إعادة تأهيل موسوليني للقرن الحادي والعشرين

ثلاثية روائية عنه تتصدر المبيعات وتتهافت عليها كبريات دور النشر

أنطونيو سكوراتي وغلاف روايته «م»
أنطونيو سكوراتي وغلاف روايته «م»
TT

إعادة تأهيل موسوليني للقرن الحادي والعشرين

أنطونيو سكوراتي وغلاف روايته «م»
أنطونيو سكوراتي وغلاف روايته «م»

طبع الزعيم الإيطالي بينيتو أندريا موسوليني (1883 – 1945) الحياة السياسيّة لبلاده الممتدة في قلب البحر المتوسط، متقلداً مناصب قيادية عدّة منذ العام 1922 قبل أن يتفرد بزعامتها وحتى يوم مقتله مع عشيقته وثلّة من معاونيه على يد مقاتلي حركة المقاومة الإيطاليّة عشيّة نهاية الحرب العالميّة الثانية.
النهاية الدراميّة للدوتشي كما كان يدعوه أتباعه أقل ما يليق بحياة طويلة عريضة قضاها الرجل بين بدايات متواضعة وانطلاقة مع اليسار الاشتراكي الإيطالي رفقة القيادات التاريخيّة المؤسِسة لذلك اليسار بمن فيهم المفكر الأشهر أنطونيو غرامشي (كانا يكتبان لذات الصحيفة في وقت ما)، قبل أن ينقلب عليهم ويؤسس الحزب الفاشستي الذي لم يكن حزبا سياسيا بقدر ما كان قوّة ميليشياويّة مافياوية الطراز ارتدت قمصاناً سوداء وحملت هراوات، ونجحت من خلال العنف المجاني المسرف بكسر شوكة التيار الشيوعي الصاعد حينها في البلاد، ومن ثم ينقضّ على الدولة نفسها فيحوّلها إلى ديكتاتوريّة عدوانية شنت غزوات متلاحقة ضد اليونان وليبيا وإثيوبيا قتل فيها ملايين البشر، وينخرط لاحقاً في حلف مع الرايخ الألماني الرابع في الحرب العالميّة الثانية أرهق النازيين الألمان أكثر ما أسعفهم لضعف مزمن في الجيش الإيطاليّ، إلى أن وقع أسيراً أثناء محاولته الفرار بعد سقوط معظم إيطاليا في أيدي الحلفاء ولسوء حظّه بيد قوّة من أعدائه اليساريين الذين كانوا يقودون المقاومة الشعبيّة الإيطاليّة، فكانت نهايته المؤلمة معلقاً من قدميه في محطة بنزين ريفيّة بعد إعدامه بطلق ناري كي يقنع بموته الفلاحون وبقايا الفاشست المنهزمين.
ذاكرة جيل كامل من الإيطاليين تمحورت حول شخصيّة الدوتشي، وتكررت مشاهد خطاباته المفعمة بالدراما الغاضبة من الشرفات في أذهانهم «حتى لم نعد نراها ونحن نشاهدها لكثرة ما قد عُرضت علينا مسبقاً» على حد تعبير أحدهم. لكن جيل موسوليني هذا بدأ في التلاشي شيئا فشيئاً، بحكم قصر أعمار البشر، ليأتي جيل جديد وُلد لآباء لم يشهدوا سوى أصداء التجربة الفاشية بعد سقوطها، وليس له من الخبرة التاريخيّة حول تلك المرحلة الحافلة من تقلبات الأيّام الإيطاليّة سوى بقايا الدعايات المبالغ بها عن الرجل الوطني ذي الهيبة والهيلمان الذي جعل إيطاليا عظيمة من جديد، مستعيداً أمجاد الدولة الرومانيّة القديمة قبل أن يختفي وراء حجرات التاريخ ومشاكل إيطاليا التي لا تنتهي.
لكن الرجل استعيد فجأة وبكل قوّة إلى قلب الجدل في البلاد وهذي المرّة من باب الرواية تحديداً، إذ تربعت «(م) ابن القرن العشرين» - الرّواية الضخمة (839 صفحة) التي كتبها الأستاذ الجامعي أنطونيو سكوراتي عن بدايات موسوليني في السياسة – على قمة أرقام مبيعات الكتب باللغة الإيطاليّة ولم تزل منذ عدّة أسابيع، وقد أثارت استثنائياً شهيّة الناشرين بمعرض فرانكفورت للكتاب حيث تسابقت دور النشر الكبرى في العالم إلى دفع مبالغ طائلة للحصول على حقوق الطبعات باللّغات المختلفة، إلى جانب إتمام الاتفاق مع منتجين على تحويل الرّواية إلى عمل سينمائي.
مثقفو إيطاليا ومعنيون بآدابها انتقدوا سكوراتي على ركوبه موجة تصاعد الفاشيّة في بلاده واعتبروا روايته تصب باتجاه إعادة تأهيل الدوتشي للقرن الحادي والعشرين وتقديمه للأجيال التي لم تعرفه كبطل قومي ترنو إليه الأبصار. وبالفعل فإن الشبان صغار السن تحديداً اندفعوا أكثر من غيرهم لقراءة الرواية، وكتب منهم كثيرون لمؤلفها يشكرونه لأنه جعل من تاريخ موسوليني أمراً مثيراً للاهتمام مقارنة بالطريقة المملة التي يقدّم بها في المناهج الإيطاليّة. وربما لن يكون مفاجئاً إذا تبيّن أن أغلبيّة مقتني الرواية اشتروها لحُبهم بموسوليني ورغبتهم معرفة المزيد عن تجربته المثيرة بعدما أصبح الفاشيون الإيطاليون الجدد جزءا من النظام الحاكم، وتعمُّد عدد من كبار الساسة – كان آخرهم وزير الداخلية - وضع الرجل في إطار إيجابي خلال أحاديثهم العلنيّة.
سكوراتي مع ذلك يقول بأنه شخصيّاً معاد لفكرة الفاشيّة، وأن الرّواية التي ستكون ثلاثيّة ليست إلا محاولة منه لتفكيك الصورة الصنميّة عن الزعيم الإيطالي التي بنتها عقود من البروباغاندا المكثّفة حتى اختفى موسوليني الإنسان وراء الطوطم، ولم يعد بالإمكان قراءة ملامحه الحقيقيّة. وبالفعل فإن الرواية الافتتاحية - التي تغطّي سنوات مرحلة الصعود بداية من الأجواء المضطربة في البلاد بعد الحرب العالميّة الأولى وانتهاء إلى تسجيل خطاب الدوتشي الشهير 3 يناير (كانون الثاني) 1925 أمام البرلمان وهي اللحظة التي يعتبرها المؤرخون الإعلان الرسمي عن قيام الفاشيّة الإيطاليّة - تبدو أقرب إلى نص تأريخي منه رواية أدبيّة، وينتمي ربّما إلى مدرسة الدّراما الوثائقيّة إذ يتكون من فصول قصيرة متخمة بتفاصيل سرد مدّعم بنصوص حقيقية من صحف ورسائل وبرقيّات وتقارير شرطة تعود إلى تلك الفترة. ورغم ادعاء سكوراتي تقديمه قراءة هادئة منزوعة الآيديولوجيا لتجربة موسوليني فإن نفس الرواية التي تتوارد أحداثها على لسان راوٍ يبدو متشككا لكنه يتجه إلى الوصف من وجهة نظر الدوتشي وأتباعه، ويعطي انطباعاً بأن الرجل أقلّ من وحش تاريخي كما يصفه أعداؤه، لا سيما في مقاطع تظهر قلق الزّعيم كأب حنون على صحة ابنه المريض مثلاً.
وللحقيقة فإن موسوليني عند نصف الإيطاليين على الأقلّ بقي بعيداً عن الوصمة التي ألصقت مثلاً بهتلر والنّازيين في ألمانيا بعد الحرب العالميّة الثانيّة، وهو ظلّ يتمتع بشعبيّة متزايدة بينهم أثناء فترة توليه السلطة طوال أكثر من عقدين ولحين مقتله رغم اطلاع قطاع واسع منهم على الفظائع التي ارتكبها الدوتشي، سواء ضد الإيطاليين اليساريين أو اليهود أو ضد العرب الليبيين والأفارقة الإثيوبيين. لكنّ السرّ الحقيقي لعدم تكثيف الدّعاية المضادة للمرحلة الفاشيّة في إيطاليا بعد انتهاء الحرب العالميّة الثانيّة هو القلق الأميركي من النفوذ الزائد للشيوعيين وقتها عندما كانوا يقودون حرب المقاومة ضد الفاشيّة، وهم حلفاء تقليديون لموسكو، الأمر الذي حدا بالأميركيين إلى دعم اليمين الإيطالي من جديد لإحكام قبضته على السّلطة من خلال عمليّة سريّة استخباريّة ضخمة (عرفت بالاسم الرّمزي غلاديو) استمرت لعقود وتكشفت في وقت متأخر من القرن العشرين. ولا شكّ في أن ذمّ زعيم اليمين الإيطالي الراحل لم يكن ليساعد على كسب ثقة أتباعه، ولذا غُضّ الطرف عن آثامه، وترك ليرتاح في قبره.
مهما يكن من أمر الرّواية الصاعدة إلى النجوميّة في توقيت مريب، فإن «(م) ابن القرن العشرين» لا تكتفي باستعادة شخصيّة تاريخيّة جدليّة إلى قلب النقاش السياسي المعاصر، لكنها أيضاً تفتح ملفات ثقافيّة وأدبيّة كثيرة، أقلّها دور الرّواية المتجدد في راهن الوقت كأداة معرفيّة، لا سيّما بين الأجيال الشابة، وطبيعة النّص الرّوائي الملتبس الملامح بين التأريخ والأدب الذي قدّمه سكوراتي، وأيضاً مسألة توظيف الفنون بعامّة - الرّواية تحديدا - في خدمة التوجهات السياسيّة خلال لحظة معينة، لا سيما أنه لم يعد ينطل على أحد طبيعة الترويج المكثّف الذي تتظافر أطراف صناعة النشر المعاصرة على بذله لتصعيد أعمال أدبيّة بعينها نحو النجوميّة على حساب أخرى. لكن الأهم من ذلك كله أن بينيتو موسوليني الرجل مضى بعد محاكمة عاجلة، لكن بينيتو موسوليني الفكرة لم يخضع للمحاكمة بعد، ولذا فإن شبحه سيطل علينا كلّما أظلمت الأزمنة.


