جوسلين سوسيه تهجو المجتمعات المعاصرة وتحتفي بـ«الشيخوخة»

رواية عن «الحريق الكندي الكبير»

جوسلين سوسيه تهجو المجتمعات المعاصرة وتحتفي بـ«الشيخوخة»
TT

جوسلين سوسيه تهجو المجتمعات المعاصرة وتحتفي بـ«الشيخوخة»

جوسلين سوسيه تهجو المجتمعات المعاصرة وتحتفي بـ«الشيخوخة»

كان الروائي الإنجليزي جون جاردنر، قد نصح المؤلفين الشبان في كتابه «فن الأدب: ملحوظات حول الصنعة للكتاب الشبان» ألا يشذ موضوع أي رواية عن اثنين: «إما رحلة، وإما وصول غريب». وتتفق معه الكاتبة الكندية جوسلين سوسيه في روايتها «السماء أمطرت عصافير» التي تبدأ بوصول امرأتين معسكراً بدائياً اعتزل الحياة العصرية. وقد صدرت الترجمة العربية لهذه الرواية عن دار «صفصافة» في القاهرة (2018)، بترجمة ناهد عبد الحميد.
تقدِّم الرواية شخصياتها، الواحدة تلو الأخرى، بصوت راوٍ مختلف. ويحْمل عنوانُ كل فصل اسم الشخصية، لتسرد روايتها بصوتها الخاص وكأنها على خشبة مسرح. ومع ذلك، لا نستشعر تنافراً حاداً بين الأصوات، فالصورة الكلية للفن، وغواية الطبيعة، وقصة الحب، والقيمة الفطرية للحياة، تجتمع في النهاية باجتماع أجزاء الرواية.
وكانت المسابقة السنوية «كندا تقرأ» قد اختارت العمل أفضل كتاب عن موضوع «إزالة الحدود». الرواية قصيرة نسبياً، تتفوق شعريتُها على بنيتها السردية المعقدة، التي تتطلب جهداً منهجياً من القارئ، لتَتَبُع خيط منعطفاتها غير المنقطع، فيما تكْشف الشخصيات عن طبائعها وتواريخها ببطء، لكن بحس فكاهي طفيف يلِّون هذه التراجيديا التاريخية وتوابعها.
تُقدِّم سوسيه مصورة صحافية مخضرمة لتوثيق نيران غابات مسعورة، أتت على شمال مقاطعة أونتاريو الكندية بين عامي 1910 و1920. وفي مسعاها لاقتفاء آثار الناجين، لا تعير التقاط الصور انتباهاً بقدر ما تكترث لمِحَن هؤلاء الأحياء بالصدفة. تسمع عن شخص اسمه تيد، كان قد اندفع عبر ألسنة اللهب، لينقذ حيوات الآخرين، وقد انتابه عمى موقت، ثم هام على وجهه ستة أيام، وهو يحمل باقة من الزهور بحثاً عن أحبائه. تملص من الصحافيين سنوات طويلة، ودارت الشائعات أنه قرر ألا يتحمل عبء الحياة العصرية، وراح ليسكن كوخاً رثاً في غابة منعزلة تفتقر إلى كل وسائل الحياة الحديثة.
طاردت صور الطيور الميتة مخيلات الناجين بعد أن قضت النيران على الأخضر واليابس. استدعت طفلة المشهد، راوية أن السماء أمطرت عصافير تحت أقدامهم. عصفت الرياح، واحتجبت السماء بقبة من الدخان كالح السواد، فاستعصى على الناس والطيور استنشاق الهواء.
وعلى خلفية شمال كندا الوحشي العصي على الترويض، تُبدع المؤلفة في وصف الرياح والنيران ببلاغة متناهية، تسودها صورٌ شعرية، تجْمع بين الرقة والرعب. تستعين المؤلفة باستعارات حسية للضوء والظلمة وهي تصف ضوءاً ينعكس على وجه الحبيب، فتستحيل الدنيا ضياءً مبهراً. يتولاها العجب من نزوات النيران القادرة على تسلق أعلى القمم، لتنزع عن السماء لونها الأزرق، وتنشر وهجاً أحمر، ثم تتضخم مطلقة صفيراً رهيباً. تثب على أي كائن حي، وتهب من الشاطئ إلى الشاطئ، ثم تقفز على الوُهْدان المشبَّعة بالماء. تلتهم غثاء السيل، ومع ذلك تترك بقرة ترعى في دائرة من العشب! تقر المؤلفة ألا طائل من محاولة احتوائها، فإذ تمتلك تلك القوى المخيفة، لا تطيع إلا ذاتها.
يتضح أن الناجي الوحيد من النيران فارق الحياة غير أن المصورة تنتظرها الكثير من المفاجآت. تلتقي بعجوزين في العقد التاسع من العمر، هما أقرب إلى برية الحيوانات وعاداتها. في بلد ككندا قامت على مغامرة الاستيطان، وإزالة الحدود بين البشري والوحشي، يصطادان الحيوانات طلباً للطعام والفرو، ويعيشان حياة محفوفة بالاحتمالات، من بينها الموت المحلِّق فوقهما كل ليلة، في معيشة سمتها التسكع، تعوزها أبسط قواعد الاستقرار والأمان كما نعهدهما. تتساءل المؤلفة، أحياة البرية هي المتقلقلة أم أنها الحياة الخاملة في دور المسنين؟ لقد هجر توم وشارلي وسائل الراحة والتسلية، ولكليهما سببه الخاص للانزواء، ونبذا البشر إلا اثنين من زارعي الماريغوانا، جلبا لهما مؤناً تعذر توافرها في الغابة.
لم يدريا أن ظهور امرأتين سيبعثر تراب حياتهما المستقرة وروتينهما المطمئن. المصورة والعمة العجوز لأحد زارعي الماريغوانا التي وصفها السرد بفَرْخ صغير هش، قد تطيح به نسمة من عشه. صنَّفتها السلطات الطبية في خانة المختلة عقلياً منذ سن السادسة عشر. وبمجرد أن أنقذها ابن أخيها من المصحة، طفقت، في أول خيار واعٍ لها، ترافق الرجلين في الغابة لتشرع في حياة جديدة باسم جديد، ماري.
وذات يوم، عثر الثلاثة على ثلاثمائة لوحة رسمها البطل الأسطوري تيد، الذي نبش بفنه الانطباعي تاريخَ الحريق وما نسجه من خرافات. وعلى حين لم ير الرجلان إلا خربشات بالفرشاة، تمكنت ماري من تأويل اللوحات، فتبينت الصرخات، والجثث، والناجين وهم يرفعون أعناقهم من أسفل الرماد لتعيد الفرشاة الزيتية تشكيل مآلهم.
هنا تنتقد سوسيه المجتمعات العصرية التي تحتفي بالصبا والشباب الدائمين، وتجافي الشيخوخة كتجربة مريرة لما يلازمها من هَوَن وفقدان للذاكرة، لذا تحشر الطاعنين في السن في دور للمسنين. لقد رفع العجوزان شعار «الحرية هي القدرة على اختيار الحياة والممات»، وقررا قضاء بقية حياتهما بشروطهما ووفق معطياتهما، وفضلا الاستقلال بديلاً عن التواكل والتبعية للمجتمع وتصوراته عن حياة الشيوخ.
وبعدها تتطرق سوسيه إلى ما تعارف عليه من مفهومنا للحياة الجيدة والميتة الجيدة. ومهما اختلفت التعريفات والتصورات، نجدها تنحاز إلى الحق في تحديد المصير، والحق في الانطواء، والأهم، الحق في تحديد كيف وأين ومتى سنموت. وهكذا تحْضر في نهاية الرواية نظرة المجتمع إلى القتل الرحيم. ثمة علبة قصدير تحوي عقاراً ساماً في انتظار الاستخدام، ووعود متبادلة بين الأحباء بألا يتأخر الأجل. ولكن سوسيه تحوِّل الكآبة السوداء إلى دهشة ملؤها الأمل، وكأنها تقول طوبى لغرباء الأطوار، طوبى لمَن يعمِّرون الأرض دون مهابة الموت، مَن يؤمنون بحب لم يندفن بعد أسفل الرماد، وبأمل لم يزل نابضاً في الصدور.


