الغوص في عالم السرد

الغوص في عالم السرد
TT

الغوص في عالم السرد

الغوص في عالم السرد

في سياق اشتغالي على كتاب جديد خلال عام 2018 عن صنعة السرد، بعنوان «أعراف الكتابة السردية» غصت مجدّداً في عيون السرد العالمي، بعد أن كبحت رغبتي الجامحة في ذلك مدة طويلة، لاشتغالي بـ«موسوعة السرد العربي» بأجزائها التسعة، وهي بمجملها عن السرد العربي، وما إن فرغت منها حتى استعدت شغفي القديم بعيون السرد، وهو شغف رافقني منذ الصِّبا، وقد وفرّ لي عام 2018 والعام الذي سبقه، الفرصة الاستعادية للغوص مجدداً في ذلك، ليس للاستمتاع بفرائد الروايات، فحسب، إنما لاشتقاق أعراف الكتابة السردية من الأصول الكبرى في آداب العالم غرباً وشرقاً، فعدتُ لرابليه، وثربانتس، ودوستويفسكي، وتولستوي، وبلزاك، وستندال، وفلوبير، وملفيل، وجويس، وكافكا، وكونراد، ومحفوظ، وماركيز، وباموك، وتسفايج، وهاشيك ياروسلاف، وميشيما. وبين رواية وأخرى أتأمل في كتب النقد، وبخاصة باختين، وفراي، وأوروباخ، وهايدن، وإيكو، وإدوارد سعيد، ولم أهمل كتب المذكرات والسير الذاتية، فكان العام حافلاً في إعادة اكتشاف كبار الروائيين كالذين ذكرت بعضهم، أو في الإبحار في عوالم جديدة لم تتوفر لديّ الفرصة من قبل للتعمّق فيها، منها الأعمال الجديدة لأليف شفق، وكارلوس زافون، ولطفيّة الدليمي، وإيزابيل الليندي.
وفي ضوء تفرّغي للبحث، امتلأ الطرف الأكبر من نهاري وليلي بالكتابة والقراءة، وهما خير رفيق للحوار والمؤانسة في هذا الوقت العصيب، على الرغم من أنني أقرأ في الغالب ضمن الإطار العام لعملي النقدي والفكري.
وآخر ما راق لي من كتب خلال هذه السنة، رحلة السوري الحلبي، حنّا دياب، إلى بلاط الملك لويس الرابع عشر، في مطلع القرن الثامن عشر، وهي رحلة شائقة مكتوبة بالعامية الشامية التي كانت سائدة آنذاك، واستغرقت نحو خمس سنوات، بدأها دياب من حلب برفقة الرحالة الفرنسي بول لوكا، الذي طاف في بلاد الشرق بأمر ملكي لجمع اللقى الأثرية، والعملات القديمة، والأعشاب النادرة، فخرج معه بوعد أن يتولّى الإشراف على القسم العربي في إحدى مكتبات باريس. وبعد رحلة في أطراف بلاد الشام، اتجها إلى مصر سوياً، ثم ليبيا، فتونس، والجزائر، ومنها إلى إيطاليا، ثم فرنسا، وعاد دياب في البحر المتوسط إلى تركيا، ثم سوريا.
وجدت في هذه الرحلة تعبيراً عجيباً عن النفس وعن العالم بلغة ليست بعامية ولا بفصيحة؛ لكنها سلسة، ومباشرة، ودافئة، وفيها صراحة لا نكاد نعثر عليها في مثل هذا النوع من الكتابة. علماً بأن دياب كان يجيد كثيراً من اللغات الحيّة. ومعلوم أنه كان مصدراً لأنطوان غالان في تزويده بحكايات رواها له في باريس، فأدخلها في متن كتاب «ألف ليلة وليلة»، وأصبحت جزءاً منه، ولم تكن كذلك، وقد اعترف غالان في يومياته الملحقة برحلة دياب، بأنه دوّنها عنه.
لقد جرى الاهتمام كثيراً من قبل بكتاب الطهطاوي «تخليص الإبريز في تلخيص باريس» الذي صدر في عام 1834، عن تجربته مرافقاً لإحدى البعثات المصرية التي أرسلها محمد علي في عام 1824. ولكن وقع إهمال شنيع لكتاب حنّا دياب، عن رحلة قام بها بين عامي 1706 و1710، وفيها استعاد تجارب مثيرة للاهتمام، ففضلاً عن توثيق أحوال البلاد التي مرّ بها بعين من يعيش بين أهلها، ويتقن لغاتها، فقد تيسر له قضاء أكثر من أسبوع في القصر الإمبراطوري الفرنسي في فرساي، قابل خلاله لويس الرابع عشر، وخالط عائلته، وبطانته، وكان يتجول في القصر من غير رقابة بزيّه المشرقي، ووصف الحدائق الغنّاء المحيطة بالقصر. وحينما عاد إلى باريس برفقة بول لوكا، قابل غالان، وروى له حكايات شعبية وخرافية، أخذت مكانها باعتبارها من أصول كتاب «ألف ليلة وليلة»، وتحدّث مطولاً عن باريس، وزار دار الأوبرا، وشهد عرضاً أوبرالياً فيها، وقدم عنه شرحاً وافياً لا يتيسر إلا لمن فهمه كامل الفهم، ثم وصف الكنائس، والمحاكم، والمعمار، والعادات في القصور والأحياء الشعبية، بطريقة فيها كثير من الصدق الذي تجنّب فيه التفاصح الملاحظ في كتاب الطهطاوي. أما حنّا دياب، وهو غير متعلّم إلا بالحدود الدنيا، فقد مخر أزقة باريس، وحضر الصلوات، ووقف مع الجمهور الفرنسي يرى عقاب المجرمين في الساحات العامة، وتكاد رحلة عودته إلى حلب تضاهي رحلة ذهابه إلى باريس، وبخاصة بعد أن وصل إلى أزمير، ثم عاد إلى إسطنبول، قبل أن يقطع هضبة الأناضول باتجاه سوريا. وقد تنكّر في شخصية طبيب، وأفلح في معالجة بعض المرضى، وفي كل ذلك ترك وصفاً خلاباً للعادات والتقاليد حيثما كان.
أتمنى على المعنيين بالدراسات الثقافية، وأدب الرحلات، وبالعلاقات الثقافية بين العالم العربي وأوروبا، أن ينبشوا في طيّات هذا الكتاب الصادق، من أجل تعديل كثير من المسلّمات الشائعة، ومنها الدينية والعرقية، فقد سبق حنّا دياب غيره في الوقوف عليها، وأثارت استغرابه، فالماروني الحلبي البسيط لاحظ ما تعذّر على كثيرين ملاحظته، وهو يخترق جزءاً كبيراً من العالم العربي باتجاه أوروبا التي كانت قد بدأت لتوها تشهد معالم الحداثة والتمدّن، وكان ولوعاً بالمقارنة بين العالمين، ليستخرج العبر المفيدة من ذلك.
- ناقد عراقي


