«سيرة الفراشة»... تجربة الهجرة إلى المنافي البعيدة

أحداثها تبدأ من حي صلاح الدين في حلب

حي صلاح الدين في حلب
حي صلاح الدين في حلب
TT

«سيرة الفراشة»... تجربة الهجرة إلى المنافي البعيدة

حي صلاح الدين في حلب
حي صلاح الدين في حلب

صدرت عن «دار شهريار»، في البصرة، رواية «سيرة الفراشة»، للقاص الروائي محمد حيّاوي، وهي الرواية الخامسة بعد: «ثغور الماء» و«طواف متصل» و«خان الشابندر» و«بيت السودان»، لكنها تتميّز عن سابقاتها بتعدد الأمكنة، وتنوّع الشخصيات، واختلاف المرجعيات المؤسِسة للنص السردي، فبدلاً من التركيز على «خان» مُحدّد أو «بيت» بعينه، ينفتح بصر محمد حيّاوي وباصرته على أمكنة كثيرة، تبدأ من حي «صلاح الدين» في حلب، وتمتد إلى مرسين وإستانبول، مروراً بقبرص واليونان وألمانيا، وانتهاءً بأمستردام، والعودة مُجدداً إلى الحي الذي انطلقت منه شخصيتا الرواية الأساسيتين: بسّام وندى، حيث يفقد الأول ذاكرته، وتعيش الثانية بنصف ذاكرة تسعى إلى ترميمها بواسطة العودة إلى النبع الأول.
تُذكِّرنا «سيرة الفراشة» بأفلام الطريق (Road Movies)، لكن طُرق هذه الرواية لا تقتصر على اختراق اليابسة فقط، وإنما تمتدّ إلى مسارب الماء والسماء، وكأنّ الروائي يريد أن يستثمر عناصر الطبيعة برمتها.
ينفتح المتن السردي على أكثر من قصة؛ واحدة تدهمنا من الشرق لتحيطنا علماً بأسرة «نارسس» التي فرّت من ظلم الملالي وقمعهم في إيران؛ وثانية من أقصى الغرب تسرد لنا حكاية عبد الله وأسرته التي تشرذمت بين المغرب وحلب وإستانبول، وثمة قصص أخرى تؤازر الثيمة الرئيسة وتُديم زخمها، قبل أن تنفصل عنها لتدور في أفلاكها الخاصة بعد أن تُجسِّد الأدوار المناطة بها.
تبدأ الأحداث من شُقّة في الطابق الثالث في حي «صلاح الدين» بحلب، وهو حي تقطنه غالبية مسيحية فرّت من حروب الدولة العثمانية قبل قرن من الزمان، وها هم الآن يكررون تجربة الهجرة إلى المنافي البعيدة. ففي الوقت الذي يخرج فيه بسّام للبحث عن سيارة تقلّهما خارج المدينة، يوصي زوجته الحامل بعدم مغادرة المنزل مهما كلّف الأمر، لكنه يختفي في ظرف غامض ويُصبح أثراً بعد عين. لا يرتكن محمد حيّاوي في هذه الرواية إلى النسق التصاعدي للأحداث، وإنما يعوّل كثيراً على البنية الدائرية التي انطلقت بطلتها من حلب وعادت إليها بعد أن استنفدت شروط وجودها في أمستردام وإستانبول، لتصل إلى محطتها الأخيرة التي تستعيد فيها صور الأشباح في الشقق المقابلة لها، والمرأة المتكئة على حافة النافذة، والكلب الأسود الذي ينتظر أن تُلقي له العصافير الميتة التي تتساقط على شرفتها، والفراشة التي تلاحقها في رحلتها المضنية إلى إستانبول، قبل أن تتماهى معها وتصبح جزءاً من نسيجها المعنوي الذي يمنح الشخصية بُعداً أسطورياً، أو حُلمياً في أقل تقدير.
تنطوي الرواية على انعطافات درامية متعددة لا تسمح بالتقاط الأنفاس، فـ«بسّام» المؤلف الموسيقي يقع في أسر مجموعة إرهابية تقيم عليه الحدّ لأنه مسيحي وعازف بيانو، فيطلِب من عبد الله المغربي أن يساعد زوجته ندى، الحامل في أسابيعها الأولى، وقبل أن ينحروه، يحدث انفجار هائل فيرتطم جسده بكتلة إسمنتية صلدة، فيغشى بصره ثم يغيب عن الوعي. ورغم أن ثيمة فقدان الذاكرة مطروقة كثيراً، فإنّ مقاربتها في هذه الرواية مختلفة جداً، فقد اعتدنا أن يسترجع المصاب ذاكرته إثر صدمة أخرى، لكنه هنا لا يتذكر شيئاً سوى لغته العربية، وقدرته على العزف والتأليف على البيانو، وعندما وجدوه قرب الساحل مغمياً عليه، اقترح أحد الأطباء أن يسمّيه «ليف»، ويعني «عائش» بالهولندية. لكن سارة اليهودية أضافت له ياء التصغير، وصارت تناديه بـ«ليفي».
