«البريكاريا»... الطبقة الجديدة الخطرة

أصبحت تضم جيشاً تعداده ملايين المواطنين في دول الشمال الغنيّ

مظاهرة لـ«السترات الصفراء» في فرنسا
مظاهرة لـ«السترات الصفراء» في فرنسا
TT

«البريكاريا»... الطبقة الجديدة الخطرة

مظاهرة لـ«السترات الصفراء» في فرنسا
مظاهرة لـ«السترات الصفراء» في فرنسا

تسببت الحراكات الشعبيّة الغاضبة المستمرة في أرجاء فرنسا منذ عدة أسابيع والتي اكتسبت صبغة «السترات الصفر» وأجبرت الحكومة على التراجع ولو مؤقتاً عن إجراءاتها لزيادة الضرائب على المحروقات، وقبلها موجة من الإضرابات التي نفذتها اتحادات عماليّة محليّة في المملكة المتحدة ونجحت بانتزاع بعض الحقوق الأساسيّة لعاملين مهمشين في مختلف مستويات المجتمع البريطاني من مدرّسي الجامعات إلى عمّال النظافة – تسببت هذه الحراكات في إصابة الصحافة والمعلقين التلفزيونيين بل والسلطات ذاتها بالحيرة والتشوش بشأن ماهيّة الجهة (أو الجهات) المنظمة لمروحة معقدة من الاحتجاجات، إذ فاجأهم افتقادها لرأس محرّك، وانعدام صلتها بأي من الأحزاب المعروفة داخل البلاد، كما صلابتها وشجاعتها في مواجهة عنف الدّولة الجسدي والمعنوي كلاهما وانتشارها الواسع عبر القطاعات الاقتصاديّة والجغرافية على تفاوت مشاربها الإيديولوجيّة.
وقد حاول بعض مُثقّفي العُجالات تصنيف هذي الحراكات تحت مسمى الشعبوية أو في إطار موجة صعود التيارات الفاشية التي شهدها غير ما بلد أوروبي خلال السنوات الأخيرة أو حتى باعتبارها نوعاً من يسار جديد شعبوي الطابع خفيف الأدلجة. لكن كل هذه التصنيفات ما لبثت وأن تساقطت كما أوراق الخريف في مواجهة عواصف الواقع التي لم تشبه أياً منها.
والحقيقة أن مفكرين – قلّة - تجاهلهم الإعلام النيوليبرالي المُهَيمن على وسائط الإعلام الجماهيري الكبرى عمداً كانوا قدّموا توصيفاً دقيقاً للتّحولات العميقة التي أصابت سوسيولوجيا المجتمعات الغربيّة في ظلّ حكم النيوليبراليّة منذ سّبعينيات القرن الماضي وإلى أوقاتنا الرّاهنة، وتبدو توصيفاتهم أقرب ما يكون إلى مظاهر العصيان الجديدة التي نرى. وبحسب هؤلاء فإن مفهوم طبقة البروليتاريا - التي طبعت مرحلة الصّراعات المجتمعيّة منذ بدايات الثّورة الصناعيّة إلى موجة الحراكات الطلابيّة عام 1968 - قد اندثر عمليّاً من الإطار الاجتماعي في الغرب بعد أن نُقلت معظم الصناعات الثقيلة إلى دول العالم الثالث، وغيّرت التقنيات الحديثة طبيعة العمل بمجملها بما فيها أساليب الزراعة التي لم تعد بحاجة إلى فلاحين بالمفهوم التقليدي للكلمة كما كان في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، بينما في المقابل بدا أنّ غالبية الأنشطة الاقتصاديّة التي كانت طوال عقود مجال تشغيل العمّال قد استبدلت بها أنواع جديدة من الوظائف المتسمة ببساطتها التقنيّة وضعف بدلاتها الماليّة كما في مطاعم الوجبات السريعة وسلاسل المقاهي ومراكز خدمة العملاء ومهمات التوصيل وتجارة التجزئة وتوضيب طلبات الشراء البريدي في مستودعات الشركات الكبرى وغيرها.
هذه التحولات البنيوية مضافة إلى توابع زلزال الأزمة الماليّة العالميّة عام 2008 وسياسات التقشف الحاد التي تبنتها معظم الحكومات الغربيّة من أجل إنقاذ بنوكها الكبرى، وكذلك موجة التخصيص العريضة التي أطلقتها النيوليبراليّة ومست جوانب العيش اليومي جلّها في معظم دول الشمال الغنيّ، كل هذه متراكمة أنجبت وفق المفكر جاي ستاندنغ طبقة مختلفة من المهمشين اصطلح على تسميتها بالبريكاريا The Precariat وهي كلمة دخلت اللغة الإنجليزيّة رسميّاً عام 2004، وتمزج بين كلمة البروليتاريا (أي طبقة العمال) وكلمة البريكاريوس التي تعني المتزعزع والمؤقت وغير المثبت فكأنها طبقة عمال مؤقتين عابرين يستعان بهم عند وجود حاجة إليهم بينما يرسلون إلى منازلهم دون أي حقوق أو ضمانات عندما تنتفي تلك الحاجة سواء بصفة يوميّة أو أسبوعيّة أو حتى شهريّة في إطار نموذج عمل جديد شائع تتسامح معه معظم حكومات الغرب بوصفه لازمة للرأسماليّة المتأخرة. البريكاريا وفق ستاندنغ – الذي كان أوّل من كتب في 2011 عن صعود هذه الطبقة الجديدة – أصبحت تضم جيشاً هائلاً تعداده ملايين المواطنين في دول الشمال الغني بين الولايات المتحدة وأوروبا وشرق آسيا الذين يعملون وفق عقود قصيرة الأجل أو حتى عقود صفريّة – أي حسب الطلب عند توفر العمل – أو هم فقدوا القدرة والاهتمام للعودة إلى سوق العمل وتحولوا كسبة متعطلين غالب الوقت يعملون بالساعة في عدة وظائف ذات الآن. وبغير السعي إلى تحصيل ما يسد الرّمق، فإن البريكاري وتحت ضغوط الحياة المعاصرة يتوجه بشكل أو بآخر إلى الاستدانة من البنوك - قروضاً أو برامج تمويل ودفع آجل أو بطاقات ائتمانية - كي يمكنه شراء سيارة أو أثاث مثلاً، وتنتهي به الأمور غالباً إلى التورط في ديون متراكمة الفوائد تكرّس دفعه إلى قاع المجتمع، وتنقله إلى نظام عبوديّة حديث حيث يشقى حين يتوفر العمل لتسديد التزامات سابقة وآنية مع شبه انعدام في فرص التقدم الاجتماعي أو الاقتصادي إلى أن يدركه الموت مكتئباً ومكسوراً.
وينفي المفكر الإيطالي أليكس فوتي في كتابه عن صعود البريكاريا (النظريّة العامة للبريكاريا - 2016) أن تكون هذه الطبقة شكلاً محدثاً من بروليتاريا القرنين الماضيين، وهو لذلك يستبعد بشدة أن النماذج الثوريّة التي اختبرتها الطبقات العاملة شيوعيّة كانت أم فوضويّة ستكون صالحة لهذه الطبقة الجديدة لأن تلك النماذج أصبحت مثاليّة بصفة زائدة، وتحمل إرثاً نظريّاً صعباً لا يمكن لبريكاري مرهق قد لا يجد من غده لقمة عيش استيعابه، لا سيّما بعدما تحولت معظم الأحزاب اليساريّة المعاصرة في الغرب إلى تلوينات وزخارف للمنظومة الرأسماليّة العالميّة، وبعد ذلك التشويه الهائل الذي تعرضت له انطباعات الغربيين العاديين عن التجارب الشيوعيّة إبّان الحرب الباردة. وهذا يفسّر عند فوتي انعدام ثقة البريكاريا بالاتحادات التقليديّة للعمال تماماً كما اعتزالها الفطري للعمليّة السياسيّة كما هي في الغرب بوصفها ديمقراطيّة زائفة ولعبة كراس موسيقيّة للنخب والبرجوازيات دون الفقراء والمهمشين.
وكما لو أنها سخريّة القدر، فإن فوتي يعتقد أن هذه الطبقة المستحدثة التي خلقتها النخب الرأسماليّة خلقاً بسياساتها النيوليبراليّة القاسية، وبتجويفها الدولة لمصلحة رأس المال، وتعامي برلماناتها عن حماية الضعفاء، وفساد التمثيل في منظومات الديمقراطيّة الزائفة، هذه الطبقة تحولت بفعل تراكم الأزمات إلى الخطر الأكبر على استمرار تلك النخب واحتكارها التامّ للعيش الكريم، وأنها ستكون – كما أظهرت بدايات الحراك الفرنسي الأصفر – حاملة تغيير ثوري تاريخي قد يكسر قواعد الهيمنة ويعيد نثر أوراق المجتمعات الغربيّة على نحو غير مسبوق.
وتمتلك هذه الطبقة بحق أسلحة دمار شامل من طراز مختلف تجعل تلك المهمة التغييريّة ممكنة نظريّاً: فالبؤس وحد بين المجموعات العمريّة والعرقيّة والثقافيّة بديلاً عن الآيديولوجيا، والأفراد ليس لديهم ما يخسرونه بالفعل سوى ديونهم وأغلالهم، ومنتجات الاستهلاك التي فرضت عليهم من هواتف ذكيّة وكومبيوترات نقالة وغيرها مكنت لهم من بناء شبكات تواصل لحظي لم تكن ممكنة قبل عقدين فقط، وفوق ذلك كلّه فإن الطبقة اكتسبت طابعاً أممياً عابراً للحدود – السترات الصفر انطلقت في عدة مدن أوروبيّة بالتوازي مع الحراك الفرنسي –، وهي على العموم طبقة أفضل تعليماً من البروليتاريا التقليديّة وعلى اطلاع غير مسبوق – عبر الإنترنت – بآخر التطورات على الأرض وفقدت الثقة نهائياً بأدوات الإعلام التقليدي - المنحازة للنخب والمنخرطة بقدّها وقضيضها للترويج للبروباغاندا وتشويه المعلومات - فلم يعد الكذب مؤثّراً عليها. وبحسب ستاندنغ وفوتي كليهما فإن هذه الطبقة أقدر لذلك على ابتداع أساليب مقاومة لم تكن لتخطر على بال أنظمة الحكم. خذ مثلاً فكرة السترات الصفر: السلطات الفرنسيّة تفرض على كل سيارة لترخيصها أن تحمل واحدة منها يستخدمها سائقها في حال تعطلت كي لا يُداس عندما يقف لإصلاحها. السترات المتوفرة في كل مكان أصبحت في يد البريكاريا رمزاً عميق الدلالة: لقد تَعطّلت حياتنا، ولذا نحن نترجل منها مرتدين ستراتنا الصفراء حتى لا يدوسنا المجتمع الذي لا يلقي إلينا بالاً ويمضي في طريقه لاهثاً. ولعل نقطة انطلاق حراك البريكاريا من باريس تحديداً، رمزٌ آخر. ألم تكن تلك ذاتها المدينة التي أطلقت ثورة الباستيل البرجوازيّة الثائرة على النظام الأرستقراطي، ثم كميونة باريس البروليتاريّة الثائرة على النظام البرجوازي وبعدها ثورة الطلاب عام 1968 على النظام اليميني المحافظ.
البريكاريا هذه الطبقة الغاضبة التي لا تجد خبز يومها، قد تأكل كعكة النيوليبراليّة وتطلق نظاماً عالمياً رحيماً بالبشر. فهل بدأت ثورة فرنسيّة جديدة؟


مقالات ذات صلة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

ثقافة وفنون أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية

سحر عبد الله
يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان

«كتاب وخنجر»: أكاديميون في سلك الجاسوسية

أليس
أليس
TT

«كتاب وخنجر»: أكاديميون في سلك الجاسوسية

أليس
أليس

يطيح «كتاب وخنجر: هكذا أصبح الأكاديميون وأمناء المكتبات الجواسيس غير المتوقعين في الحرب العالمية الثانية» للباحثة الأميركية إليز غراهام بالنموذج التقليدي الذي غلب على أذهان الجمهور حول شخصيّة الجاسوس عميل الاستخبارات، والتي تكرّست عبر مئات الروايات والأفلام السينمائيّة والمسلسلات التلفزيونيّة على مثال «جيمس بوند» - بطل روايات الكاتب البريطاني إيان فلمنغ - فيقدّم من خلال سيرة أربع من عملاء مكتب الخدمات الاستراتيجية (OSS) - كان نواة تأسيس وكالة الاستخبارات الأميركيّة لاحقاً - الذين لم يأتوا من خلفيات أمنية أو عسكريّة، ولا حتى من أقسام الفيزياء والتكنولوجيا بالجامعات الأميركية والبريطانية المرموقة - كما كان الحال في مشروع مانهاتن لإنتاج القنبلة النووية، بل من أقسام الأكاديمية النظريّة في الأنثروبولوجيا والتاريخ واللغات، فكأنما تضع «أقل الناس لمعاناً في العالم، في المهنة الأكثر بريقاً في العالم»، على حد تعبير المؤلفة.

تعود بدايات هذه العلاقة غير المتوقعة بين العلوم النظريّة ووكالات الجاسوسية إلى أيّام الحرب العالميّة الثانية، التي دخلتها الولايات المتحدة دون جهاز استخبارات مدني كما كان الحال في بعض أمم أوروبا - تأسس جهاز الاستخبارات البريطاني في عام 1909 – إذ اعتمدت دائماً لجمع المعلومات الاستراتيجية والحساسة من العالم على جهاز الاستخبارات العسكرية التابع للجيش الأميركي.

على أن الحاجة إلى نهج جديد يوسع دائرة جمع المعلومات لما وراء الإطار العسكري بدت ماسة بعد اندلاع الحرب على البر الأوروبي في 1939 مع غزو ألمانيا لبولندا، فعمد الرئيس فرانكلين روزفلت إلى تكليف المحامي البارز ويليام دونوفان بتأسيس ما سمي وقتها بمكتب الخدمات الاستراتيجية الذي استمر في نشاطه عامين بعد انتهاء الحرب عام 1945 ليخلفه في مهماته وكالة الاستخبارات المركزية من 1947 والتي تعد اليوم أقوى أجهزة الاستخبارات في العالم على الإطلاق.

غلاف الكتاب

وتقول غراهام إنّ تصور دونوفان عن جهاز مدني للاستخبارات تمحور حول بناء منظومة لجمع كميات هائلة من البيانات وتحليلها للوصول إلى استنتاجات ذات فائدة، مما يحتاج إلى مهارات احترافيّة في التعامل مع المعلومات والأرشيف إلى جانب أساسيات العمل الميداني، ولذلك استقصد البحث عن مهنيين متخصصين من عالم الأكاديميا والسعي لتجنيدهم كعملاء.

كان أساتذة الجامعات وأمناء المكتبات وخبراء الأرشيف منجماً غنياً للمواهب التي يمكن أن تلعب دور الجاسوس المفترض ببراعة: أذكياء ويمكنهم التعلّم بسرعة، يحسنون التعامل مع المعلومات، ومعتادون على العمل المضني، ويتسمون عادة بالتحفظ في سلوكياتهم، مما يسهل ذوبانهم في الأجواء من حولهم دون لفت الانتباه، ومنهم بنى دونوفان أول شبكة تجسس أميركيّة محترفة في الفضاء المدنيّ.

تتبع غراهام في «كتاب وخنجر» دونوفان بينما يتصيد هذه المواهب في أروقة الكليّات النظريّة للجامعات الأميركيّة، وتضئ على قصص أربع منهم ممن تم تجنيدهم بأسلوب أدبي رفيع يمزج بين حقائق التاريخ ورومانسيّة الدراما، لتكون الولادة الأولى للجهد الاستخباراتي الأميركي في أجواء من الرّفوف المديدة من الكتب ورائحة الورق، وصناديق الوثائق والبحث عن معلومة في كومة من البيانات بعيداً عن الأنظار بدلاً من الصورة التلفزيونية لمطاردات العميل رقم 007 بالسيارات الرياضيّة الفارهة، والقفز من الطائرات، وترك المغلّفات للعملاء في نقاط الالتقاط. وبالنسبة للمؤلفة فإن كتابها بمثابة تذكّر لهؤلاء الكوادر الذين ساعدوا الولايات المتحدة على كسب الحرب، وتالياً مد مظلّة الهيمنة الأميركيّة على العالم لعقود.

الشخصيّات الأربعة التي اختارتها غراهام لسرد هذه المرحلة كانوا لدى تجنيدهم قد سلكوا في حياتهم خطوطاً مهنيّة أكاديمية في عدد من جامعات النخبة عندما تحدث إليهم موظفون فيدراليون لطلب مساعدتهم في المجهود الحربيّ. جوزيف كيرتس كان يدرّس اللغة الإنجليزية في جامعة ييل، وأديل كيبري أستاذة تاريخ العصور الوسطى في جامعة شيكاغو والخبيرة بعبور الأرشيفات وأقسام المحفوظات، وكارلتون كون أستاذ الأنثروبولوجيا في جامعة هارفارد، وأيضاً شيرمان كينت الباحث الملحق بقسم التاريخ في جامعة ييل.

تلقى المجندون الأكاديميون الجدد تدريبات مكثّفة على أساليب الخداع، ومراوغة المطاردين وطرائق التشفير وأساسيات القتال الفردي، ويبدو أنهم لم يجدوا صعوبة في التقاط هذه المهارات الجديدة، لكن الجزء الأصعب كما لاحظ مدربوهم كان تعليمهم نسيان خلفيّة اللياقة والتهذيب التي قد تمنعهم من ضرب الخصم تحت الحزام أو استغلال نقاط ضعفه.

أرسل بعدها كيرتس وكيبري تحت غطاء مهمّة أكاديمية لشراء الكتب من دور النشر المحليّة. كيرتس إلى إسطنبول - التي كانت تمور بالجواسيس من كل الدّول - وكيبري إلى استوكهولم - للبحث في مكتبات دولة محايدة عن مواد ألمانية قد تكون ممنوعة من التوزيع في مناطق أخرى من أوروبا: مثل الصحف والمجلات، والصّور، والخرائط.

أكوام المواد الأوليّة التي جمعتها كيبري كانت بحاجة إلى تنظيم وتحليل، وتلك كانت مهمة أوكلت لكينيث، الذي قاد فريقاً من المحللين تولى مثلاً تحديد مواقع المطارات ونقاط توزيع الكهرباء ومحطات السكك الحديدية ومكاتب التلغراف على امتداد الأراضي الفرنسيّة للعمل على منع قوات الاحتلال النازي من الانتفاع بها، وفي الوقت ذاته تحديد مبانٍ ومساحات قد يتسنى للحلفاء الاستفادة منها عند الحاجة لإنشاء مستشفيات ميدانيّة ونقاط ارتكاز.

وتقول غراهام إن فريق كينت نجح مستفيداً من الخرائط السياحيّة وأدلة الأعمال التي أرسلتها كيبري في تحديد مواقع معامل تنتج مكونات أساسيّة لصناعة أسلحة المحور والتي استهدفها الحلفاء بالتخريب بشكل ممنهج. أما كون فيبدو أنّه لم يكن مفيداً كثيراً خلال فترة الحرب، وكانت أفضل فكرة له كما تقول غراهام هي إخفاء العبوات الناسفة في أكوام الفضلات التي تتركها البغال على جوانب الطرق.

عاد هؤلاء الأكاديميون إلى جامعاتهم بعدما وضعت الحرب أوزارها: كيرتس استعاد وظيفته أستاذاً في جامعة ييل، واستأنفت كيبري عملها في عبور المجموعات الأرشيفية المغلقة التي تحتفظ بها الحكومات ومراكز البحث وجهات ذات حيثية مثل الفاتيكان. أما كينت فلم يعد يجد نفسه في عالم الأكاديميا، فالتحق بعد عدّة سنوات بوكالة الاستخبارات المركزية وأسس مجلتها البحثية الداخلية، «دراسات في الاستخبارات»، فيما تورط كون في نشر نظريات أنثروبولوجيّة ذات نفس عنصري ما لبثت أن فقدت قيمتها العلميّة خلال الخمسينيات فخسر سمعته وانتهى إلى الإهمال.

وتقول غراهام إن هذه البدايات المشجعة للتقاطع بين عالمي الكتاب والخنجر جعلت من مجموعة جامعات النخبة الأميركيّة - التي تسمى برابطة اللبلاب - بمثابة مزارع مفتوحة لاستقطاب المواهب المميزة إلى العمل الاستخباراتي، وهو الأمر الذي لا أحد ينكر أنه مستمر إلى الآن.