع بيع الكتب المزورة، وكذلك تنظيم حفلات توقيع الكتب، رغم أن القاعات غير مجهزة لمثل هذه الحفلات.
- الشعر والمجموعات القصصية
تشي العناوين الجديدة بالمعرض هذا العام بأن سوق النشر تحاول التعافي من أزمة ارتفاع سعر الدولار، إضافة لوجود دور نشر جديدة دخلت المعترك الثقافي بكم هائل من الروايات الجديدة، التي تفننت دور النشر في إبرازها بطرق عرض جمالية، هرمية تارة، وهندسية تكوينية تارة، فأعطت بعداً فنياً في العرض لم يكن ملموساً من قبل. وتتراوح أسعار الروايات ما بين 50 و150 جنيهاً، مع حضور قوي للروايات التاريخية الضخمة، والكتب التراثية، وكتب المذكرات والسير الذاتية، وطبعات حديثة من كلاسيكيات الرواية لكبار الأدباء العرب. أيضاً حققت الدواوين الشعرية حضوراً قوياً، وكذلك المجموعات القصصية التي زحزحت الرواية عن عرشها.
- حركة الترجمة إلى العربية
مؤشرات مهمة في المعرض تدل على انتعاش حركة الترجمة من العربية وإليها، وتحديداً في جناحي مشروع «كلمة» أبوظبي، الذي حفل بترجمات من اللغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية وغيرها، وجناح «بيت الحكمة» المختص في الترجمة من الصينية، الذي يلعب دوراً ملموساً في التبادل الثقافي بين العالم العربي والصين. ويقول الدكتور أحمد السعيد، مؤسس «بيت الحكمة» للترجمة والصناعات الثقافية: «لمست هذا العام نقلة حضارية في معرض القاهرة للكتاب، فقد تحول من سوق للكتب إلى معرض مهني جماهيري في آن واحد، بل تفوق على معرض بكين، حيث أطلقت الوفود الصينية التي استقبلتها هذا العام عليه «معرض الشغف»، وتحققت مبيعات أفضل من العام الماضي. ولكن علينا أن نشير لبعض السلبيات لتفاديها، منها: عدم توفر تطبيق إلكتروني يعين الزائرين على التجول بأريحية في المعرض، ويرشدهم لدور النشر والكتب التي يريدون الحصول عليها، وهناك حاجة أكبر لتنظيم دخول الزوار للقاعات، لكن هذا أمر يمكن التغاضي عنه، خصوصاً أن توافد أكثر من مليون زائر في 5 أيام أمر ليس هيناً»، ولفت إلى أن هناك حركة ترجمة نشطة من العربية وإليها، ومن الصينية وإليها، مؤكداً أن الإقبال على الكتب الصينية نابع من كونها دولة مؤثرة في العالم.
- منافسة للكتب الصوتية والإلكترونية
ما بين القاعتين الأولى والثانية، ظهر الكتاب الصوتي والإلكتروني منافساً للكتاب الورقي على أرض المعارض، إذ تنتشر كبائن مخصصة لعرض تطبيقات إلكترونية تزخر بالكتب لقيت إقبالاً كبيراً من زوار المعرض، لخوض تجربة الاستماع للكتب عبر سماعات مجسمة. وتجربة «الكتاب الصوتي» تتيح للمشترك، بمبلغ شهري بسيط، الاستماع لأكثر من 1500 كتاب متنوع في شتى المجالات باللغة العربية. ويقول مصطفى زيادة، منسق منصة كتاب صوتي: «التطبيق تم إطلاقه منذ عامين، ويوجد إقبال يومي على استخدام التطبيق. أما مكتبة التطبيق، فتضم أكثر من 120 كتاب أطفال، ومجموعة كبيرة من الروايات التي تلقى الاهتمام. وسيتم إطلاق مجموعة جديدة من الكتب باللغة العربية، فضلاً عن ملخصات صوتية للكتب، تعين المتلقي على الاستفادة من أكبر عدد من الكتب في وقت قصير».