حفْرٌ في جراحات المجتمع

«لم أدّعِ يوماً أني كتبت رواية جميلة، لكني أقول، بكل اعتزاز، أن كل ما كتبت، كتبته بصدق وبحب وبقناعة. لا أتوخى إرضاء أحد، بقدر ما أتوخى أن تقول شخوصي كلمتها بكل حرية». هكذا، قدم الكاتب المغربي أحمد الكبيري لـ«كلاي»، عمله الروائي الجديد الذي لم تتوقف علاقته به عند مستوى كتابته وحضور حفلات تقديمه وتوقيعه، بل تتبع كل تفاصيل إنتاجه وتوزيعه والترويج له. لذلك لم يجد إلا أن يقول: «نحن لا نكتب، بل نقاوم»، قبل أن يستدرك: «كم هو محبط أن تكتب كتاباً في بلدان لا تقرأ، ونحن نكاية في هذا الإحباط وضداً في الظلام واليأس، نكتب وننشر ونوزع وننفق على الكتاب بفرح».
يقول عن روايته الجديدة: «منطلق فكرتها والشروع في كتابتها كان جريمة اغتصاب وقتل صبية في ربيعها الرابع، ارتكبها شاب عاش حياة ممزقة بين المغرب وبلاد المهجر، في ظروف ملتبسة بمدينة جبلية صغيرة ومهمشة. روعت الجريمة ساكنة المدينة ورجت طمأنينة أهلها، فارتكزتُ عليها للبحث في هذا النوع من الجرائم على مستوى نشأة ومسار حياة مرتكبيها، على مستوى الظروف الاجتماعية والاقتصادية والقانونية والثقافية وبالخصوص النفسية، لأبني من هذا الحدث نصاً روائياً متخيلاً موازياً لعوالم وأحداث واقعية، من شأنها أن تسلط الضوء على مظاهر مجتمعية وحالات نفسية تنمو وتتكاثر في عوالم مقصية، مهمشة ومظلمة، كخلايا إرهابية نائمة، لا نستشعر حجم خطورتها وفظاعة جرائمها إلا عندما تنفجر في وجهنا كألغام قديمة. وكذلك إنها محاولة لفهم التحول الذي يعيشه إنسان بطاقات جبارة، كان من الممكن استغلالها وتوجيهها إلى مجال يعود على صاحبه وعلى المجتمع بالنفع، فتم تحويلها إلى طاقة شريرة سوداء مدمرة للذات وللمجتمع وصادمة للمشاعر الإنسانية. صعب جداً استيعاب جريمة قتل من هذا النوع، التي، للأسف الشديد، عرفت في السنين الأخيرة انتشاراً في المغرب وكذا في كثير من البلدان العربية. انطلاقاً من هذا الحدث الأساسي، سيتم، مع تنامي الحكي، تسليط الضوء في الرواية، على تيمات كثيرة، كمشكلات التعليم والأمن والعدل، وتشغيل الأطفال، والعنصرية والهجرة السرية ودعارة الرجال، واستغلال المرأة، وعالم المخدرات والسجون ومرحلة الاستعمار وتفاصيل أخرى كثيرة. كل هذا سيطلع عليه القارئ في بناء دائري محكم للرواية، بأسلوب حاولت أن أجعله سلساً لتكتمل الصورة عن شخوص الرواية وفضاءاتها المتعددة، وكذا أزمنتها الممتدة إلى فترات تاريخية قاسية عاشها المغاربة مع المستعمر».
تأتي رواية «كلاي»، بعد 3 أعمال روائية، هي «مصابيح مطفأة»، و«مقابر مشتعلة» و«أرصفة دافئة»، تعرف فيها القراء على الكبيري روائياً، بأسلوب ولغة خاصين، وأيضاً ثابتين. بمعنى أنه، كما قال الكاتب جمال الموساوي، أخيراً، في حفل تقديم وتوقيع هذا العمل الجديد بالرباط: «يكتب رواية عن الناس وقريبة منهم، رواية تنبش أكثر في تلك الحياة التي على الهامش. تلك الحياة التي تحجبها حياة أخرى، هي حياة الواجهة، والوجاهة».
في عمله الجديد، تخلص الكبيري، حسب الموساوي، من أسْر ثلاثيته السابقة، لـ«يعود بعد 6 سنوات، محافظاً على أسلوبه ولغته؛ الأسلوب القائم على الحكايات التي يتناسل بعضها من بعض، حيث تفضي كل حكاية إلى أخرى لتصب في الحكاية الكبرى التي تمثل حياة وشخصية كْلاي، ومحافظاً، أيضاً، بحرص، على لغته القريبة من أولئك الذين كتب عنهم». وبالمقابل يحفر الكبيري، في روايته الجديدة، أكثر في «الجراحات الموجعة للمجتمع. جراحات فئات منه على وجه التحديد. الفئات التي ليس لها أحد، أو التي يتحدث عنها فقط الانتهازيون لأغراض مختلفة، ومنها الأطفال والنساء وعموم المسحوقين».