مقالات ذات صلة

كتب شركة ناشئة تخطط لنشر ما يصل إلى 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي (أرشيفية)

وسط اعتراض كتّاب ودور نشر… شركة ناشئة تسعى لإنتاج 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي

ينتقد كتّاب وناشرون إحدى الشركات الأميركية الناشئة التي تخطط لنشر ما يصل إلى 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي.

«الشرق الأوسط» (لندن)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)

الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي الراحل كمال سبتي

الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي الراحل كمال سبتي
TT

الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي الراحل كمال سبتي

الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي الراحل كمال سبتي

تصدر قريباً الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي كمال سبتي (1955 - 2006)، أحد أهم شعراء ما عُرف بجيل السبعينات في العراق. متضمنة ثمانية دواوين، مستهلةً بديوان «وردة البحر ـ 1980»، ومختتمةً بـ«صبراً قالت الطبائع الأربع ـ 2006». هنا نص مقدمة هذه الأعمال التي ستصدر عن «دار جبرا للنشر والتوزيع ـ الأردن»، وبالتعاون مع «دار النخبة للتأليف والترجمة والنشر - لبنان».

وقد كتب مقدمة المجموعة الكاملة الشاعر العراقي باسم المرعبي، التي جاءت بعنوان «كمال سبتي... المرافعة عن الشعر» ويقول فيها:

«يحتاج شعر كمال سبتي، بالمجمل، إلى جَلَد عند قراءته، فهو على نقيض الكثير مما هو شائع من تقنيات شعرية تعتمد البساطة والعفوية والمباشرة، مع عدم تسفيه هذه النزعات الأسلوبية، طالما أن الشعر كقيمة وجوهر يبقى مُصاناً، غير منتهَك به. على أنّ إشاحة الشاعر عن مثل هذا الاتجاه ومخالفته، لم يجعل شعره غامضاً أو عصيّاً.