مقالات ذات صلة

الحميدان أميناً لمكتبة الملك فهد الوطنية

يوميات الشرق الأمير فيصل بن سلمان يستقبل الأمير خالد بن طلال والدكتور يزيد الحميدان بحضور أعضاء مجلس الأمناء (واس)

الحميدان أميناً لمكتبة الملك فهد الوطنية

قرَّر مجلس أمناء مكتبة الملك فهد الوطنية تعيين الدكتور يزيد الحميدان أميناً لمكتبة الملك فهد الوطنية خلفاً للأمير خالد بن طلال بن بدر الذي انتهى تكليفه.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
ثقافة وفنون قراءات المثقفين المصريين في عام 2024

قراءات المثقفين المصريين في عام 2024

مرَّت الثقافة العربية بعام قاسٍ وكابوسي، تسارعت فيه وتيرة التحولات بشكل دراماتيكي مباغت، على شتى الصعد، وبلغت ذروتها في حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل على غزة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

صانع محتوى شاب يحتل بروايته الجديدة قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في فرنسا، الخبر شغل مساحات واسعة من وسائل الإعلام

أنيسة مخالدي (باريس)
كتب «حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

«حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

صدر عن دار «السرد» ببغداد كتابان مترجمان عن الإنجليزية للباحثة والحكواتية الإنجليزية فران هزلتون.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
كتب كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

يتناول كتاب «حكايات في تاريخ مصر الحديث» الصادر في القاهرة عن دار «الشروق» للباحث الأكاديمي، الدكتور أحمد عبد ربه، بعض الفصول والمحطات من تاريخ مصر الحديث

