هل يمثل بوليسيتش الجزء الأول من غزو أميركي للملاعب الأوروبية؟

من بين كل القصص التي يجري سردها حول إخفاق الولايات المتحدة في التأهل لبطولة كأس العالم لعام 2018، تتعلق أكثرها إثارة باللاعب كريستيان بوليسيتش، وذلك في أعقاب التعادل المشؤوم أمام ترينيداد وتوباغو خارج أرض المنتخب الأميركي.
بعد نهاية المباراة، وقف اللاعب المهاجم تحت الأمطار «مرتدياً كامل ملابسه، بينما غطت يداه وجهه وأجهش في البكاء»، حسبما وصف داكس مكارتي المشهد. في تلك اللحظة، كان بوليسيتش وحده من يعلم ما يدور في ذهنه، لكن من المؤكد أنه باعتباره أفضل لاعب في صفوف منتخب بلاده، شعر بقدر من المسؤولية تجاه الإخفاق الأكبر والأكثر إذلالاً بمجال كرة القدم الأميركية على امتداد جيل كامل.
بطبيعة الحال، يعتبر بوليسيتش واحداً من اللاعبين الأميركيين القلائل الذين أفلتوا من سهام اللوم عما جرى في مباريات التأهل لبطولة كأس العالم. في الواقع، لقد كان بوليسيتش قائداً داخل صفوف منتخب بلاده. ومع هذا، فإن دموعه تحت المطر جاءت كاشفة، فقد رسمت صورة لشخص يحمل على عاتقه أعباءً ثقيلة تتمثل في توقعات كبرى وضغوط هائلة باعتباره أول نجم أميركي من الطراز الأول بمجال كرة القدم.
وقد تأكدت نجومية بوليسيتش عبر صفقة انتقاله إلى تشيلسي الإنجليزي، الأسبوع الماضي من دورتموند متصدر الدوري الألماني، مقابل 64 مليون يورو.
ولن يتفعل عقد انتقال بوليسيتش الآن بل سيبدأ من الصيف المقبل حيث يأمل مهاجم دورتموند مغادرة ألمانيا وفريقه متوج بلقب الدوري (بوندسليغا).
وقال بوليسيتش: «لدينا طموح كبير ويمكن أن يكون عاما مميزا. هناك شعور بأن بإمكاننا تحقيق شيء ما، لدينا اللاعبون المناسبون، ونحن نتصدر جدول الترتيب، أتطلع أن أترك الفريق وهو بطل للمسابقة».
وقبل بوليسيتش، كان جون بروكس اللاعب الأغلى في تاريخ كرة القدم الأميركية، عندما انتقل إلى فولفسبورغ مقابل 20 مليون يورو عام 2017. ويفوق سعر انتقال بوليسيتش هذا المبلغ القياسي بمقدار يزيد على ثلاثة أضعاف. وتقف اليوم كرة القدم الأميركية عند أقرب نقطة في تاريخها من امتلاك الأيقونة الكروية العالمية التي لطالما حلمت بها.
وهنا تحديداً تكمن معضلة أن الإخفاق في التأهل لبطولة كأس العالم عام 2018 أثار انقسامات وصدوعاً على صعيد كرة القدم الأميركية، في وقت ركزت انتخابات اختيار رئيس الاتحاد الأميركي لكرة القدم والتي شهدت منافسة محتدمة وأجواء مسمومة بعض الأحيان، على تداعي البنية التحتية المرتبطة بالشباب. في نهاية الأمر، فاز كارلوس كورديرو، مرشح المؤسسة، متفوقاً على عناصر خارجية أكثر راديكالية تعهدت بإجراء تغييرات جوهرية. ومع هذا، يبقى الجدال حول مستقبل كرة القدم قائماً.
والسؤال الآن: إلى أي مدى يبلغ حجم سوء مشكلات كرة القدم الأميركية للناشئين في وقت جعل تشيلسي لتوه من بوليسيتش ثالث أغلى صفقة في تاريخه؟ جدير بالذكر أن تيلر آدامز، لاعب خط الوسط المراهق الذي ترك انطباعاً جيداً عنه عبر مشاركاته بالدوري الأميركي الموسم الماضي، انتقل إلى آر بي لايبزيغ الألماني الشهر الماضي. في الوقت ذاته، وقع حارس المرمى الأميركي الدولي زاك ستيفين عقد انتقال إلى مانشستر سيتي، بينما انتقل لاعب قلب خط الدفاع في المنتخب الأميركي أقل عن 20 عاماً، كريس ريتشاردز، إلى بايرن ميونيخ قادماً من دالاس قبل أيام قليلة.
وهناك أيضاً ويستون مكيني، لاعب خط الوسط المدافع الذي عاون شالكه على إنجاز أول موسم له مع النادي في المركز الثاني ببطولة الدوري، في وقت أثار تيموثي ويا الدهشة على نطاق واسع بأدائه الرائع في صفوف باريس سان جيرمان وربما ينضم إلى سلتيك الاسكوتلندي. وإذا كانت كرة القدم الأميركية تعاني من مشكلة فيما يخص الناشئين، فإنها بالتأكيد تبلي بلاءً جيداً في التمويه عليها بالنظر إلى ما سبق.
وهنا تحديداً لب القضية، تلك الصفقات الكبرى تقوم بدور التعتيم على القضايا الكبرى. ويجب عدم النظر إلى هذه الصفقات باعتبارها دليلاً على نجاح ثقافة «ادفع كي تلعب» القائمة على مستويات الناشئين من كرة القدم الأميركية، ولا ينبغي السماح لها بالتمويه على الانقسامات القائمة بين المؤسسات والاتحادات المختلفة المعنية بكرة القدم الأميركية والتي تتبع كل منها أهدافاً وطموحات مختلفة عن الأخرى. ولا ينبغي كذلك أن نغفل الرفض الأميركي في برنامج مدفوعات التضامن الذي أقرته الفيفا والذي حال تطبيقه كان سيحصل بمقتضاه النادي الذي قضى بوليسيتش فيه صباه، بي إيه كلاسيكس، على قرابة 540 ألف دولار كجزء من مبلغ انتقاله إلى تشيلسي كحق رعايا في صغره.
فيما يتعلق بتنمية مهارات الناشئين، تحاول الكرة الأميركية بوجه عام شغل المساحة القائمة بين فلسفة تنمية مهارات النشء على المستوى الشعبي بقيادة الأندية، وهي الفلسفة المتبعة داخل أوروبا، والتوجه الجامعي التقليدي المتبع على الصعيد الرياضي داخل الولايات المتحدة. وحتى تحسم الكرة الأميركية اختيارها ما بين التوجهين، ستعاود المشكلات ذاتها الظهور من حين لآخر.
وربما تستفيد الكرة الأميركية بتحقيق انفتاح داخلها والتحلي بصبغة أكثر أوروبية، خاصة فيما يتعلق بتنمية مهارات الناشئين. ومن المثير للإعجاب الاستمرار في إبداء مثل هذا القدر الكبير من الثقة في نظام الكليات، والذي يرمي لمنح اللاعبين تعليماً جيداً يمكنهم من الاعتماد عليه إذا ما أخفقوا في احتراف كرة القدم، لكن هذه الثقة تضع لاعبي الكرة الأميركية في موقف ضعف منذ سن صغيرة.
وربما يدفع البعض بأن الكرة الأوروبية تخذل أبناءها كأفراد، وذلك بسماحها بدخول مثل هذه الأعداد الغفيرة إلى مجال كرة القدم دون مؤهلات تذكر. ومع هذا، تبقى الحقيقة أنه إذا رغبت الكرة الأميركية في اللحاق بركب نظيرتها الأوروبية، أو على الأقل تقليص الفجوة بينهما على المستوى الشعبي، فإنه يتحتم عليها تغيير كامل منظورها العام. وإذا كان الهدف المنشود إنتاج أفضل مستوى ممكن من اللاعبين، فإن المنظومة الحالية غير كافية لتحقيقه. الملاحظ أن الكرة الأميركية تحولت إلى هدف أمام منتقدي جهود تنمية الناشئين داخل الولايات المتحدة، لكن المشكلة في حقيقتها تتعلق بما هو أكبر عن مجرد تمزق في هيكل المنظومة الحاكمة للمجال الكروي ـ فهي مشكلة آيديولوجية، كذلك.
ربما ينطوي التوجه الأوروبي تجاه تنمية مهارات الناشئين بالإهدار، بل وربما يفتقر إلى الشعور بالمسؤولية، لكنه قادر على تنمية المواهب بصورة جماعية على نحو تعز عنه الكرة الأميركية. ولو أن بوليسيتش ظل داخل الولايات المتحدة، بدلاً من الانتقال إلى ألمانيا عندما كان في الـ14 فمن المحتمل أنه كان ليبدأ انطلاقته الحقيقة الآن فقط. لكن بوليسيتش لعب في الدوري الألماني الممتاز طيلة ثلاثة مواسم، وقاد منتخب بلاده ونجح في إنجاز صفقة انتقال مقابل مبلغ مادي ضخم إلى واحد من أندية الصفوة بالدوري الإنجليزي الممتاز ببلوغه الـ20 من عمره.
من جانبه، يرفض بوليسيتش فكرة أنه نجح رغم الكرة الأميركية، وليس بفضلها، لكن ما من شك في أنه يبقى حالة استثنائية. ولو كان بوليسيتش القاعدة، ولو كان يمثل انعكاساً صادقاً لكرة القدم الأميركية، لم تكن الكرة الأميركية لتعاني الأزمة الوجودية التي عانتها عام 2018. ورغم أن صفقة انتقال لاعب أميركي إلى ناد عملاق بالدوري الإنجليزي الممتاز مقابل 64 مليون يورو يبدو إنجازاً يستدعي الاحتفال من جانب الكرة الأميركية، فإن الواقع في حقيقة الأمر يشير إلى منظومة رياضية متداعية أفرزت ظاهرة استثنائية تتمثل في تلك الصفقة.