كورنيش الإسكندرية يتجاهل الطقس البارد ويحتضن العشاق والباعة الجائلين

وجهة مفضلة لزبائن البطاطا المشوية و{حمّص الشّام} والمثلجات

باعة جائلون ينتشرون على كورنيش الإسكندرية في أيام الشتاء (الشرق الأوسط)
باعة جائلون ينتشرون على كورنيش الإسكندرية في أيام الشتاء (الشرق الأوسط)
TT

كورنيش الإسكندرية يتجاهل الطقس البارد ويحتضن العشاق والباعة الجائلين

باعة جائلون ينتشرون على كورنيش الإسكندرية في أيام الشتاء (الشرق الأوسط)
باعة جائلون ينتشرون على كورنيش الإسكندرية في أيام الشتاء (الشرق الأوسط)

بينما تشتد سرعة الرياح وترتفع الأمواج لأعلى ضاربةً كورنيش مدينة الإسكندرية بكل قوة، وسط أجواء باردة وممطرة، في كل نوّة تستقبلها المدينة الساحلية الشمالية في مصر، ثمة أشخاص يتحدّون هذا الطقس المتقلب ويستمتعون بمنظر البحر الهائج وزخّات الأمطار المتواصلة بعدما احتضنهم كورنيش الإسكندرية الممتد من حدائق المنتزه شرقاً، حتى قلعة قايتباي غرباً. اعتادت سها صلاح الخروج إلى الكورنيش برفقة زوجها هشام المصري، للاستمتاع بجولة تحت زخّات المطر غير عابئة بتحذيرات الأرصاد. وتقول: «عشت سنوات في القاهرة، ومنذ انتقالي إلى الإسكندرية أتحيّن فرصة هطول الأمطار لجولة سير ممتعة على الأقدام، فللشتاء هنا مذاق خاص فأنا أعشق مشاهدة تكسّر الأمواج العالية على الصخور، وتجمّع رذاذ الأمطار والموج العاصف على وجهي، وأستنشق الهواء المنعش المحمل برائحة اليود المميزة بينما يظهر أحياناً قوس قزح الملون في وقت النهار».
وتضيف: «أسير لساعات مع أهلي، ولا أشعر بالإرهاق، فنحن نقطن في شرق الإسكندرية، وتبدأ جولتنا من أمام حدائق المنتزه الشهيرة حتى قلعة قايتباي ببحري، وغالباً نتوقف للراحة في منطقة بئر مسعود الشهير ببئر الأمنيات مع تناول حلوى الأرز بلبن مع الآيس كريم».
ويجد أهل الإسكندرية في الشتاء فرصة للاستمتاع بمدينتهم التي تزدحم بالمصطافين من خارج المدينة في فصل الصيف. وبينما بدأ إنشاء الكورنيش عام 1925 على ست مراحل، انتشرت المقاهي والمقاصف على جوانبه، وازدهرت الحياة عليه وأصبح متنزهاً أساسياً لأهل المدينة وجاليتها الأجنبية المتنوعة، ووثّق العديد من الأدباء والفنانين في أعمالهم كورنيش المدينة باعتباره أحد الملامح الأساسية للإسكندرية، من أبرزهم الأديب العالمي لورنس دارويل الذي ذكره في روايته الشهيرة رباعية الإسكندرية.
لضمان جولة ناجحة على كورنيش الإسكندرية في أيام الشّتاء، يبحث المواطنون عمّن يعينهم على قضاء أوقات ممتعة ويخفف عنهم من برودة الطقس، وهم الباعة الجائلون، الذين ينتشرون بطول الكورنيش، الذي يعدّ بمثابة محل عمل يومي لهم وملاذ أخير لكسب الرّزق أمام صعوبات الحياة، فتستطيع العين أن تدركهم بسهولة في كل بقعة على الكورنيش، مع تنوع الأطعمة والمأكولات والمشروبات التي يقدمونها ليلاً ونهاراً.
فبينما كانت أمطار نوّة «الفيضة الكبرى» تنهمر بغزارة، كان محمد صابر يدفع عربته المحمّلة بالآيس كريم على الرّغم من برودة الطقس، مترقباً قدوم زبائنه المغرمين بالكورنيش وزخات الأمطار.
يقول صابر لـ«الشرق الأوسط»: «يبدأ عملي من الساعة الثامنة صباحاً حتى غروب الشمس. ولا يمكن أن أنقطع عنه حتى في النوة، فزبائن (الجيلاتي) أو (الآيس كريم) لا ينقطعون عنه سواء في فصل الصيف أو حتى في الشتاء البارد». لافتاً: «أنا بحاجة إلى كل جنيه، لكي أنفق على نفسي، ولن أنتظر أحداً يمنحني نقوداً، والله لا ينسى أحداً».
ويضرب الإسكندرية أكثرُ من 14 نوة ممطرة خلال فصل الشتاء، يعرف مواقيتها أبناء المدينة جيداً، ويجدونها فرصة للاستمتاع بالطقس الشّتوي وأطعمة باعة الكورنيش، ففي ميدان القائد إبراهيم المجاور لمحطة الرّمل في وسط المدينة العتيقة، كان يراقب المارة مرور عربات البطاطا المشوية الساخنة، والذرة المشوية، وحمص الشام. السيد أحمد، شاب عشريني جاء من أقصى الصعيد ليعمل بائعاً متجولاً في الإسكندرية، يقدم للزبائن التسالي الساخنة كالسوداني واللب. يقول لـ«الشرق الأوسط»: إنّ «الشتاء رزقه جيد، لأنّ زبائن البرد كثيرون، فالمارة والموظفون العائدون من العمل والعشاق يستمتعون ببضاعتي الساخنة المناسبة لبرودة الأجواء». مضيفاً: «على الرّغم من انخفاض أرباحي مقارنةً بالماضي، فإنني لن أترك عملي الحُر على الكورنيش رغم مضايقات السلطات المحلية، فهذه المهنة وهذا الموقع ورثتهما عن أبي ولن أتنازل عنهما».
على بُعد بضعة كيلومترات، في منطقة سبورتنج على الكورنيش، كانت أنغام الفنانة اللبنانية فيروز تصدر من مذياع صغير على عربة العم عادل، بائع المشروبات الساخنة على الكورنيش، فالموسيقى تعدّ وسيلته الناعمة لجذب الزبائن الذين يبحثون عن ليالي الأنس وسط درجات الحرارة المنخفضة.
يقول عادل: «كنت أول بائع في الإسكندرية يعمل على سيارة الطّاقة الشّمسية الصفراء منذ أربع سنوات، بعدما اضطررت إلى ترك عملي السابق في شرم الشيخ بعد حادث الطائرة الروسية وركود السياحة». وأضاف: «الكورنيش هو قلب المدينة الحقيقي النابض بالحياة ورغم قوة الأمواج أيام موجات الطقس الغاضبة، وحلمي الآن هو تقنين وضعي رسمياً لأستمرّ في العمل بأمان».



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».