يعبر اسم «إل ناسيونال» في فنزويلا عن إحدى المؤسسات الصحافية المهنية في أميركا اللاتينية. فمنذ أكثر من 75 عاماً، كانت هذه الصحيفة الكبيرة شاهد عيان على تاريخ بلد بأسره. ومنذ بداية عهد هوغو شافيز في البلاد قبل عشرين عاماً، كانت هذه الصحيفة دون غيرها هدفاً مقصوداً لدى حكومة البلاد. وكان سبب استهدافها المعروف هو: استقلالها المهني.
جاء مؤخراً، ومما يؤسف له بشدة، إعلان صحيفة «إل ناسيونال» أن مخزونها من ورق الطباعة قد نفد تماماً، مما يجبرها على وقف إصدار النسخة المطبوعة من الجريدة. ويعد الأمر من دون شك كارثة على وسائل الإعلام في قارة أميركا اللاتينية على وجه العموم، وعلى الشعب الفنزويلي على وجه الخصوص.
وفي مقابلة أجرتها صحيفة «الشرق الأوسط» مع ميغيل إنريكي أوتيرو، رئيس تحرير صحيفة «إل ناسيونال»، الذي يعيش في المنفى بسبب الاضطهاد الذي عاناه من قبل حكومة بلاده، يقول أوتيرو إن الصحيفة سوف تواصل عملها، بنسختها الإلكترونية على شبكة الإنترنت، من أجل الديمقراطية في فنزويلا.
> لماذا تتوقف صحيفة «إل ناسيونال» عن الطباعة الآن؟
- إن نظام نيكولاس مادورو الحاكم هو نظام ديكتاتوري، يهدف إلى بسط السيطرة الكاملة على المعلومات في وسائل الإعلام. فلقد نجح النظام في إسكات الإذاعة والتلفزيون الوطنيين في البلاد، من خلال التشريعات التي وافقوا عليها، وتحولت وسائل الإعلام هذه في الوقت الحاضر إلى تطبيق أسلوب الرقابة الذاتية الكاملة لخدمة النظام الحاكم. ثم انطلقوا خلف الصحافة، عبر تطبيق عدد من التدابير القمعية من خلال المحاكم، والهيئات التابعة، وحتى الاعتداءات البدنية، وكافة أشكال الإجراءات الأخرى، حتى تبينوا السبيل الواصلة إلى تقييد المعروض من ورق الطباعة.
ومن ثم، بدأت الصحف الـ66 العاملة في البلاد في الاختفاء واحدة تلو الأخرى. وبعضها قد توقف عن العمل بالكلية، في حين تخيرت صحف أخرى الانتقال إلى شبكة الإنترنت. وكانت صحيفتنا «إل ناسيونال» هي آخر الصحف التي اختفت كمنفذ إعلامي مطبوع في فنزويلا. ولذلك، وفي الآونة الراهنة، فإن المنفذ الوحيد المتبقي لدينا للأخبار في البلاد هو شبكة الإنترنت.
ومع ذلك، فإن النظام الحاكم يعمل بالفعل على تطبيق الرقابة الصارمة، أو إغلاق البوابات الإلكترونية، وحجب المواقع وصفحات الويب، من خلال مشغلي الهواتف في البلاد. وعندما تنتهي عملية الحصار الشامل، لن يكون هناك في فنزويلا إذاعة أو تلفزيون أو جرائد أو إنترنت، مما يعني إغلاقاً تاماً لكافة منافذ حرية التعبير في بلادنا.
> كيف تمكنت صحيفة «إل ناسيونال» من البقاء لفترة طويلة على قيد الحياة؟
- لقد توقعنا الأمر قبل حدوثه. لقد أنشأ النظام الحاكم هيئة لبيع وشراء ورق الطباعة. وأدركنا أنهم لن يوافقوا أبداً على بيع ورق الطباعة إلينا. وعندما بدأ ذلك كان لدينا مخزون كبير من الورق، وكنا نستهلك ذلك المخزون يوماً بعد يوم، ثم أعربت بعض الصحف في أميركا اللاتينية عن تضامنها معنا، ومنحتنا ورق الطباعة كي نواصل العمل.
وبعد أن عملنا على ترشيد الاستهلاك بطريقة تجعل الصحيفة التي كانت توزع 120 ألف نسخة يومياً و250 ألف نسخة أيام الآحاد من كل أسبوع، وتتراوح بين 60 إلى 120 صفحة، انتهى بنا الحال إلى طباعة الصحيفة في 10 آلاف نسخة من 15 صفحة للنسخة الواحدة، ولم نعد ننشر الطبعة الخاصة بأيام الاثنين أو السبت من كل أسبوع.
بطبيعة الحال، كان بإمكاننا الاستمرار على هذا النحو، ونتحول إلى صحيفة تبيع 1000 نسخة من صفحة واحدة فقط، ولكننا قررنا ألا نفعل ذلك أبداً. لذا، اتخذنا القرار بوقف الطباعة مع نفاد آخر كمية من مخزون الورق لدينا، وتحولنا إلى منصة الإنترنت فحسب. وأخبرنا قراءنا أننا لن ننهزم أبداً، وأن التوقف الراهن هو توقف مؤقت يعتمد على انهيار النظام الحاكم في البلاد، وأعتقد أن ذلك النظام لن يستمر على قيد الحياة طويلاً.
> لماذا في رأيك تعمد النظام الفنزويلي الحاكم اضطهاد صحيفة «إل ناسيونال»؟
- إن النظام الحاكم في بلادنا يضطهد كافة وسائل الإعلام. مع مزيد من الضغط موجه ضد صحيفة «إل ناسيونال»؛ نظراً لأنها تمثل الصحافة الحرة، والمستقلة، والجريئة، والرمزية، وبطبيعة الحال فإننا تلقينا بسبب ذلك أقسى الضربات الموجعة وأقواها.
> كيف تمكنتم من اتخاذ هذا القرار؟ أعتقد أنه كان أمراً عسيراً للغاية؟
- إننا نتصور الأمر بمرور الوقت، وندرك أننا سوف نبلغ هذا الحد لا محالة. وظللنا نقلل من الكم والكيف حتى جاءت اللحظة المنتظرة. كنا نعي بصورة أو بأخرى أن الأمر قيد الحدوث ولقد حدث بالفعل. ولقد كان قراراً اتخذناه بسبب انعدام سبل العمل الأخرى في البلاد.
> كيف تصف حرية الصحافة في فنزويلا؟ وهل صحيح عدم وجود وسائل إعلام معارضة للنظام تماماً هناك؟
- كلا، لا يوجد، لا بالشكل المطبوع، ولا المسموع، ولا المرئي. ولكن هناك البوابات الإلكترونية، غير أن الحكومة تملك استراتيجية واضحة المعالم، تمنع وجود هذه البوابات في المدن. ولن تجد في العاصمة كاراكاس بوابة إلكترونية واحدة قط، فلقد حجبوا الوصول إلى شبكة الإنترنت، ويعمل النظام على قمع «صحافة المواطن الذاتية» بمنتهى الصرامة. وهناك مستخدمون على موقع «تويتر» تعرضوا للسجن لعام كامل من أجل تغريدة واحدة فقط. وهم يقمعون بشدة المواطنين الذين يلتقطون الصور في الشوارع باستخدام الهواتف المحمولة؛ لأنهم يعلمون أنهم سوف ينشرونها على وسائل الإعلام الاجتماعية بعد ذلك.
> كيف تصف واقع البلاد حالياً بصفة عامة؟
- إنه وضع حرج للغاية. الحكومة في حالة ارتباك شديدة، بسبب الاحتجاجات الاجتماعية والاقتصادية العارمة بصورة يومية، والناس يتظاهرون من أجل توفير الخدمات العامة، ومن أجل الغذاء. إننا نتحدث عن 20 إلى 30 حالة تظاهر واحتجاج يومي، تلك التي ينتهي الأمر بقمعها بكل قسوة وصرامة على أيدي قوات الحرس الوطني في البلاد.
هناك واقع من الغليان الشديد داخل القوات المسلحة. وتمكن النظام الحاكم من سحق خمس محاولات للتمرد العسكري خلال العام الماضي وحده، ولدينا أكثر من 250 سجيناً عسكرياً الآن.
هناك انقسامات كبيرة في الزمرة الشافيزية الحاكمة، كما أن هناك شخصيات بارزة قد غادرت البلاد بالفعل. والبلدان المجاورة لفنزويلا، مثل كولومبيا، والبرازيل، والولايات المتحدة، والبيرو، وتشيلي، والأرجنتين، ليست لديها الرغبة في التدخل العسكري، ولكنها على استعداد للمساعدة بأي وسيلة أخرى للتخلص من النظام الحاكم لدينا، وهناك حالة من التضخم الاقتصادي الرهيب، وهي الظاهرة التي طالما أسفرت عن سحق وسقوط الحكومات.
> كيف كان شكل الدعم من المجتمع الدولي لبلادكم؟
- هناك 50 شخصية مهمة من النظام الحاكم فُرضت بحقهم العقوبات الدولية. ثم تأتي البيانات الدولية والفعاليات الدبلوماسية النشطة للغاية، من البلدان التي ذكرتها والمناوئة للنظام في فنزويلا، ثم هناك أنشطة منظمة الدول الأميركية، التي تغير فيها وجه التصويت بصورة جذرية فيما يتعلق بفنزويلا، ذلك إلى جانب العقوبات التي يفرضها الاتحاد الأوروبي.
وفنزويلا معروفة على الصعيد العالمي بأنها بلد من بلدان المخدرات. وإن تحدثتم مع مكتب المخدرات التابع للأمم المتحدة في فيينا، فسوف يقولون لكم إن جزءاً كبيراً من مخدر الكوكايين الذي يدخل إلى أوروبا قادم بالأساس من فنزويلا، وتشرف عليه حكومة البلاد.
هذا ولقد غادر 4 ملايين مواطن البلاد بالفعل! ورحيل هذا العدد الهائل يؤثر من دون شك على بلدان أخرى. ووصول مليوني لاجئ من فنزويلا إلى كولومبيا وحدها ليس إلا كارثة محققة. كما هو الحال تماماً في كل من البيرو والإكوادور، إذ يتحول الشتات الفنزويلي إلى كابوس شديد الإزعاج لبقية الدول من حولنا.
إنه نظام ديكتاتوري غاشم، يلهو بألعاب جيوسياسية خطيرة تسبب الإزعاج لكثير من الجهات المعنية. إن بعض القاذفات الروسية تساعد تنظيم «حزب الله» اللبناني ومتحالفين مع إيران. إنهم يتحالفون مع أكثر أنظمة العالم خبثاً وشراً.
> كيف هي أكثر اللحظات انفعالاً في صحيفة «إل ناسيونال»؟
- يكون ذلك عندما نعمل على تحقيق صحافي حصري وبالغ الأهمية للغاية، أو عندما نكتب موضوعاً له نصيبه المعتبر من العمق والتأثير، لدرجة أنه يترك بصمته الأكيدة على المجتمع.
> ما مفهوم صحيفة «إل ناسيونال» في نسختها الإلكترونية الجديدة؟
- لدينا ثالث أكبر موقع إلكتروني من حيث حركة الزيارة والتصفح للمواقع الإخبارية الناطقة بالإسبانية في العالم، ولسوف نعمل على تكريس أنفسنا وتخصيص مواردنا لتعزيز هذا الزخم القائم، وعلى تطويره وتحديثه، ذلك لأن الجانب المطبوع من عملنا لا يمكن القضاء عليه تماماً. لا تزال المطابع تعمل، وبالقليل من التعب والمجهود، ونجد أنفسنا وكأننا لم نخسر شيئاً البتة.