وفي الوقت الذي تتطور فيه علاقته بأستاذة الموسيقى سارة التي انتشلته من مركز اللاجئين، يقع في حُب نارسس، الفنانة التشكيلية الإيرانية المغرقة في تصوفها، حيث ترفد النص السردي بمقولاتها الفلسفية التي تشتبك بالعالم العرفاني، وتمتحّ كثيراً من الأساطير الشرقية، مثل: «ليلة يلدا» و«ميترا»، لتتلاقح مع الأساطير العربية لشجرة الأراصيا الذهبية، وأيائل الجبل التي تختفي ساعة يدنو أجلها ولا تدع أحداً يرى موتها. وبعد رحلتها الأوديسية من حلب إلى أمستردام، مروراً بتركيا وقبرص واليونان وألمانيا، وما صادفته من مشكلات وأهوال، ينتهي بها المطاف في مركز اللاجئين بأمستردام الذي تطوعت نارسس للعمل فيه، واكتشفت الفنانة ندى، صانعة الأفلام المتحركة التي فقدت زوجها في الحرب، كما خسرت نصف ذاكرتها، فتدعوها لزيارة شقتها للاحتفال بليلة يلدا، حيث يسهرون طوال الليل وينتظرون بزوغ الشمس. تُفاجأ نعيمة التي هي «ندى» نفسها، بجمال نارسس، وأنوثتها الطاغية، فتسرد ندى قصة هروبها من الشقة الحلبية حتى وصولها إلى أمستردام، ويبدو أنها قد روت لنارسس حكاية تشبه إلى حد كبير حكاية لوحة «الفتاة المتكئة»، لكن تبيّن لاحقاً أن ليفي قد أوحى لها بكثير من التفاصيل التي كان يراها في أحلامه، حتى أنها قالت في نهاية الأمر: «كل ما ينقص اللوحة هو أنا، حيث أجلس في شرفتي الباردة لأدخن وأرمي العصافير الميتة إلى ذلك الكلب الأسود الظاهر في الزاوية، حتى الفراشة الصفراء الصغيرة ظاهرة هناك قرب نبتة اللبلاب».
لم يتعرّف بسّام على ندى، رغم انشغالها بتفاصيل اللوحة التي حيّرتها وأَسَرتْها، بل إنه لم ينتبه لرجائها الذي تقول فيه: «انتبه لنفسكَ. لا تفجعني بكَ مرّتين!».
وحين تتأكد أنه معطوب الذاكرة تماماً، تطمئن عليه وتطلب منه أن يعيش حياته مع نارسس التي تعشقه وتغمره بالمحبة والحنان، ثم تعود إلى إستانبول لتنفِّذ الوعد الذي قطعته على نفسها بإنقاذ نعيمة، شقيقة عبد الله المغربي، بمساعدة المحامي التركي جلال نامق آغا الذي نجح في إخلاء سبيلها، شرط أن تغادر الأراضي التركية خلال أيام معدودة.
تتكرر المتاعب ذاتها في رحلة العودة من مرسين إلى حلب، حيث تجد كل شيء على حاله: ركوة القهوة، والعصافير الميتة، والفتاة المتكئة على حافة النافذة، والكلب الأسود الذي يتطلّع إلى شرفتها. أما الشيء الوحيد الذي افتقدته حقاً، فهو الفراشة الصغيرة الصفراء.
ورغم حضور الرجال في هذه الرواية، فإنّ هيمنة الشخصيات النسائية على الأنساق السردية تظل ماثلة للعيان. ففي حلب، تتسيّد ندى، صانعة أفلام التحريك. وفي «الرقة»، تتجلى محنة الإيزيديات. وفي مرسين، نصادف نعيمة ونسيمة اللتين أصبحتا ضحيتي التهريب والدعارة، وأم حسّونة التي لم تجد مهنة أفضل من الخدمة في منازل الأثرياء والموسرين. وفي أمستردام، نُفاجأ بنارسس المنبثقة من قلب الأساطير الشرقية، وبسارة عازفة الكمان التي تنتشل بسّام من عزلته الأبدية، وتفسح له المجال لأن يتلمس طريقه إلى قلب نارسس التي أحبّته وانقطعت إليه.
تُعتبر «سيرة الفراشة» من الروايات النادرة التي تعالج هذا الكم الكبير من الموضوعات الشائكة المعقدة، مثل: الحُب، والحرب، والإرهاب، والنزوح، والهجرة، والتهريب، والدعارة، والخذلان، والموت، والانكسار بأشكاله المتعددة. وقد نجح الروائي محمد حيّاوي في إنجاز نص روائي مطعّم بشذرات ميتا سردية استقاها من الأساطير والخرافات الشعبية الراسخة في أذهان الناس، لكنه منحها درجة من الواقعية السحرية التي يمكن أن يصدّقها القرّاء، بحيث أصبح الواقع العجائبي مقبولاً بدرجة كبيرة، لا تذهب إلى الخيال الغرائبي المجنح، ولهذا يظل القارئ متعلقاً باللحظة التي تبزغ فيها الشمس بعد ليلة يلدا الطويلة، مثلما يظل متحفزاً للحظة التي تبرق فيها أنوار شجرة الأراصيا بعد كل حدثٍ جسيم لا يغادر ذاكرة الناس بسهولة.



الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي الراحل كمال سبتي

الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي الراحل كمال سبتي
TT

الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي الراحل كمال سبتي

الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي الراحل كمال سبتي

تصدر قريباً الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي كمال سبتي (1955 - 2006)، أحد أهم شعراء ما عُرف بجيل السبعينات في العراق. متضمنة ثمانية دواوين، مستهلةً بديوان «وردة البحر ـ 1980»، ومختتمةً بـ«صبراً قالت الطبائع الأربع ـ 2006». هنا نص مقدمة هذه الأعمال التي ستصدر عن «دار جبرا للنشر والتوزيع ـ الأردن»، وبالتعاون مع «دار النخبة للتأليف والترجمة والنشر - لبنان».

وقد كتب مقدمة المجموعة الكاملة الشاعر العراقي باسم المرعبي، التي جاءت بعنوان «كمال سبتي... المرافعة عن الشعر» ويقول فيها:

«يحتاج شعر كمال سبتي، بالمجمل، إلى جَلَد عند قراءته، فهو على نقيض الكثير مما هو شائع من تقنيات شعرية تعتمد البساطة والعفوية والمباشرة، مع عدم تسفيه هذه النزعات الأسلوبية، طالما أن الشعر كقيمة وجوهر يبقى مُصاناً، غير منتهَك به. على أنّ إشاحة الشاعر عن مثل هذا الاتجاه ومخالفته، لم يجعل شعره غامضاً أو عصيّاً.

