يفرض غياب المخرج اللبناني جورج نصر قبل يومين عن 92 سنة العودة إلى أول فيلم أنجزه هذا المخرج الذي كان - أيضاً - أول علاقة له بمهرجان «كان» السينمائي حيث تم عرضه في مسابقة ذلك العام.
قبل عامين احتفى المهرجان الفرنسي ذاته بالمخرج العائد إليه (هذه المرّة) من دون فيلم بل برحيق الذكريات. جورج نصر كان توقف عملياً عن تحقيق الأفلام منذ «المطلوب رجل واحد» سنة 1973 وما تردد من علاقة قائمة لم تعن وقوفه وراء الكاميرا لتحقيق فيلم طويل آخر بعد ذلك التاريخ.
«إلى أين؟» كان الموضوع الذي كان يجب أن يحققه مخرج لبناني ما. إذ آل إلى جورج نصر فإنه كان فاتحة أعماله الروائية الطويلة الثلاث كما كان الجواب على الثغرة الناشئة في العلاقة بين لبنان الوطن ولبنان الاغتراب.
هو الظهور المفاجئ للشخصية محور الفيلم. هذا الظهور فعل متكرر في السينما اللبنانية نلحظه في أفلام عدة حديثة لمخرجين مثل غسان سلهب وصولاً إلى فيلم جيهان شعيب وما بعد. لكنه عند نصر هو في حدود عودة إلى الأرض من بلاد الاغتراب في فترة لا علاقة لها بالحرب الأهلية ولا بأي حرب أخرى. لقد كان المهاجر اللبناني إلى البرازيل ترك وطنه قبل عشرين سنة (أي في الثلاثينات بالنظر إلى أن حكاية الفيلم لا تعود إلى ما قبل تاريخ الإنتاج نفسه). خلال الفترة حاول تحقيق نجاح مادي يمكنه من جلب باقي أسرته ومن العيش على نحو أفضل من حياته في وطنه. إنه، في الفيلم، ليس الطمع بل الحاجة. وليس الرغبة في التخلي عن الوطن بحد ذاته، بل البحث عن نجاح ولو في وطن بديل.
لكن المهاجر (شكيب خوري) إذ نأى منفرداً عن وطنه ترك زوجته وولديه الصغيرين وحيدين في حياتهما. وها هي الزوجة تعمل ليل نهار لأجل سد الفراغ الناتج عن غيابه. بعد عشرين سنة من الغربة يعود الرجل إلى عائلته خالي الوفاض ويحاول جورج نصر هنا التقاط ملامح الفشل ممتزجة بملامح الشوق والأسف وينجح. لأن هذه المشاعر المتولّدة في الذات هي شأن طبيعي لا يمكن إلا وإصابة هدفه.
يدفع المخرج بطله لإخفاء نفسه عن العائلة في بادئ الأمر غير قادر على مواجهتها. المكان الذي اختاره المخرج كمأوى لبطله ريثما يمتلك الشجاعة ويكشف عن نفسه لزوجته وولديه هو قصر مهجور. وهو اختيار لغوي جيد يرمز إلى تلك الآمال الخاوية غير المحققة.
هذا كله جزء من الحكاية. الجزء الثاني اكتشاف الأب العائد على أن أحد ولديه يرتب مستقبله على أساس الهجرة ذاتها. هو بدوره، وكما لو أن الحياة تعيد نفسها ولو في هذه المدارات الصغيرة.
حمل الفيلم رسالة تعارض الهجرة وهي رسالة مهمّة في تلك الآونة التي تكاثرت فيها نغمة الهجرة إلى البرازيل وسواها خصوصاً بين أبناء القرى المسيحية. طبعاً هذا لم يغير في الأوضاع شيئا لكن الفيلم ذهب لمحاولة التحذير من مغبة الهجرة كون هذه هي كانت رسالته الأولى.
لم يكن فيلما خطابياً، وهذا ما يُسجل للمخرج الشاب حينها، بل على العكس مال إلى العناية بالفترات الصامتة الموحية. بتلك المشاعر وكيفية ترجمتها إلى صور عاكسة. نافس في «كان» ولم يفز، لكن هذا شأن العديد من الأفلام الجيدة في كل سنة.
قيمة تاريخية | قيمة فنية:
إلى أين؟ (1957) شهادة لبنانية ضد الهجرة يفرضها غياب جورج نصر
سنوات السينما
إلى أين؟ (1957) شهادة لبنانية ضد الهجرة يفرضها غياب جورج نصر
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة