سنوات الجوع والخوف في الحجاز والشام.. ورحلة «البابور»

ذكريات الحرب العالمية الأولى في ثلاثية لأديب سعودي

غلاف كتاب «حياتي بين الجوع والحب والحرب»
غلاف كتاب «حياتي بين الجوع والحب والحرب»
TT

سنوات الجوع والخوف في الحجاز والشام.. ورحلة «البابور»

غلاف كتاب «حياتي بين الجوع والحب والحرب»
غلاف كتاب «حياتي بين الجوع والحب والحرب»

بعد 14 عاما من انتهاء الحرب العالمية الأولى، أي في 23 سبتمبر (أيلول) 1932، أعلن عن قيام المملكة العربية السعودية، لكن بعض الأراضي التي توحدت في ما بعد تحت العلم السعودي كانت مسرحا لصراعات مسلحة متصلة أساسا بالحرب العالمية الأولى، مثل «الثورة العربية الكبرى» التي دعمها الحلفاء خاصة بريطانيا.
ففي ظل الحرب الكونية الأولى، أطلق الشريف حسين في يونيو (حزيران) 1916 الثورة العربية، بدعم لوجيستي من البريطانيين، وهدفت لإسقاط الحكم العثماني في مناطق نفوذ السلطنة العثمانية وأهمها الحجاز، التي تضم المدينة المنورة ومكة المكرمة والمنطقة الممتدة بينهما. وما إن وضعت الحرب أوزارها حتى كانت مناطق الحجاز ضمن الحصة التي خسرتها السلطة العثمانية. ففي نهاية سبتمبر 1918 انسحب العثمانيون من دمشق، وقبلوا التنازل عن أملاكهم في مصر، ونجد، والحجاز، وسوريا، والعراق، وكيليكيا. وبخروج العثمانيين، دخلت الحجاز تحت الحكم الهاشمي. وكانت الحرب العالمية الأولى قد أعلن عن نهايتها في 11 نوفمبر (تشرين الثاني) 1918.
لذلك فإن الأعمال الأدبية السعودية التي تناولت فترة الحرب العالمية الأولى كانت قليلة للغاية. لكنّ مؤلفا نادرا عن سيرة هذه الحرب صوّر آثارها على النسيج الاجتماعي والاقتصادي للدول العربية خاصة الحجاز وتأثيراتها المدمرة، واعتبر أهم (إن لم يكن الوحيد) الذي وصف الحرب وآثارها، وهو كتاب «حياتي مع الجوع والحب والحرب»، وهو كتاب كبير يتكون من جزءين، للأديب عزيز ضياء (1914 - 1997). ويمثل هذا الكتاب السيرة الذاتية للأديب السعودي الراحل، وهي تغطي مرحلة مهمة من تاريخ الجزيرة العربية وتداعيات الحرب العالمية الأولى على المدينة المنورة وما رافقها من ثورة العرب في الحجاز على الحكم التركي.

* سيرة عزيز ضياء
ولد عزيز ضياء، واسمه عبد العزيز ضياء الدين زاهد مراد، في المدينة المنورة في 22 يناير (كانون الثاني) 1914، وهو العام الذي شهد اندلاع الحرب العالمية الأولى. وفقد أباه في سن مبكرة إذ سافر والده إلى روسيا بغرض جمع الأموال لتأسيس الجامعة الإسلامية بينما كان عزيز في الثالثة من عمره، لكنه لم يعد أبدا. والمرجح أنه قتل أثناء تلك الرحلة.
عانى عزيز ضياء وهو طفل صفير من ويلات الحرب، مثلما عانى السكان في المدينة المنورة وعموم الحجاز خلال الثورة العربية الكبرى، وحصار الجيش الهاشمي مكة والمدينة، مما اضطر أسرته للنزوح إلى سوريا عبر قطار الحجاز. مما أتاح لعزيز ضياء أن ينقل في مؤلفه الشهير «حياتي مع الجوع والحب والحرب»، ظروف الحياة الصعبة في المدينة المنورة، وفي مناطق متعددة من الشام.
وألقت فجائع الحرب على كاهله أحمالها، ففقد في رحلته في الشام جده لأمه، الشيخ أحمد صفا شيخ حجاج القازاق، وقبله خالته خديجة، وشقيقه عبد الغفور، وابن خالته عبد المعين الذي مات هو الآخر دون أن يرى أباه، أما هو فقد أصيب بمرض.. وعاد إلى المدينة بعد خروج الأتراك برفقة والدته فقط.
وكانت سيرة عزيز ضياء في ما بعد حافلة بالعطاء، فقد أصبح أديبا وكاتبا ومذيعا ومترجما، وأسهم في العديد من البرامج الإذاعية والدرامية كما ترجم خلال إقامته في بيروت أكثر من 30 عملا روائيا ومسرحيا عالميا لنخبة من الأدباء أمثال: طاغور، أوسكار وايلد، سومرست موم، تولستوي، جورج أورويل، وبرنارد شو. وأسهم مع محمد حسن عواد في تأسيس نادي جدة الأدبي.

* شبح الحرب: اليتم والتشرد
تمثل الثلاثية التي ضمنها عزيز ضياء في مؤلفه «حياتي مع الجوع والحب والحرب» أهمية بالغة بالنسبة لأحداث الحرب وحصار المدينة وتهجير أهلها، ثم المجاعة التي حلت أطنابها هناك، وظروف الحرب في مناطق الشام المختلفة.
كتب عزيز ضياء عن الخوف والجوع وانعدام الأمن والتشرد وأجواء الحرب، كأنه يصورها لقرائه، على الرغم من أنه عاصرها صغيرا لكنها غرست مخالبها في ذاكرته الصغيرة.
عن طفولته في ظل الحرب يكتب قائلا «إنك لا تدري مثلا أني قضيت طفولة فتحت عينيها على مآسي الحرب العالمية الأولى، فعرفت الكثير الذي لن يتاح لأحد أن يعرفه إلا إذا عاش تلك الفترة من تاريخ البشر. عرفت الرعب الذي لا يملأ القلب فحسب، وإنما يملأ الأحلام سنين طويلة من العمر.

* نكبة الجوع
وعن الجوع كذلك يقول «عرفت الجوع.. الجوع الذي يمزق الأمعاء، الجوع الذي جعل وجبة الخبز الأسود أشهى وألذ وجبة تذوقتها حتى اليوم.. الجوع الذي كبرت فقرأت عنه قصصا وأساطير راعني أنني عشتها حقائق.. الجوع الذي يجعل المرء حين يمشي في الشارع أو الزقاق لا ينظر إلى ما حوله أو أمامه وإنما ينظر إلى الأرض وحدها. حيث يتحرى العثور على كسرة خبز أو حبة فاكهة أو عظمة فلا كذلك يصور ظروف الحرب في المدينة المنورة قائلا «ثم الحرب مرة أخرى.. والجوع مرة أخرى.. والليل الرهيب، تهتز فيه أركان المنزل، كلما أطلقت قلعة سلع في المدينة مدافعها، في اتجاه العوالي وقبا، وعواصف الذعر والهلع كلما قيل إنهم يهجمون، وإنهم يتقدمون، وإنهم قد يدخلون..» (ج1، ص 13).
برز في تلك الفترة مصطلح «سفر برلك» وهو تعبير رمزي عن تهجير عشرات العائلات من المدينة المنورة عبر «البابور» العثماني، أي قطار سكة الحجاز نحو الشام، إبان حكم فخري باشا الوالي العثماني الذي أمر بإخلاء المدينة المقدسة للتفرغ لمواجهة قوات الشريف حسين.

* رحلة «البابور»
وتحت عنوان «رحلتنا بـ(البابور) من المدينة إلى دمشق» يصف أجواء دمشق في وقت الحرب «وأذكر في ما أذكره عن سوق الحميدية في دمشق التي اشترى منها جدي تلك الملابس والأحذية أنها سوق طويلة جدا والدكاكين على جانبيها، والناس يتزاحمون فيها إلى حد يصعب فيه المشي ويدي في يد جدي» (ج1، ص 24).
وأما أجواء الحرب في الشام فيصفها قائلا «وانطلقت العربة بنا في طريق طويل، والمطر لا يزال ينهمر، والناس يتراكضون تحت زخاته إلى الأرصفة، على الجانبين، ويتجمعون تحت مظلات الدكاكين، وظللت أنا وادعا على صدر جدي، وقد أغراني الدفء بأن أهجع وأنا أرامق الطريق بعينين يراودهما النعاس، لكني وجدت نفسي أفتحهما، متنبها وأنا أرى صفوفا من الجند تسير، وعلى أكتافهم هذه الأشياء التي عرفت في ما بعد أنها البنادق، يطلقون منها قذائف تخترق أجساد الناس فتقتلهم كما عرفت أن لانطلاق هذه القذائف من البنادق أصواتا مفزعة يسمعها الناس فيعرفون أن الحرب لا تزال تدور، وفي الحرب يموت هؤلاء الجنود، كما يموت أولئك الذين يطلقون عليهم القذائف القاتلة من بعيد» (ج1، ص 25). كما يتحدث عزيز ضياء في هذا الكتاب عن الأساطير التي صاحبت أداء القوات التركية في المدينة المنورة قبل هزيمتها، يقول «وما أكثر القصص التي تصل إلى مستوى الأساطير عن بطولة فخري باشا وقواته في الدفاع عن المدينة المنورة وفي الصمود».. ثم يقول «لقد جاع أهل المدينة الذين هجرهم فخري إلى سوريا.. جاعوا بل ومات الكثيرون منهم جوعا.. لكن قوات فخري نفسها جاعت في النهاية أيضا.. ذلك الجوع الذي جعلهم يأكلون لحوم الخيل والبغال والحمير التي تنفق من الجوع.. بل ويأكلون لحوم القطط والكلاب.. ولا أستبعد صحة أخبار قالت إن بعض الجياع قد أكلوا لحوم أطفالهم» (ج1، ص 163).
وفي مورد آخر «مع أن المؤرخين لا يقفون طويلا عند إصرار القوات التركية في المدينة المنورة على الصمود، بقيادة فخري باشا، والاستمرار في المقاومة، ورفض الاستسلام للقوات العربية التي ظلت تحاصر المدينة منذ بداية الانتفاض على الأتراك في مكة وحتى يوم العاشر من يناير (كانون الثاني) عام 1919 (أي بعد الهدنة في عام 1918).. أو بعد أن بلغت الخلافة والسلطنة في استامبول (إسطنبول) مرحلة النزع الأخيرة، والكثيرون من أهل المدينة نفسها الذين هجَّرهم فخري إلى سوريا بالقطار والذين واجهوا في دمشق وحماه وحلب أشد أهوال الجوع والأوبئة التي حصدت أرواح المئات، في الأزقة والطرقات وأرصفة الشوارع.. فإن الكثيرين يفسرون إصرار فخري على عدم التسليم حتى بعد أن بلغته أخبار الهدنة وقرب سقوط الخلافة بأنه مجرد عناد وكبرياء واعتزاز بالنفس» (ج1، ص 162).



شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور
TT

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

لم تكن بلدة الخيام، الواقعة على التخوم الشرقية للجنوب اللبناني، مجرد تفصيل هامشي في خارطة جبل عامل، وتاريخه المحكوم بالقلق العاصف وصراعات الدول والمصالح، بل كانت ولا تزال واسطة عقد القرى المحيطة بها، بقدر ما كان لها النصيب الأوفر من كل حرب تقع، أو سلام يتحقق، أو ربيع ينشر ملاءات جماله على الملأ. والأرجح أن الأهمية التي اكتسبتها البلدة عبر الزمن، تتراوح أسبابها بين سحر موقعها الجغرافي، وعراقة تاريخها الحافل بالأحداث، وتعدد القامات الأدبية والشعرية التي أنجبتها البلدة عبر القرون.

ولعل في تسمية الخيام أيضاً، ما يعيد إلى الأذهان منازل العرب الأقدمين، والمساكن التي كانت تقيمها على عجل جيوش الفتوحات، والخيم المؤقتة التي كان الجنوبيون ينصبونها في مواسم الصيف، عند أطراف كروم التين، بهدف تجفيف ثمارها الشهية وادّخارها مؤونة للشتاء البخيل. وإذا كان الدليل على ذلك حاضراً في ذاكرة سهل الخيام المترعة بآلاف الأشجار والنصوب والكروم، فإن الشعر بدوره كان جاهزاً للتحول إلى مدونة كبرى لذلك العالم الزراعي، الذي كادت تطيح به عشوائيات عمرانية مرتجلة وبالغة الفظاظة.

ورغم أن جغرافيا البلدة التي تشبه ظهر الفرس، بهضبتها الطويلة المطلة على الجولان والجليل وجبل حرمون، هي التي أسهمت في تحولها إلى واحدة من أكبر بلدات جبل عامل، فإن هذه الجغرافيا بالذات قد شكلت نعمة الخيام ونقمتها في آن، وهي المتربعة عند المفترقات الأكثر خطورة لخرائط الدول والكيانات السياسية المتناحرة. وفي ظل التصحر المطرد الذي يضرب الكثير من الدول والكيانات المجاورة، تنعم البلدة ومحيطها بالكثير من الينابيع، ومجاري المياه المتحدرة من أحشاء حرمون لتوزع هباتها بالتساوي بين ربوع إبل السقي، التي أخذت اسمها من سقاية الماء، والخيام التي يتفجر عند سفحها الغربي نبع الدردارة، ومرجعيون، أو مرج العيون، التي ترفدها في أزمنة الجدب والقبح بئر من الجمال لا ينضب معينه.

وإذا كانت الشاعريات والسرديات والفنون العظيمة هي ابنة المياه العظيمة، كما يذهب بعض النقاد والباحثين، فإن هذه المقولة تجد مصداقيتها المؤكدة من خلال البلدات الثلاث المتجاورة. إذ ليس من قبيل الصدفة أن تنجب إبل السقي قاصاً متميزاً من طراز سلام الراسي، وتنجب مرجعيون قامات من وزن فؤاد وجورج جرداق وعصام محفوظ ومايكل دبغي ووليد غلمية وإلياس لحود، فيما أنجبت الخيام سلسلة الشعراء المتميزين الذين لم تبدأ حلقاتها الأولى بعبد الحسين صادق وعبد الحسين عبد الله وحبيب صادق وسكنة العبد الله، ولم تنته حلقاتها الأخيرة مع حسن ومحمد وعصام العبد الله وكثيرين غيرهم.

ومع أن شعراء الخيام قد تغذوا من منابت الجمال ذاتها، ولفحهم النسيم إياه بمهبه الرقراق، فإن الثمار التي جنتها مخيلاتهم من حقول المجاز لم تكن من صنف واحد، بل كانت لكل منهم طريقته الخاصة في مقاربة اللغة والشكل والرؤية إلى الأشياء. فحيث جهد عبد الحسين عبد الله، في النصف الأول من القرن المنصرم، في تطعيم القصيدة التقليدية بلمسة خاصة من الطرافة والسخرية المحببة، حرص حبيب صادق على المزاوجة بين المنجز الشعري الحداثي وبين النمط العمودي الخليلي، مع جنوح إلى المحافظة والالتزام بقضايا الإنسان، أملته شخصية الشاعر الرصينة من جهة، وانتماؤه الفكري والسياسي الذي دفعه من جهة أخرى إلى الانصراف عن الكتابة، وتأسيس «المجلس الثقافي للبنان الجنوبي» الذي شكل الحاضنة الأكثر حدباً لكوكبة الشعراء الذين عرفوا في وقت لاحق بشعراء الجنوب اللبناني.

حبيب صادق

لكن الكتابة عن الخيام وشعرائها ومبدعيها يصعب أن تستقيم، دون الوقوف ملياً عند المثلث الإبداعي الذي يتقاسم أطرافه كلُّ من عصام ومحمد وحسن العبد الله. اللافت أن هؤلاء الشعراء الثلاثة لم تجمعهم روابط القرابة والصداقة وحدها، بل جمعهم في الآن ذاته موهبتهم المتوقدة وذكاؤهم اللماح وتعلقهم المفرط بالحياة.

على أن ذلك لم يحل دون مقاربتهم للكتابة من زوايا متغايرة وواضحة التباين. فعصام الذي ولد وعاش في بيروت ودُفن في تربتها بعد رحيله، والذي نظم باللغة الفصحى العديد من قصائده الموزونة، سرعان ما وجد ضالته التعبيرية في القصيدة المحكية، بحيث بدت تجربته مزيجاً متفاوت المقادير من هذه وتلك.

إلا أن الهوى المديني لصاحب «سطر النمل» الذي حوّل مقاهي بيروت إلى مجالس يومية للفكاهة والمنادمة الأليفة، لم يمنعه من النظر إلى العاصمة اللبنانية بوصفها مجمعات ريفية متراصفة، ومدينة متعذرة التحقق. وهو ما يعكسه قوله باللهجة المحكية «ما في مْدينة اسمْها بيروت بيروتْ عنقود الضّيّع». كما أن حنينه الدفين إلى الريف الجنوبي، والخيام في صميمه، ما يلبث أن يظهر بجلاء في قصيدته «جبل عامل» ذات الطابع الحكائي والمشهدية اللافتة، التي يقول في مطلعها: «كان في جبلْ إسمو جبلْ عاملْ راجعْ عبَيتو مْنِ الشغلْ تعبانْ وْكانِ الوقتْ قبل العصرْ بِشْوَيْ بكّيرْ تيصلّي تْمدّدْ عَكرْسي إسمها الخيامْ كتْفو الشمال ارتاح عالجولانْ كتْفو اليمين ارتاحْ عا نيسانْ».

حسن عبد الله

ومع أن الخيام، كمكان بعينه، لا تظهر كثيراً في أعمال محمد العبد الله الشعرية، فهي تظهر بالمقابل خلفية طيفية للكثير من كتاباته، سواء تلك المترعة بعشق الطبيعة وأشجارها وكائناتها، كما في قصيدته «حال الحور»، أو التي تعكس افتتانه بوطن الأرز، الذي لا يكف عن اختراع قياماته كلما أنهكته الحروب المتعاقبة، كما في قصيدته «أغنية» التي يقول فيها:

من الموج للثلج نأتيك يا وطن الساعة الآتية

إننا ننهض الآن من موتك الأوّليّ

لنطلع في شمسك الرائعة

نعانق هذا التراب الذي يشتعلْ

ونسقيه بالدمع والدم يمشي بنسغ الشجرْ

أما حسن عبد الله، الذي آثر حذف أل التعريف من اسمه العائلي، فقد عمل جاهداً على أن يستعيد من خلال شعره، كل تلك الأماكن التي غذت ببريقها البرعمي حواسه الخمس، قبل أن تتضافر في إبعاده عنها إقامته الطويلة في بيروت، والحروب الضروس التي نشبت غير مرة فوق مسقط رأسه بالذات، وحولت عالمه الفردوسي إلى ركام. ورغم أن نتاجه الشعري اقتصر على مجموعات خمس، فقد تمكن حسن أن يجعل من البساطة طريقته الماكرة في الكتابة، وأن يحمل أكثر الصور غرابة وعمقاً، على الكشف عن كنوزها بسلاسة مدهشة أمام القارئ.

وإذ أفاد صاحب «أذكر أنني أحببت» و«راعي الضباب» من فن الرسم الذي امتلك ناصيته بالموهبة المجردة، فقد بدت قصائده بمعظمها أشبه بلوحات متفاوتة الأحجام منتزعة من تربة الخيام وأشجارها وعسل فاكهتها الأم، ومياهها الغائرة في الأعماق. وكما استطاع بدر شاكر السياب أن يحوّل جدول بويب النحيل إلى نهر أسطوري غزير التدفق، فقد نجح حسن عبد الله من جهته في تحويل نبع «الدردارة»، الواقع عند الخاصرة الغربية لبلدته الخيام، إلى بحيرة مترامية الأطراف ومترعة بسحر التخيلات.

وإذا كانت المشيئة الإلهية لم تقدّر لشعراء الخيام أن يعيشوا طويلاً، فإن في شعرهم المشبع بروائح الأرض ونسغها الفولاذي، ما لا يقوى عليه فولاذ المجنزرات الإسرائيلية المحيطة ببلدتهم من كل جانب. وكما يواجه الجنوبيون العدو بما يملكون من العتاد والأجساد، واجهه الشعراء بالقصائد وشواهد القبور ونظرات الغضب المدفونة في الأرض. ومن التخوم القصية لبراري الفقدان، راح حسن عبد الله يهتف ببلدته المثخنة بحراب الأعداء:

تأتي الطائرات وتقصف الصفصاف،

تأتي الطائراتُ ويثْبتُ الولد اليتيمُ

وطابتي في الجوّ والرمان في صُرَر الغيوم،

وتثبتينَ كراية التنّين،

إني مائلٌ شرقاً

وقد أخذ الجنوب يصير مقبرةً بعيدة.