شعر مثقل بالمعنى ومزدحم به، لأنه ذو مهمة توصيلية، وهو يتطلب إصغاءً وإعمال فكر. والقصيدة لدى كمال معمار ذهني - فكري ونفسي، في الآن ذاته، يستمدّ فيها الشاعر مادته من مغاور النفس والسيرة الشخصية، فضلاً عن استثمار راهن التجربة الحياتية، مشظّياً كلّ ذلك في النص، صراحةً أو رمزاً. دون أن يستثني مادة الحلم من استثماره الفني والموضوعي، وهو ما يُتبيَّن أثره في نصوصه، لا سيّما النصوص النثرية الطويلة، المتأخرة، ليتصادى ذلك مع قراءات الشاعر في الرواية أو اعتماده السينما مصدراً مفعّلاً في كتابته الشعرية. وعن هذه الأخيرة قد أشار إلى ذلك الشاعر نفسه في واحد من الحوارات التي أُجريت معه، ليرقى كلّ ذلك إلى أن يكون جزءاً عضوياً من تجربته الحياتية، الذهنية هذه المرة، مُسقَطة بالمحصلة على القصيدة، لتنعكس خلالها حركةً وتوتراً درامياً. وهو ما ينسحب بالقدر ذاته على نزوع الشاعر في سنواته الأخيرة إلى قراءات في التصوف والقرآن والتراث، ما نجمَ أثره بشكل جلي، في مجموعته الأخيرة «صبراً قالت الطبائع الأربع»، وإلى حد ما في المجموعة السابقة لها. وهو فارق يلمسه القارئ، إجمالاً، بين المنحى الذي اتخذه شعر كمال سبتي في السبعينات أو الثمانينات وما صار إليه في التسعينات وما بعدها. وعلى الرغم مما ذهب إليه الشاعر من مدى أقصى في التجريب الكتابي مسنوداً برؤية يميزها قلق إبداعي، شأن كلّ شاعر مجدّد، إلا أنه وبدافع من القلق ذاته عاد إلى القصيدة الموزونة، كما تجسد في كتابيه الأخيرين. وكان لقراءاته المذكورة آنفاً، دورها في بسط المناخ الملائم لانتعاش هذه القصيدة، ثانيةً، وقد بدت محافظة في شكلها، لكن بالاحتفاظ بقدر عال ورفيع من الشعرية المتينة، المعهودة في شعر كمال سبتي، وبدافع من روح المعنى الذي بقي مهيمناً حتى السطر الأخير، لأن الشعر لديه مأخوذ بجدية حدّ القداسة، وهو قضية في ذاتها، قضية رافع عنها الشاعر طوال حياته بدم القلب.

تصدر هذه الأعمال في غياب شاعرها، وهو ما يجعل من حدث كهذا مثلوماً، إذ عُرف عن كمال اهتمامه المفرط بنتاجه وتدقيقه ومتابعته، واحتفائه به قبل النشر وبعده، لأن الشعر كان كل حياته، هذه الحياة التي عاشها شعراً. فكم كان مبهجاً، لو أن مجموع أعماله هذا قد صدر تحت ناظريه.

ولأهمية هذه الأعمال وضروة أن لا تبقى رهينة التفرّق والغياب، أي في طبعاتها الأولى المتباعدة، غير المتاحة للتداول إلّا فيما ندر، ولأهمية أن تأخذ مكانها في مكتبة الشعر، عراقياً وعربياً، كانت هذه الخطوة في جمعها ومراجعتها وتقديمها للنشر. وقد كان لوفاء الصديق، الفنان المسرحي رياض سبتي، لشقيقه وتراثه الشعري، دوره الحاسم في حفظ مجموعات الشاعر، ومن ثمّ إتاحتها لكاتب سطور هذه المقدمة، حين تم طرح فكرة طباعتها ونشرها، إسهاماً في صون هذا الشعر وجعله قابلاً للانتشار من جديد، بما يجدر به».

من المجموعة الكاملة:

«الشاعر في التاريخ»

الرجل الجالسُ في المكتبة

مورّخٌ يكتبُ عن شاعرٍ

الرجل الهاربُ في سيرةٍ

مشرّدٌ في الليل كالليلِ

رغيفهُ باردْ

رغيفهُ واحدْ

عنوانه مصطبة

محطّةٌ مغلقةُ البابِ

الرجلُ الخائفُ في سيرةٍ

يغيّر الشكلَ تباعاً، فمرّةً

بلحية كثةٍ

ومرّةً بشاربٍ، ثمّ مرّةْ

بنصفِ قلبٍ حائرٍ في الطريقْ

يسيرُ فوقَ جمرةٍ، ثمّ جمرةْ

تلقيه فوقَ جمرةٍ، في الطريقْ.