ثقافة التاريخ والتأريخ... الموضوعية و«الماكارثية»

كثيراً ما نخلط بين القيمة التاريخية للشخصية والأخلاق السائدة

TT

ثقافة التاريخ والتأريخ... الموضوعية و«الماكارثية»

شاهدت منذ فترة حديثاً مع أحد المؤرخين، طرحت عليه المذيعة سؤالاً حول ما إذا كان التاريخ الذي يتحدث عنه المؤرخ هو «التاريخ الرسمي للدولة»، وعندما حاول الضيف شرح فساد سؤالها، انتهي الحوار بانسحاب المؤرخ، وقد أشفقت على التاريخ والتأريخ من خطورة الجهل وعدم الموضوعية. وبعد مرور أشهر، خرجت بعض الأصوات منادية بالسعي لمعاقبة كل من يحقر أو يقذف «الرموز التاريخية» بعقوبات مادية، فبدأ يطل علينا جدل جديد، خطورته أنه يدعو إلى اضطهاد أو «ماكارثية» جديدة على التاريخ ومستقبل التأريخ، فكان ضعف معيار الموضوعية أو غيابه هو الرابط بين الواقعتين. ومن هذا المنطلق، فقد رأيت صياغة النقاط التالية:
أولاً: لا بأس في أن نعشق رموزنا التاريخية، فهذه ظاهرة إنسانية صحية تعتنقها كل المجتمعات، وليس على المرء إلا أن يزور العواصم المختلفة، فيرى تماثيل أو لوح العظماء من الشخصيات التاريخية، سواء السياسية أو العلمية أو الأدبية، المقرونة بتاريخ الدولة، فلا تخلو مدينة من شوارع بأسماء هذه الشخصيات، وهذه ظاهرة محمودة لأنها تربط الشعب بماضيه، وتخلق الرباط القومي أو الفكري أو القيمي الذي يساهم بشكل واضح في بناء أساس الدولة أو المدينة، إضافة إلى كونها تمثل رموزاً يحتذي بها في زمن تتضاءل فيه الزعامات التاريخية والفتوحات العلمية والأدبية والعسكرية، بل والسياسية أيضاً، فهي في النهاية مُحفز للمجتمعات وأداة ربط معنوي بين أعضاء الوطن الواحد.
ثانياً: هذه الرموز التاريخية في النهاية من صناعتنا نحن، استناداً لإنجازاتها المرصودة، ورؤيتنا التاريخية لها، وقيمتهم في واقعنا، فهذه العناصر الثلاثة هي التي تصنع الرمز التاريخي، فإذا ما كانت هناك فرصة جيدة لتطبيق مبادئ الموضوعية والفكر النقدي على العنصر الأول، فإن هذه المبادئ تنحسر تدريجياً بعد ذلك، وبالتالي فإننا لسنا أمام خيط أبيض أو أسود، فأخطر ما يمكن أن يُصيبنا هنا هو «التقديس المزيف» أو «تحقير العظيم»، أو تجاهل المعيار الزمني عندما يتعلق الأمر بالشخصية التاريخية المعنية.
ثالثاً: واتصالاً بما تقدم، فـ«التقديس المزيف» يحدث غالباً عندما نضع الشخصية التاريخية في مصاف التاريخ وهي غير جديرة بذلك، وأذكر أنني كتبت مقالاً منذ سنوات في صحيفتنا الغراء، بعنوان «كليبر وعظماء التاريخ»، عندما رأيت تمثالاً مهيباً للقائد «كليبر»، نائب «نابليون بونابرت» خلال الحملة الفرنسية على مصر في 1798، في مدينة ستراسبورغ، فاستغربت لأن الرجل خدم في الجيش النمساوي، ثم دفعه طموحه ووصوليته للانضمام للجيش الفرنسي للترقي السريع، ولم يكن له في حقيقة الأمر إنجازات يمكن وصفها بالعظمة لتجعله مركزاً للمدينة، والشيء نفسه حدث مع بعض الشخصيات التاريخية في تراجمنا.
رابعاً: وعلى النقيض، فظاهرة «تحقير العظيم» تحدث أيضاً للرموز التاريخية، ويكون إما للجهل بالحقائق، أو لضعف في التحليل، أو لتغييب عنصر الزمن، أو لأسباب سياسية، كما حدث على سبيل المثال مع شخصية «محمد علي»، حاكم مصر الذي يجسد أغلبية هذه العناصر، مع تجاهل حقيقة أنه مؤسس الدولة المصرية الحديثة، فكان أهم شخصية للمنطقة بأسرها في النصف الأول من القرن التاسع عشر، بما له وما عليه، فتمت مهاجمته إما لأنه حُكم عليه بمعايير يومنا، لأنه ليس مصرياً، أو لأنه لم يراعِ مبادئ حقوق الإنسان، أو لأن النظام السياسي في مصر بعد الثورة كان ضد أسرته، وسعى لطمس هذا الماضي والنيل منه، متناسيين أنه عاش في زمن كان يسيطر عليه الفكر الأممي، وليس القومي، فكانت شرعية الحاكم آنذاك مستندة إلى إسلامه، وليس مسقط رأسه وقوميته وهويته، كما أن المنهج القسري الذي بُنيت به مصر الحديثة كان النهج السائد آنذاك، فبناء الدول يتم بالدم والتضحيات.
خامساً: كثيراً ما نخلط بين القيمة التاريخية للشخصية والمبادئ أو الأخلاق السائدة لدينا، فتكون الشخصية رمزاً فكرياً أو سياسياً أو أدبياً عظيماً، ولكنها تتناقض والقيم السائدة لدينا، فمقياس العظمة لما يُفسر بها، وليس على مطلقها، فكم من سياسي عظيم تكون الخسة سمته الشخصية، وكم من أديب عظيم يسقط في هوة التدني الإنساني والأخلاقي.
خلاصة القول إننا أمام ظاهرة معايير الحكم عليها مختلطة، بل ومتغيرة، كما أننا أمام حقيقة ثابتة، وهي أن التأريخ كثيراً ما يكشف لنا حقائق لم نكن نعرفها، وبالتالي فالأحكام القانونية الوضعية لا مجال لتطبيقها على هذه المنهجية، إضافة إلى أنه ثبت بشكل قطعي أن العقوبات المادية لا قيمة لها في دحض الرأي أو الفكرة، بل إنها غالباً ما تأتي برد فعل عكسي، وبالتالي فالحكم على التاريخ ورموزه ليس في محاكم القضاء، ولكن من خلال محكمة هي في الواقع أعقد بكثير، لأنه يُفترض أن تُبنى على الموضوعية الممزوجة بالمصادر التاريخية الموثقة، والمعايير الفكرية النقدية، وأساليب التحليل العلمي، وأخيراً المعايير السائدة في زمن الشخصية، فالرمز التاريخي هو لنا ومن صناعتنا، فكم من شخصية عظيمة أدركت الأجيال قيمتها بعد موتها، رغم تعمد تدنيس سيرتها وحرق إنجازاتها، وكم من الشخصيات الهزلية التي رفعنا قدرها وهي لا ترقى لذلك.



قصر باكنغهام يخضع لعملية تجديد بتكلفة 369 مليون جنيه إسترليني

سيغلق قصر باكنغهام أبوابه أمام الزيارات الرسمية (موقع باكنغهام)
سيغلق قصر باكنغهام أبوابه أمام الزيارات الرسمية (موقع باكنغهام)
TT

قصر باكنغهام يخضع لعملية تجديد بتكلفة 369 مليون جنيه إسترليني

سيغلق قصر باكنغهام أبوابه أمام الزيارات الرسمية (موقع باكنغهام)
سيغلق قصر باكنغهام أبوابه أمام الزيارات الرسمية (موقع باكنغهام)

سيغلق قصر باكنغهام أبوابه أمام الزيارات الرسمية لمدة ثلاث سنوات، يخضع خلالها القصر التاريخي لعملية تجديد ضخمة بتكلفة 369 مليون جنيه إسترليني. وسيجري استقبال أمير قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، في القصر عندما يزور المملكة المتحدة الشهر المقبل، لكن بعد ذلك ستجري استضافة جميع الزيارات الرسمية الأخرى في قلعة «وندسور» حتى عام 2027.

وكانت أعمال التجديد قد بدأت في عام 2017، مع التركيز على استبدال الأسلاك والأنابيب القديمة التي لم تُحدَّث منذ خمسينات القرن الماضي، والتي كانت من الممكن أن تتسبّب في «حرائق كارثية أو تدفقات شديدة للمياه».

جدير بالذكر أن الأعمال المستمرة في القصر أدّت إلى نقل المكتب الخاص بعاهل بريطانيا الملك تشارلز الثالث في الجناح الشمالي الذي تجري إعادة تجديده على نفقته الشخصية، إلى الجناح البلجيكي في الطابق الأرضي من الجناح الغربي للقصر الذي يطل على الحديقة. وكانت المساحة التي كان الملك يشغلها سابقاً في الجناح الشمالي تُستخدَم من قِبل الملكة الراحلة إليزابيث الثانية بوصفها سكناً خاصاً، أما مساحته الجديدة الآن فتشمل «غرفة أورليان» التي وُلِد فيها الملك في 14 نوفمبر (تشرين الثاني) 1948.

وفي تصريح لصحيفة «التايمز» البريطانية، قال أحد أصدقاء الملك: «هو دائماً مدرك لأهمية التاريخ، وقرار أن يكون مقره في (غرفة أورليان) لم يكن ليُتخذ بسهولة، لكنه سيستمتع الآن بأداء مهامه بوصفه ملكاً في الغرفة التي وُلد فيها».

كما أنه يجري قطع العشرات من أشجار الكرز والبتولا الفضية في حدائق القصر، للسماح بدخول مزيد من الضوء الطبيعي وتشجيع تجدّد نمو النباتات الأخرى.