شعر مثقل بالمعنى ومزدحم به، لأنه ذو مهمة توصيلية، وهو يتطلب إصغاءً وإعمال فكر. والقصيدة لدى كمال معمار ذهني - فكري ونفسي، في الآن ذاته، يستمدّ فيها الشاعر مادته من مغاور النفس والسيرة الشخصية، فضلاً عن استثمار راهن التجربة الحياتية، مشظّياً كلّ ذلك في النص، صراحةً أو رمزاً. دون أن يستثني مادة الحلم من استثماره الفني والموضوعي، وهو ما يُتبيَّن أثره في نصوصه، لا سيّما النصوص النثرية الطويلة، المتأخرة، ليتصادى ذلك مع قراءات الشاعر في الرواية أو اعتماده السينما مصدراً مفعّلاً في كتابته الشعرية. وعن هذه الأخيرة قد أشار إلى ذلك الشاعر نفسه في واحد من الحوارات التي أُجريت معه، ليرقى كلّ ذلك إلى أن يكون جزءاً عضوياً من تجربته الحياتية، الذهنية هذه المرة، مُسقَطة بالمحصلة على القصيدة، لتنعكس خلالها حركةً وتوتراً درامياً. وهو ما ينسحب بالقدر ذاته على نزوع الشاعر في سنواته الأخيرة إلى قراءات في التصوف والقرآن والتراث، ما نجمَ أثره بشكل جلي، في مجموعته الأخيرة «صبراً قالت الطبائع الأربع»، وإلى حد ما في المجموعة السابقة لها. وهو فارق يلمسه القارئ، إجمالاً، بين المنحى الذي اتخذه شعر كمال سبتي في السبعينات أو الثمانينات وما صار إليه في التسعينات وما بعدها. وعلى الرغم مما ذهب إليه الشاعر من مدى أقصى في التجريب الكتابي مسنوداً برؤية يميزها قلق إبداعي، شأن كلّ شاعر مجدّد، إلا أنه وبدافع من القلق ذاته عاد إلى القصيدة الموزونة، كما تجسد في كتابيه الأخيرين. وكان لقراءاته المذكورة آنفاً، دورها في بسط المناخ الملائم لانتعاش هذه القصيدة، ثانيةً، وقد بدت محافظة في شكلها، لكن بالاحتفاظ بقدر عال ورفيع من الشعرية المتينة، المعهودة في شعر كمال سبتي، وبدافع من روح المعنى الذي بقي مهيمناً حتى السطر الأخير، لأن الشعر لديه مأخوذ بجدية حدّ القداسة، وهو قضية في ذاتها، قضية رافع عنها الشاعر طوال حياته بدم القلب.

تصدر هذه الأعمال في غياب شاعرها، وهو ما يجعل من حدث كهذا مثلوماً، إذ عُرف عن كمال اهتمامه المفرط بنتاجه وتدقيقه ومتابعته، واحتفائه به قبل النشر وبعده، لأن الشعر كان كل حياته، هذه الحياة التي عاشها شعراً. فكم كان مبهجاً، لو أن مجموع أعماله هذا قد صدر تحت ناظريه.

ولأهمية هذه الأعمال وضروة أن لا تبقى رهينة التفرّق والغياب، أي في طبعاتها الأولى المتباعدة، غير المتاحة للتداول إلّا فيما ندر، ولأهمية أن تأخذ مكانها في مكتبة الشعر، عراقياً وعربياً، كانت هذه الخطوة في جمعها ومراجعتها وتقديمها للنشر. وقد كان لوفاء الصديق، الفنان المسرحي رياض سبتي، لشقيقه وتراثه الشعري، دوره الحاسم في حفظ مجموعات الشاعر، ومن ثمّ إتاحتها لكاتب سطور هذه المقدمة، حين تم طرح فكرة طباعتها ونشرها، إسهاماً في صون هذا الشعر وجعله قابلاً للانتشار من جديد، بما يجدر به».

من المجموعة الكاملة:

«الشاعر في التاريخ»

الرجل الجالسُ في المكتبة

مورّخٌ يكتبُ عن شاعرٍ

الرجل الهاربُ في سيرةٍ

مشرّدٌ في الليل كالليلِ

رغيفهُ باردْ

رغيفهُ واحدْ

عنوانه مصطبة

محطّةٌ مغلقةُ البابِ

الرجلُ الخائفُ في سيرةٍ

يغيّر الشكلَ تباعاً، فمرّةً

بلحية كثةٍ

ومرّةً بشاربٍ، ثمّ مرّةْ

بنصفِ قلبٍ حائرٍ في الطريقْ

يسيرُ فوقَ جمرةٍ، ثمّ جمرةْ

تلقيه فوقَ جمرةٍ، في الطريقْ.