في «كْلاي»، ينجح الروائي في «إدخال القارئ إلى العوالم النفسية لشخصياته، ويطالبه بفهم سلوكاتها وتحولاتها في ضوء ذلك، وفي ضوء تفاعلها مع معطيات البيئة الاجتماعية التي تعيش فيه». فكْلاي، مثلاً، كان من الممكن أن يكون شخصاً آخر، غير الذي انتهى إليه في الرواية، أي يكون مجرماً محكوماً عليه بالإعدام على خلفية اغتصاب وقتل طفلة في الرابعة من عمرها. ذلك أن كْلاي، كما تقدمه الرواية، طفل مغربيّ، ألماني المنشأ، وجد نفسه فجأة مجتثاً من بيئته الأولى ليحط الرحال في مدينة مغربية صغيرة على الهامش، بسبب قرار الأم بالعودة إلى المغرب بعد الوفاة المأساوية لزوجها.
كان لهذا الحدث، أي العودة، الأثر الأكبر في تشكيل كْلاي، وتحويله من بطل عالمي محتمل في الملاكمة إلى أخطر مجرم عرفته تلك المدينة المغربية الصغيرة على الهامش. إنها صدمة التخلف، المقابلة لصدمة الحداثة أو الحضارة. كان ذلك واضحاً، كما يرى الموساوي، في ثورة كْلاي على والدته، حين قال لها: «أنت السبب في كل ما نعانيه... أنت يا وجه الشؤم من ترك بلاد الحضارة والرفاهية وأتيت بنا إلى هذا البلد المتخلف... بلاد الذل والحكرة». هذه الثورة كانت إعلاناً عن تعقد العلاقة بين كْلاي وبيئته الجديدة. فهو لم يتمكن من دخول المدرسة بسبب تجاوز السن (القانونية) عند العودة إلى المغرب، ولم يكن أمامه سوى أبواب كثيرة للمعاناة، كان أولها الاشتغال في ورشة للميكانيكا، التي يقدمها الروائي نموذجاً لأنواع الاستغلال الذي يتعرض له الأطفال القاصرون، وهم من الفئات الهشة المشار إليها سابقاً، تماماً كما يقدم في أماكن أخرى نماذج لمعاناة المرأة التي تكاد تشتغل على مدار اليوم بينما الرجل جالس في البيت.
تعقد العلاقة مع البيئة الجديدة، لم يفتأ يتطور مع تقدم كْلاي في السن رويداً رويداً، خصوصاً أن بيئته الألمانية الأصلية، التي لا يتطرق إليها الكبيري بشكل مستفيض تاركاً أمر تخيلها للقارئ، ظلت تسكنه، ونستشعرها في كل حركة يقوم بها.
يشير الموساوي إلى تفاصيل كثيرة وحكايات متوالدة، تصور علاقات كْلاي مع الناس؛ علاقات تتراوح بين النبذ والخوف والصداقة، والعجز عن الحب، والشجار، وخرق القانون والأعراف الاجتماعية، والتمرد، وملاحظة النفاق الذي يطبع علاقة الناس ببعضهم أحياناً، وكيف أن ظاهر الناس ليس باطنهم من خلال الإشارة إلى أنواع من الفساد الذي تمارسه فئات معينة. هذه التفاصيل، يقدمها المؤلف في إطار متوالية حكائية، حيث لكل شخصية ولكل علاقة من هذه الشخصيات والعلاقات حكاية خاصة مستقلة، لكنها تسهم في دينامية تطور حياة وشخصية كْلاي.
يتحدث الموساوي عن صعوبة «الاندماج»، التي غذت حنين كْلاي إلى ألمانيا، إلى مرابع الصبا كما يقال، وإلى تلك الصورة التي علقت في الذهن حلماً. وبعد محاولة فاشلة للهجرة بشكل غير شرعي، انتهت بالترحيل إلى المغرب من إيطاليا، يتمكن كْلاي بمساعدة عمه المقيم بفرنسا من تحقيق حلمه، والخروج آمناً وبجواز سفر وتأشيرة إلى فرنسا أولاً، ونحو ألمانيا فيما بعد، وهو ما أحيا من جديد أحلام الطفولة والملاكمة والبطولات، دون أن يتخلص من الغصة التي كبرت في حلقة منذ وقت طويل، يعبر عنها بقوله: «لو لم يمت أبي وبقيت منذ ذلك الوقت هنا، لكانت حياتي الآن مختلفة».