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

سوريا بحاجة لاستعادة أبنائها

فواز حداد
فواز حداد
TT

سوريا بحاجة لاستعادة أبنائها

فواز حداد
فواز حداد

لدى السوريين عموماً عناوين غير مختلف عليها حول سوريا الجديدة: دولة مدنية. ديمقراطية. سيادة القانون. دستور. انتخابات. تداول السلطة. المواطنة. حرية التعبير والرأي. المساواة بين الرجل والمرأة. تَمتُّع إخوتنا الأكراد بحقوقهم كاملة في دولة لا تمثل كل طائفة ولا عرقية على حدة، وإنما جميع السوريين طائفة واحدة.

هذه هي سوريا الجديدة التي نطمح إليها، تبدو دولة مثالية حلمنا بها دائماً، ثم استعصى الحلم علينا، إلى أن نجحت الثورة ووضعتنا على أعتابها. لم يبقَ سوى أن نخطو نحوها، لكن لا بد أولاً من صناعتها على أرض الواقع؛ فهي وإن كانت متخيلة، فلا ينبغي بقاؤها أسيرة المخيلة.

يواجه تحقيق الدولة أكثر من معضلة، أهمها مسألة العلمانية. سوريا بلد متدين؛ ما يشمل جميع حملة الأديان؛ المسلمين والمسيحيين بمذاهبهم كلها دونما استثناء، كذلك الأكراد.

تفصل العلمانية الدين عن الدولة؛ ما يشكل حماية لجميع العقائد. ويتحدد الاختلاف حول تفسير العلمانية، ويتراوح بين الاعتدال والتشدد، وأعتقد أن هناك شِبه توافق على علمانية معتدلة حسب التعريف السابق، من دون الدخول في التفاصيل؛ ما يشكل الفضاء الروحي للإنسان، في حين أن المتشددة تلغي الدين ورموزه وتجلياته، وقد يبلغ بها الأمر المطالبة بتقنين المساجد ومنع الأذان، والدروس الدينية في المدارس.

وحتى لا يبقى هذا الجانب محل نزاع، ولا محل تجاذب سلبي في الدولة الجديدة، ينبغي التأكيد على حرية الاعتقاد، وصيانة المعتقد واحترامه، وعدم التعدي عليه. إن السوريين شعب مؤمن، خصوصاً مع ارتفاع نسبة الإيمان في العقد الأخير، في طبقات المجتمع من دون استثناء؛ الفقراء والأغنياء، نلاحظه في انتشار الحجاب الذي كان الرد الشعبي على القمع، والرد على التسيُّب الأخلاقي. فللأديان رأي في حياة البشر وسلوكياتهم وتوجهاتهم، وإن كانت غير ملزمة، لكنها غير ممنوعة من التعبير عنها.

يجب تحقيق توازن نحن بحاجة إليه؛ أي التعامل مع الواقع وليس إهماله، فالعلمانية مثل الديمقراطية؛ ليست ديناً، ولا بديلاً عنه، ولا تحل محله، ويحظر توريطه في أجندات سياسية. إن إدراك مُنظِّري العلمانية الصلبة أنهم لا يعيشون وحدهم في هذا البلد؛ يعني أنهم لا يستطيعون فرض مفاهيمهم المتطرفة على المجتمع.

إن ضمانة حرية المعتقد من ناحية الإيمان أو عدم الإيمان، من الحريات الشخصية التي لا يجوز المساس بها. والسبب؛ نحن لسنا بلداً غربياً، يجب ألا يكون الدين محل تجاذب... الوزارة ليست حزبية وإنما تكنوقراط لإنقاذ البلد من الضائقة الاقتصادية المستفحلة... الوزارة لا تمثل جهات ولا أحزاباً.

لدى الشعب السوري طاقات عظيمة تهدر في داخل البلد وخارجه. نحن بحاجة إلى استعادة أبنائنا، لكن يجب أن نقدم لهم الحوافز ولو بالحد المعقول.

* روائي سوري