مقالات ذات صلة

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان
خاص الكاتب الغزي محمود عساف الذي اضطر إلى بيع مكتبته لأحد الأفران (حسابه على «فيسبوك»)

خاص غزة تحرق الكتب للخبز والدفء

يعاني سكان قطاع غزة، خصوصاً في شماله، من انعدام تام لغاز الطهي، الذي يُسمح لكميات محدودة منه فقط بدخول مناطق جنوب القطاع.

«الشرق الأوسط» (غزة)

قضية ابنة شيرين عبد الوهاب تجدد الحديث عن «الابتزاز الإلكتروني»

شيرين وابنتها هنا (إكس)
شيرين وابنتها هنا (إكس)
TT

قضية ابنة شيرين عبد الوهاب تجدد الحديث عن «الابتزاز الإلكتروني»

شيرين وابنتها هنا (إكس)
شيرين وابنتها هنا (إكس)

جدد الحكم القضائي الصادر في مصر ضد شاب بتهمة ابتزاز وتهديد الطفلة «هنا»، ابنة الفنانة المصرية شيرين عبد الوهاب، الحديث عن «الابتزاز الإلكتروني» عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وسبب انتشاره بكثافة، ومدى المخاطر التي يحملها، لا سيما ضد المراهقات.

وقضت محكمة جنايات المنصورة بالحبس المشدد 3 سنوات على المتهم، وهو طالب بكلية الهندسة، بعد ثبوت إدانته في ممارسة الابتزاز ضد ابنة شيرين، إثر نجاحه في الحصول على صور ومقاطع فيديو وتهديده لها بنشرها عبر موقع «تيك توك»، إذا لم تدفع له مبالغ مالية كبيرة.

وتصدرت الأزمة اهتمام مواقع «السوشيال ميديا»، وتصدر اسم شيرين «الترند» على «إكس» و«غوغل» في مصر، الجمعة، وأبرزت المواقع عدة عوامل جعلت القضية مصدر اهتمام ومؤشر خطر، أبرزها حداثة سن الضحية «هنا»، فهي لم تتجاوز 12 عاماً، فضلاً عن تفكيرها في الانتحار، وهو ما يظهر فداحة الأثر النفسي المدمر على ضحايا الابتزاز حين يجدون أنفسهم معرضين للفضيحة، ولا يمتلكون الخبرة الكافية في التعامل مع الموقف.

وعدّ الناقد الفني، طارق الشناوي، رد فعل الفنانة شيرين عبد الوهاب حين أصرت على مقاضاة المتهم باستهداف ابنتها بمثابة «موقف رائع تستحق التحية عليه؛ لأنه اتسم بالقوة وعدم الخوف مما يسمى نظرة المجتمع أو كلام الناس، وهو ما يعتمد عليه الجناة في مثل تلك الجرائم».

مشيراً لـ«الشرق الأوسط» إلى أن «أبناء المشاهير يدفعون أحياناً ثمن شهرة ومواقف ذويهم، مثلما حدث مع الفنانة منى زكي حين تلقت ابنتها حملة شتائم ضمن الهجوم على دورها في فيلم (أصحاب ولاّ أعز) الذي تسبب في موجة من الجدل».

وتعود بداية قضية ابنة شيرين عبد الوهاب إلى مايو (أيار) 2023، عقب استدعاء المسؤولين في مدرسة «هنا»، لولي أمرها وهو والدها الموزع الموسيقي محمد مصطفى، طليق شيرين، حيث أبلغته الاختصاصية الاجتماعية أن «ابنته تمر بظروف نفسية سيئة للغاية حتى أنها تفكر في الانتحار بسبب تعرضها للابتزاز على يد أحد الأشخاص».

ولم تتردد شيرين عبد الوهاب في إبلاغ السلطات المختصة، وتبين أن المتهم (19 عاماً) مقيم بمدينة المنصورة، وطالب بكلية الهندسة، ويستخدم حساباً مجهولاً على تطبيق «تيك توك».

شيرين وابنتيها هنا ومريم (إكس)

وأكد الدكتور سعيد صادق، أستاذ علم الاجتماع، أن «الوعي لدى الفتيات والنساء هو كلمة السر في التصدي لتلك الجرائم التي كثُرت مؤخراً؛ نتيجة الثقة الزائدة في أشخاص لا نعرفهم بالقدر الكافي، ونمنحهم صوراً ومقاطع فيديو خاصة أثناء فترات الارتباط العاطفي على سبيل المثال»، وقال لـ«الشرق الأوسط» إن «كثيراً من الأشخاص لديهم وجه آخر صادم يتسم بالمرض النفسي أو الجشع والرغبة في الإيذاء ولا يتقبل تعرضه للرفض فينقلب إلى النقيض ويمارس الابتزاز بكل صفاقة مستخدماً ما سبق وحصل عليه».

فيما يعرّف أستاذ كشف الجريمة بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية بمصر، الدكتور فتحي قناوي، الابتزاز الإلكتروني بوصفه «استخدام التكنولوجيا الحديثة لتهديد وترهيب ضحية ما، بنشر صور لها أو مواد مصورة تخصها أو تسريب معلومات سرية تنتهك خصوصيتها، مقابل دفع مبالغ مالية أو استغلال الضحية للقيام بأعمال غير مشروعة لصالح المبتزين».

ويضيف في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أن «مرتكب الابتزاز الإلكتروني يعتمد على حسن نية الضحية وتساهلها في منح بياناتها الخاصة ومعلوماتها الشخصية للآخرين، كما أنه قد يعتمد على قلة وعيها، وعدم درايتها بالحد الأدنى من إجراءات الأمان والسلامة الإلكترونية مثل عدم إفشاء كلمة السر أو عدم جعل الهاتف الجوال متصلاً بالإنترنت 24 ساعة في كل الأماكن، وغيرها من إجراءات السلامة».

مشدداً على «أهمية دور الأسرة والمؤسسات الاجتماعية والتعليمية والإعلامية المختلفة في التنبيه إلى مخاطر الابتزاز، ومواجهة هذه الظاهرة بقوة لتفادي آثارها السلبية على المجتمع، سواء في أوساط المشاهير أو غيرهم».