«كافيه أغونيست» لمسة حنان من قلب بيروت

«إنه أكثر من فنجان قهوة» هو الشعار الذي يعنون مقهى «أغونيست» في منطقة الزلقا في بيروت. فارتياده وتناول فنجان قهوة فيه هو في الواقع لا يشبه غيره من المقاهي التي تؤمّن هذا النوع من الخدمات. فهنا كوب القهوة والـ«كابوتشينو» و«كافيه لاتيه» و«القهوة التركية» وغيرها من أصناف القهوة الموجودة فيه لها طعمها ونكهتها الخاصين كونها تحمل لمسة حنان في لهبتها ورائحتها وفي عملية تحضيرها وتقديمها للزبون. ففريق العمل في «كافيه أغونيست» يتألّف بمجمله من ذوي الاحتياجات الخاصة، الذين اختارهم الاختصاصي في العلاج الفيزيائي وسيم الحاج، للقيام بمهمة خدمة الزبائن. أما اسم المقهى فقد استُوحي من كلمة (Agonist) الأجنبية وتستعمل في العلاج الفيزيائي وتعني «يساعد وينشّط».
«في الحقيقة لقد استوحيت الفكرة من فيلم (غدي) للفنان المسرحي جورج خباز»، يقول وسيم في سياق حديثه لـ«الشرق الأوسط»، ويتابع: «فطبيعة عملي تجعلني على احتكاك مباشر مع هؤلاء. وارتأيت أن أستحدث لهم مساحة عمل ينخرطون من خلالها في المجتمع اللبناني، دون أن يشعروا بالاختلاف الذي يتسبب لهم في كثير من الأحيان في الإحباط». والمعروف أن فيلم «غدي» لكاتبه وممثله جورج خباز اختار بطلاً له أحد الأولاد الذين يعانون من «متلازمة داون».
10 صبايا وشباب يعانون من أمراض خلقية كـ«متلازمة داون down syndrome - trisomy» وأخرى في الخلايا العصبية، وصعوبة في النطق وغيرها، يُحدثون الفرق في هذا المقهى الذي يقع في شارع رئيسي من شوارع منطقة الزلقا في ضواحي بيروت. وبعد خضوعهم لعملية تدريب من قبل مختصين في مجال الخدمات في المقاهي والمطاعم، بدأوا يزاولون عملهم منذ نحو الشهر في هذا المكان الذي بات بالنسبة إليهم طاقة الفرج الوحيدة في حياتهم اليومية.
«إنهم يزاولون أعمالهم في دوام محدد كغيرهم من النُّدل في مقاهٍ أخرى، بحيث تتراوح مدّته ما بين 4 و9 ساعات يومياً». يوضح وسيم الحاج الذي يؤكد أن بعضهم، ولسعادتهم الكبيرة بممارسة هذا العمل، يرفضون أخذ يوم عطلة ويُبدون امتعاضهم من الابتعاد عن أجواء العمل.
وفي ديكور يضفي الفرح على زائره، ويتألف من الأبيض والأسود والرمادي، يتنقل إيلي وغسان وفرح وجورج وماريا وآيا وغيرهم، يحملون طلبيات الزبائن وهم يرسمون ابتسامة كبيرة على شفاهم. «أردناه مقهى شبابياً وحديثاً ذا فضاء مريح لناظره والجالس في داخله، ولذلك وقع اختيارنا على الأبيض والرمادي اللذين يسودان أيضاً الأرضية. أما الأصفر فيعدّ من الألوان المحببة إلى قلب أصحاب الاحتياجات الخاصة كما تذكر الدراسات، تماماً كالأزرق الذي يذكّرهم بلون السماء، بينما الأصفر يوحي لهم بأشعة الشمس ويمدّهم بطاقة إيجابية»، كما يوضح وسيم الحاج الذي استحدث هذه الفكرة على نفقته الخاصة. فهذه التجربة تعد الثالثة من نوعها في لبنان، إذ سبق وافتتح في بلدة أهدن الشمالية مطعم يخدم فيه ذوو الاحتياجات الخاصة بتمويل من الجالية اللبنانية في أستراليا. فيما التجربة الثانية والتي يشهدها أحد الأفران في مدينة صور الجنوبية تمّ تمويلها من قبل جمعية ألمانية.
«عندما تقدمت إلى أحد المصارف للحصول على قرض مالي لم أوفّق، ربما لأنهم لم يقتنعوا بالفكرة، وبعد عدة محاولات استطعت الحصول على المبلغ المطلوب»، يشرح الحاج.
أهالي هؤلاء الشباب كانوا الأكثر تحمساً للفكرة فهم كانوا يحلمون برؤية أولادهم يعيشون حياة طبيعية ويمارسون العمل كغيرهم من الناس الطبيعيين. «هذا الأمر دفعهم إلى تولي نقل أولادهم من البيت إلى مكان العمل. وهي المشكلة الوحيدة التي كنا نعاني منها انطلاقاً من تحمل مسؤولية وصول الفريق يومياً إلى المقهى وفي الوقت المحدد لهم. فجاء تفاعل الأهالي معنا ليسهل لنا هذه العملية بمساعدة أشقاء أو أقارب لهم».
يوجد في مقهى «أغونيست» وبشكل دائم مساعدون من مؤسسة «داون سيندروم» اللبنانية المختصة في علاج هؤلاء الأشخاص. ويأتي تعاونهم هذا مع أصحاب المقهى للإشراف على أداء العاملين ومساعدتهم في حال مواجهتهم أي صعوبات.
واضطر القيّمون على المقهى إلى القيام بأبحاث ودراسات عن العناصر الأساسية التي تساعد أصحاب الاحتياجات الخاصة على القيام بمهماتهم على أكمل وجه. «في الحقيقة ننوي حالياً إدخال مربعات لعبة الـ(ليغو) الملونة لتسهيل مهمة إيصال الطلبيات على طاولات الزبائن في المقهى. حاولنا بدايةً تحديدها بواسطة الأرقام والأسماء إلا أن بعض هؤلاء الشباب لم يستطع وبسبب الحاجة التي يعاني منها أن يخزنها في ذاكرته. فارتأينا الاستعانة بمربعات الـ(ليغو) الملونة التي ستوضع على طاولة الزبون، وبالتالي يزوّد بها النادل على الصينية من قبل الموظف المشرف على تنظيم العمل فيحملها معه رابطاً بصورة مباشرة ما بين الطلبية وصاحبها من خلال حاسة النظر».
«أنا سعيدة جداً في تجربتي هذه»، تقول فرح التي التقيناها في المقهى، وتتابع: «لقد سبق وعملت في مكانين مختلفين، ولكني اليوم بت أشعر بفرح كبير وأنا أحتكّ مع الناس مباشرةً، والذين يتفاعلون معنا بكل مودة وحبّ». تصف فرح تجربتها هذه وهي التي تعاني من «متلازمة داون». أما إيلي ريشا الذي يعاني من اضطراب في نموه الفكري فيؤكّد أن تجربته هذه أعطته دفعاً معنوياً لم يكن يشعر به من قبل. ويقول في سياق حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «لقد أصبحت أتمتع بثقة أكبر بالنفس كما تعرّفت إلى أصدقاء جدد وهم زملائي في العمل وأنا أحبهم كثيراً لأنهم بمثابة عائلتي الجديدة».