هل فكّرت مرة في الأثر الذي يمكن أن تتركه على صفحة كتاب تقرأه وتقلّبه وتمسك بصفحاته بين يديك؟ وهل خطر ببالك أن أي تفاعل حسي مع هذا الكتاب من حواسك الخمس هو بمثابة خدش أو لطخة يتحول مع الوقت إلى نقش لا يمكن إزالته؟
الأجوبة على هذه الأسئلة تأتيك من معرض «كلّ ما يرى وما لا يرى» للفنان التشكيلي فارتان أفاكيان الذي يقام في غاليري «مرفأ» في بيروت. فهو اقتفى الآثار التي يتركها الإنسان هنا وهناك على أشياء يحتفظ بها، ليكتشف وبتقنيته الفنية المعتمدة على مزيج من سائل مصنوع من الفضة والملح، الأسباب التي تدفع بالناس لذلك. فهم يبقون عليها ويتعلقون بها لسنوات طويلة فتصبح جزءاً لا يتجزأ منهم، أو بعبارة أصح تكون واحدة من مجموعة بصمات يخلّفونها وراءهم بصورة غير مباشرة.
«يمكن أن نكتشف هذه الخدوش على أسطوانة مدمجة وصورة فوتوغرافية أو حتى على شريط مصور أو تسجيلي. فهي جميعها تحمل ذكرياتنا وأحاسيسنا وغيرها من المعطيات البيولوجية المتأتية عن احتكاكنا المباشر بها»، يقول الفنان فارتان أفاكيان في حديث لـ«الشرق الأوسط».
واختار فارتان الكتاب الذي نقرأه ليلاحق هذه الآثار ويتمعن بها عن قرب. وبعد أن يكتشف بصماتها بواسطة خلطته (تتألف من سائلي الفضة والملح) يطبعها على الورق لتتحول إلى لوحة سوريالية عليك فكّ رموزها المكونة بفضل الحمض النووي الخاص بك. «إنني أملك مجموعة من الكتب التي اشتريت بعضها، وورثت نسبة منها أو قدّمت لي كهدية. وعندما عدت إليها بعد فترة لاحظت بأنها تتميز بالقصة التي تربطني بها والتي هي دون شك تركت أثرها على الكتاب نفسه. فالتاريخ والقصة اللذان يربطاني بها مغايرة تماماً عن تلك القصة التي يرويها المجلّد. فالكتاب برأيي هو منحوتة من ورق وحبر، وفي استخدامنا له نضيف عليه لوحة فنية من نوع آخر»، يشرح الفنان التشكيلي المتأثر بمجال العلوم المتخصص به، الذي دفعه إلى القيام بهذه التجارب العلمية والفنية معاً بعدما تخصص بالسينما والتصميم المدني.
فبرأيه أن سبب احتفاظنا بكتاب أو أسطوانة وما إلى هنالك من أشياء تخصنا، رغم وجود مثلها بشكل وافر في المكتبات والمحلات والمخازن التجارية وغيرها، هو ناتج عن الحكاية التي تربطنا بها.
يبحث فارتان أفاكيان من خلال معرضه «ما يرى وما لا يرى» عن سبب الهوس الذي عادة ما يتملك الإنسان بترك أثر له في هذه الحياة، إن من خلال أغنية يؤديها وكتاب يؤلّفه أو من خلال إنجاز يقوم به في لوحة رسم ومنحوتة وغيرها من الأمور التي يمكنها أن تخلّد ذكراه. فالفن والأدب ساهما بشكل مباشر في ترك هذا النوع من الآثار إلى أن تمّ اكتشاف فحوصات الحامض النووي. ففي استطاعة هذه الأخيرة أن تخبرنا قصة إنسان كاملة من خلال شعرة من رأسه وقطعة من أسنانه وغيرها من جلده أو حتى من فرشاة أسنانه، وما إلى هنالك من أشياء يستعملها في يومياته.
اختار فارتان مجموعة من الكتب التي يملكها ليقتفي آثارها. فكما كتاب «الإنجيل» المقدس الذي يعود إلى جدة والده وآخر بعنوان «رأس المال 2» لكارل ماركس وثالث يتضمن مقاطع من القرآن الكريم ورابع هو كناية عن جزء من موسوعة «الأرمن في لبنان» وإلى ما هناك من كتب وروايات يحتفظ بها منذ كان في الثالثة عشرة من عمره، يطلّ الفنان التشكيلي على بصمات متروكة عليها بعد أن صوّرها عن قرب، وراح يحلل مرجعيتها من خلال شكلها. فهي مرة تعود إلى بصمات أصابع وأخرى تمثل لطخة تشبه دمعة العين ومرات أخرى إلى رذاذ عطسة وجميعها تركت آثارها على الكتاب.
ولم يكتف الفنان الأرمني الأصل بلوحاته الفنية للإشارة إلى اكتشافاته الحسية، إذ توسّع في أبحاثه لتشمل أيضاً العروض البصرية والسمعية. فقد خصص في إحدى غرف المعرض مساحة لعرض مشاهد عن قرب لهذه الآثار، في فيلم مصوّر يترافق مع شرح سمعي عن محتواه. فيما استحدث في صالة أخرى عرضاً سمعياً بحتاً لآثار الصوت الذي لا يزول مع مرور الزمن. فحقن خرير نهر بيروت ضمن إمدادات خاصة تمرّ في تصاميم نحاسية لتصبح منحوتة صوتية مؤلفة من حركة مواد تتسبب بخدوش داخلية من نوع آخر، فلا يكف زائر المعرض عن سماعها وتلمس رجرجاتها خلال تنقله بينها أو وضع يده عليها.
كما يحاول من على قطعة رخامية مسطحة استحداث آثار جديدة بعد أن يدهنها بمزيج سائل من الفضة وماء الملح لتخترقها، ولتعود وتطفو على سطحها مؤلفة رسوماً مختلفة تمثل آثار المزيج عليها.
رحلة فلسفية فيها الكثير من الأسئلة الوجدانية والحقائق العلمية ينقلها إلينا معرض فارتان أفاكيان «ما يرى وما لا يرى»، الذي سبق وشارك في معارض عالمية في روما وفارسو وميونيخ وغيرها ليحط اليوم في بيروت.
«كل ما يرى وما لا يرى»... رصد كبير لآثارنا الصغيرة

فارتان أفاكيان يقتفي الآثار والبصمات في لوحاته
«كل ما يرى وما لا يرى»... رصد كبير لآثارنا الصغيرة

فارتان أفاكيان يقتفي الآثار والبصمات في لوحاته
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة