ساندرا بولوك لـ«الشرق الأوسط»: لا أحسن التصرف وقت الخطر

أكثر من 45 مليون شخص شاهدوا فيلمها الجديد في غضون أسبوعين

لقطة من فيلم «بيرد بوكس»
لقطة من فيلم «بيرد بوكس»
TT

ساندرا بولوك لـ«الشرق الأوسط»: لا أحسن التصرف وقت الخطر

لقطة من فيلم «بيرد بوكس»
لقطة من فيلم «بيرد بوكس»

أعلنت شركة «نتفلكس» قبل يومين، أنّ عدد الذين شاهدوا فيلمها الجديد Bird Box تجاوز الـ45 مليون شخص في غضون الأسبوعين الماضيين. وعن ناطق باسم الشركة التي تبث خدماتها للبيوت، والتي خرجت من جوائز «غولدن غلوبس» بجائزتي أفضل مخرج وأفضل فيلم أجنبي، فإن هذا العدد من المشاهدين هو «أكثر على نحو ملحوظ مما توقعناه»‬.
بطولة هذا الفيلم هي للممثلة ساندرا بولوك، ونوعه هو فيلم رعب في أتون المستقبل غير البعيد. هناك قوى غير منظورة آتية من مصدر مجهول تدفع بالناس إلى الانتحار. ليس بعض الناس، بل على نحو عام وشامل. مالوري تقرر ألا تنصاع لمثل هذه الحالة فتنطلق مع ولديها الصغيرين هاربة صوب منطقة تعتقد أنها آمنة. شرط النجاة هو قطع المسافة بعيون مغلقة ما يضاعف المشاق الناتجة من هذه المحنة. حين وصولها تجد نفسها أمام محنة أخرى. إنّه عالم انغلق على محنه وبدأ يأكل بعضه بعضاً.
هذا هو ثاني ظهور للممثلة بولوك في غضون ثمانية أشهر من بعد غياب دام ثلاث سنوات. ففي يونيو (حزيران) الماضي شاهدناها في «أوشن 8» إلى جانب كايت بلانش، شارلوت كيرك، آن هاذاواي وهيلينا بونام كارتر من بين أخريات.
أمّا قبل ذلك، وفي سنة 2015، شوهدت في «علامتنا هي الأزمة» (Our Brand is Crisis) ، الذي مثّلت فيه وكانت مسؤولة عن إنتاجه أيضاً.
-- حرية مطلقة
من مطلعه، وتحت إدارة المخرجة الدنماركية سوزان باير، يقحمنا الفيلم في موضوعه: «إذا نظرت تموت»، تقول مالوري لطفليها ثم تركض بهما في غابة مغمضة العينين. لا بد أنّها درست دروبها قبل ذلك لكي تتحاشى التعثر أو الارتطام. طريقها تنتهي عند قارب كانت خبأته. تركبه مع ولديها وتنطلق به. هنا يعود بنا الفيلم إلى خمس سنوات سابقة. تتابع فيها مالوري حالات انتحار في خبر يأتي على شاشة التلفزيون من موسكو. تعتبره أمراً بعيداً وتمضي عنه. بعد قليل تشهد الحالة ذاتها تتكرر أمامها.
تنضم مالوري إلى مجموعة من الباحثين عن وسيلة للبقاء أحياءً بالمكوث في سوبرماركت مهجور. تغلق أبوابه وتسلح نفسها وتنتظر ما سيتوالى من مخاطر. الحبكة تذكّر بفيلم «مكان هادئ» لجون كازينسكي (عرض في ربيع العام الماضي)، حيث البقاء على قيد الحياة بعد انتشار مخلوقات فضائية قاتلة مشروط بالصّمت المطبق وعدم الكلام.
الفيلم له وعليه، لكن ساندرا بولوك توفر واحداً من تلك الأدوار القوية التي تؤمها من حين إلى آخر. دور يضعها في مواجهة تحديات لا بد أن تنتصر فيها. أحد هذه التحديات الفصل الذي تدور مشاهده في النهر، وحوله دار سؤالي الأول:
‫‬> ماذا كانت الصعوبة في تصوير هذه المشاهد تحديداً؟‬
- لم تكن هناك صعوبة فعليّة؛ كون الفنيين والعاملين ضمنوا عدم حدوث أي مخاطر حقيقية. كنّا محميين من المفاجآت والأذى طوال الوقت. لكنّ الصّعوبة كانت في قيامي بالحديث مع ولدي في الفيلم بلهجة آمرة وهما ما زالا طفلين صغيرين. كانا يعلمان أنّنا نصوّر فيلماً، لكن الأمور لا بد أدت إلى خوفهما الشديد. كان عليّ أن أكون قاسية وأتحدث معهما بلهجة قوية؛ ما جعلهما يتجاوبان بمشاعر خوف فعلي. كنت أقوم بتهدئتهما خلال فترات ما بين التصوير لكي يرتاحا قليلاً ويعودا إلى طبيعتهما. لكن خوفهما كانا أصعب ما في هذه المشاهد.‬
‬> هذا هو فيلمك الأول مع المخرجة سوزانا باير. كيف ترين هذا التعاون بينكما؟
- لقد ذكرت ما أنوي ذكره هنا ردّا على هذا السؤال في كل مقابلة قمت بها لصالح هذا الفيلم، ولا مانع عندي من التأكيد، هذه هي المرّة الأولى في حياتي التي ألتقي فيها مع صانع أفلام يمنحني حرية كاملة وتامة لكي أعطي دوري كل ما أريد على النحو الذي أريد. لاحظت أنّها تفعل ذلك مع الجميع. تختار ممثليها ثم تتركهم يجيدون في الوقت الذي تحتفظ هي بالكلمة الأخيرة أو بالقرار النهائي إيجاباً أو سلباً، وفي كل شؤون الفيلم.
> هل ستتصرفين على هذا النحو الذي نراه في الفيلم لو أنّ الحياة شهدت مثل هذا الخطر؟
- ربما. لن نعرف تماماً إلّا عندما يأتي مثل هذا الوقت. بعضنا يعتقد أنّه يعرف كيف سيتصرف خلال وقوع كارثة ما. أنا لست منهم.
> لاحظت من أفلامها السابقة حسن تأسيسها للوضع الذي تطرحه والبناء عليه جيداً…
- صحيح. هي صانعة أفلام ومؤلفة وبانية، وتستطيع أن ترى ما تبنيه. وجدت أنّها تعرف مسبقاً كم ستستخدم من كل مشهد. كانت هناك بعض الأحيان التي تناقشنا فيها حول مشاهد معينة، لكنّ هذه المناقشة كانت دائمة مثمرة ونتيجة ما سبقها من تعاون.
> كيف كان اللقاء الأول بينكما قبل التصوير؟
- كان إيجابياً. كنت شاهدت فيلمها «المدير الليلي» (The Night Manager) ، وأعجبت به. تطلعت إلى التعاون معها. في الحقيقة، عندما التقيت بها تحدثنا في مشروع آخر، لكنّ ذلك المشروع تعثر.
> هل تم ذلك وسيناريو «بيرد بوكس» جاهز لدخول الإنتاج أو قبله؟
- لا، لم يكن «بيرد بوكس» جاهزاً بعد. لكن عندما تسلمنا السيناريو في وقت واحد قرأناه وأعجبنا به. لكن دعني أعود إلى الوراء قليلاً. هذا السيناريو لم يكن جاهزاً على النحو الذي تراه الآن. قبل أربع سنوات تم عرضه علينا منفصلين وقرأناه ولم يثر إعجابنا آنذاك. قبل أشهر عدة من التصوير تسلمنا السيناريو بعدما تم تعديله وتغيير بعض ما ورد فيه سابقاً، وهذا هو السيناريو الذي وافقنا عليه.
-- مع الطيور
> هل تطلب منكِ هذا الفيلم جهداً بدنياً أكثر من أي فيلم آخر قمتِ بتمثيله؟
- أعتقد نعم. هذا صحيح، لكن الحظ الحسن هو أنّه عندما تشعر بأنّك تريد أن تحقق فيلماً تؤمن به كهذا الفيلم، وتلتقي مخرجاً يؤمن تماماً بأنّه يريد تحقيق هذا الفيلم، فإنّ هذا سيؤدي إلى تذليل الصّعوبات وتحويل الجهد المبذول إلى سعي فعلي للإجادة. لا يهم الجهد البدني في هذه الحالة. المشروع يصبح مشروعك أنت أيضاً، وليس مشروع المنتجين أو المخرج.
> لم تكن عيناك مغمضتين فعلياً، أليس كذلك؟
- ليس دائماً. لكن الذي يحدث هو أن قراءة دور ينص على أن الممثل لا يرى ما يحدث أمامه يجعله يشعر بأهمية الدور الذي سيقوم به. يبدأ في تخيل ما سيؤديه ويبدو له الأمر مثيراً جداً. حين التصوير يدرك الممثل كم اعتماده على البصر، ليس في حياته الخاصة فقط، بل خلال التصوير. أيضاً. نأخذ نِعم الحياة كتحصيل حاصل، لكن الحقيقة أنّنا نعتمد كلياً على كل شيء في أجسادنا، كممثلين نمثل بأعيننا في الكثير من الحالات. نمرّ بالكثير من المشاهد التي علينا فيها التعبير عمّا يدور فينا من أحاسيس أو مشاعر عبر ما تعكسه العينان اللتان هما النافذة على الروح. أليس كذلك؟
> ألا يؤدي ذلك إلى الخوف من الفشل؟
- طبعاً. في البداية تكتشف كم تعتمد على عينيك، وبعد قليل يصيبك الخوف من فكرة قيامك بتأدية دورك معتمداً على باقي قدراتك فقط. قد ينتهي بك الأمر إلى الذعر. لكن في هذا الدور كان المطلوب هو أن أشعر بالذّعر في تلك المشاهد التي أهرب فيها مع الأولاد. سوزانا كانت تلتقط هذا الذعر وتستفيد منه وتعطيني مشهداً آخر من النوع ذاته. عندما تراني أنّني بدأت أرتاح على هذا الوضع الجديد تدفعني إلى مشهد آخر فأزداد توتراً، وهذا ما تريده بالفعل.
> لكن، لا بد أن مشاهدك هذه كانت مصممة مسبقاً؟
- لا، لم تكن. كنت أتلقى التعليمات أولاً بأول، ثم يُغيّر الموقع التالي من دون أن أدرس تضاريسه. لم أكن أعرف مواقع الأشجار أو بعد الكاميرا عني. كان عليَّ أن أتصرف كعمياء بالفعل. لكني تعلمت أن فاقدي البصر يحسنون أشياء كثيرة لا نستطيع أن نلمّ بها ونحن مبصرون. هناك حس إضافي يلازمهم يجعلهم قادرين على ركوب دراجة، أو على الشعور المسبق بأن هناك حواجز أمامهم. لذلك؛ أقول إن المسألة التي شغلتني هي إذا ما كنت سأستطيع النجاح في تأدية المطلوب مني ليس بدنياً فقط بل شعورياً.
-- ألوان البشر
> في الفيلم تصطحبين طيرين في قفص لأنّهما يستطيعان تحذيرك مسبقاً بوجود خطر ما. هل تربين طيوراً منزلية؟
- لا. لم يسبق لي أن فعلت ذلك، وربما لأنّ لدي كلبين يأخذان القسط الأكبر من اهتمامي في هذه الناحية. لكنّني أعجبت بهذين الطيرين إلى حد كبير. وجدتهما على قدر كبير من الذكاء فعلاً. جون مالكوفيتش (يشاركها في التمثيل) لديه قدرة على التواصل مع الطيور. هو «هامس طيور».
> يسود وجهك بعض الحزن الآن. لماذا؟
- مات كلباي قبل شهر واحد. ما زلت أشعر بالحزن لفقدانهما. أكاد أبكي الآن.
> ما الذي يخيفك عادة؟
- أخاف من الطيران. أمضي معظم الوقت مغمضة العينين حين أسافر. أخاف أيضاً من السياسة والسياسيين، ولا أسعى لفهم السياسة. تخيفني جداً لأنّها أصبحت «بزنس». أودّ لو أنّ واحداً من عامة الناس يصبح رئيس جمهورية.
> تؤدّين دورك أمام عدد من الممثلين الرجال، لكنك تبدين أكثرهم قساوة.
- تقصد رجولة؟ (تضحك). كنت أبحث في هذا العمل عن ممثل يمنح الشاشة الشعور بالرجولة الفعلية. ليست الرجولة الذكورية القوية التي نشاهدها في أفلام اليوم، بل تلك القوّة الداخلية التي تجعل المرء يرتاح لها. هذا هو ما يوفره في الفيلم تيري.
> تقصدين تريفانتي رودس. هو ممثل أفرو – أميركي، وهناك مشاهد في الفيلم تقترح وقوعك في حبه. هذا جديد إلى حد بالنسبة إليك. أليس كذلك؟
- في حياتي لا أفرق بين ألوان البشرة، ولا من أين جاء هذا الشخص. من أي بلد أو ينتمي إلى أي عنصر. كنت شاهدت تيري في فيلم «مونلايت» وسعدت حين وقع اختيار المخرجة عليه. خرجت من لقائنا الأول سعيدة بانضمامه إلى ممثلي الفيلم. سوزانا كانت سعيدة به أيضاً. ما أردت إبداءه في الفيلم، أنّه في مثل هذه المحن يلتقي الناس من حيث لا يخططون لمؤازرة بعضهم بعضاً على كل الأوجه ومن دون تفريق للون أو للعنصر. هذه رسالة الفيلم، خصوصاً في هذه الأزمنة التي نمرّ بها اليوم.
> في بعض المشاهد الأولى أنت إنسانة تحب الوحدة ولاحقاً تعملين من خلال المجموعة. يصير لزاماً عليك معايشة وضع جديد. هل تحبين الوحدة في حياتك الخاصة؟
- لم تعد شرطاً. ربما في زمن سابق كنت من النوع الذي يحب أن ينعزل عن العالم، لكن مع وجود الأولاد وكثرة العمل يتلاشى هذا التفضيل. لا يعد مهماً على الإطلاق. نحن كبشر لا نستطيع أن نعيش بمعزل عن بعضنا بعضاً. حتى لو كنت تعيش في بيتك منفرداً فإن عليك أن تتعامل مع سواك. قد يكون بائع الخضراوات أو موظف المصرف أو الخادمة. هذا حتى في حدود التعامل الأدنى ما زال ارتباطاً بمن حولك. أسمع أحياناً عن الرغبة في الوحدة. أقدّر هذا، لكن ليست هناك وحدة كاملة، وإذا ما رغب شخص ما في أن يعيش وحيداً فهذا شأنه، لكن الحياة تعني مشاركة الجميع فيها.


مقالات ذات صلة

عصام عمر: «السيد رامبو» يراهن على المتعة والمستوى الفني

يوميات الشرق عصام عمر خلال العرض الخاص للفيلم (حسابه على فيسبوك)

عصام عمر: «السيد رامبو» يراهن على المتعة والمستوى الفني

قال الفنان المصري عصام عمر إن فيلم «البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو» يجمع بين المتعة والفن ويعبر عن الناس.

انتصار دردير (القاهرة )
يوميات الشرق الممثل الجزائري الفرنسي طاهر رحيم في شخصية المغنّي العالمي شارل أزنافور (باتيه فيلم)

«السيّد أزنافور»... تحيّة موفّقة إلى عملاق الأغنية الفرنسية بأيادٍ عربية

ينطلق عرض فيلم «السيّد أزنافور» خلال هذا الشهر في الصالات العربية. ويسرد العمل سيرة الفنان الأرمني الفرنسي شارل أزنافور، من عثرات البدايات إلى الأمجاد التي تلت.

كريستين حبيب (بيروت)
يوميات الشرق محمد سعد في العرض الخاص لفيلم «الدشاش» (الشركة المنتجة للفيلم)

هل استعاد محمد سعد «توازنه» بفضل «الدشاش»؟

حقق فيلم «الدشاش» للفنان المصري محمد سعد الإيرادات اليومية لشباك التذاكر المصري منذ طرحه بدور العرض.

داليا ماهر (القاهرة )
يوميات الشرق تماثيل وقوالب من الفخار مصنوعة قبل الميلاد (مكتبة الإسكندرية)

«صناعة الفخار»... وثائقي مصري يستدعي حرفة من زمن الفراعنة

يستدعي الفيلم الوثائقي «حرفة الفخار» تاريخ هذه الصناعة التي تحمل طابعاً فنياً في بعض جوانبها، على مدى التاريخ المصري القديم، منذ أيام الفراعنة.

محمد الكفراوي (القاهرة)
يوميات الشرق لقطة من الفيلم تجمع «شاهيناز» وأولادها (الشركة المنتجة)

«المستريحة»... فيلم مصري يتناول النصّابين يمزج الكوميديا بالإثارة

تصدَّرت مجسّمات دعائية للأبطال دار العرض عبر لقطات من الفيلم تُعبّر عنهم، فظهرت ليلى علوي في مجسّم خشبيّ جالسةً على حافة حوض استحمام مليء بالدولارات.

انتصار دردير (القاهرة )

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».