إعادة تأهيل موسوليني للقرن الحادي والعشرين

ثلاثية روائية عنه تتصدر المبيعات وتتهافت عليها كبريات دور النشر

أنطونيو سكوراتي وغلاف روايته «م»
أنطونيو سكوراتي وغلاف روايته «م»
TT

إعادة تأهيل موسوليني للقرن الحادي والعشرين

أنطونيو سكوراتي وغلاف روايته «م»
أنطونيو سكوراتي وغلاف روايته «م»

طبع الزعيم الإيطالي بينيتو أندريا موسوليني (1883 – 1945) الحياة السياسيّة لبلاده الممتدة في قلب البحر المتوسط، متقلداً مناصب قيادية عدّة منذ العام 1922 قبل أن يتفرد بزعامتها وحتى يوم مقتله مع عشيقته وثلّة من معاونيه على يد مقاتلي حركة المقاومة الإيطاليّة عشيّة نهاية الحرب العالميّة الثانية.
النهاية الدراميّة للدوتشي كما كان يدعوه أتباعه أقل ما يليق بحياة طويلة عريضة قضاها الرجل بين بدايات متواضعة وانطلاقة مع اليسار الاشتراكي الإيطالي رفقة القيادات التاريخيّة المؤسِسة لذلك اليسار بمن فيهم المفكر الأشهر أنطونيو غرامشي (كانا يكتبان لذات الصحيفة في وقت ما)، قبل أن ينقلب عليهم ويؤسس الحزب الفاشستي الذي لم يكن حزبا سياسيا بقدر ما كان قوّة ميليشياويّة مافياوية الطراز ارتدت قمصاناً سوداء وحملت هراوات، ونجحت من خلال العنف المجاني المسرف بكسر شوكة التيار الشيوعي الصاعد حينها في البلاد، ومن ثم ينقضّ على الدولة نفسها فيحوّلها إلى ديكتاتوريّة عدوانية شنت غزوات متلاحقة ضد اليونان وليبيا وإثيوبيا قتل فيها ملايين البشر، وينخرط لاحقاً في حلف مع الرايخ الألماني الرابع في الحرب العالميّة الثانية أرهق النازيين الألمان أكثر ما أسعفهم لضعف مزمن في الجيش الإيطاليّ، إلى أن وقع أسيراً أثناء محاولته الفرار بعد سقوط معظم إيطاليا في أيدي الحلفاء ولسوء حظّه بيد قوّة من أعدائه اليساريين الذين كانوا يقودون المقاومة الشعبيّة الإيطاليّة، فكانت نهايته المؤلمة معلقاً من قدميه في محطة بنزين ريفيّة بعد إعدامه بطلق ناري كي يقنع بموته الفلاحون وبقايا الفاشست المنهزمين.
ذاكرة جيل كامل من الإيطاليين تمحورت حول شخصيّة الدوتشي، وتكررت مشاهد خطاباته المفعمة بالدراما الغاضبة من الشرفات في أذهانهم «حتى لم نعد نراها ونحن نشاهدها لكثرة ما قد عُرضت علينا مسبقاً» على حد تعبير أحدهم. لكن جيل موسوليني هذا بدأ في التلاشي شيئا فشيئاً، بحكم قصر أعمار البشر، ليأتي جيل جديد وُلد لآباء لم يشهدوا سوى أصداء التجربة الفاشية بعد سقوطها، وليس له من الخبرة التاريخيّة حول تلك المرحلة الحافلة من تقلبات الأيّام الإيطاليّة سوى بقايا الدعايات المبالغ بها عن الرجل الوطني ذي الهيبة والهيلمان الذي جعل إيطاليا عظيمة من جديد، مستعيداً أمجاد الدولة الرومانيّة القديمة قبل أن يختفي وراء حجرات التاريخ ومشاكل إيطاليا التي لا تنتهي.
لكن الرجل استعيد فجأة وبكل قوّة إلى قلب الجدل في البلاد وهذي المرّة من باب الرواية تحديداً، إذ تربعت «(م) ابن القرن العشرين» - الرّواية الضخمة (839 صفحة) التي كتبها الأستاذ الجامعي أنطونيو سكوراتي عن بدايات موسوليني في السياسة – على قمة أرقام مبيعات الكتب باللغة الإيطاليّة ولم تزل منذ عدّة أسابيع، وقد أثارت استثنائياً شهيّة الناشرين بمعرض فرانكفورت للكتاب حيث تسابقت دور النشر الكبرى في العالم إلى دفع مبالغ طائلة للحصول على حقوق الطبعات باللّغات المختلفة، إلى جانب إتمام الاتفاق مع منتجين على تحويل الرّواية إلى عمل سينمائي.
مثقفو إيطاليا ومعنيون بآدابها انتقدوا سكوراتي على ركوبه موجة تصاعد الفاشيّة في بلاده واعتبروا روايته تصب باتجاه إعادة تأهيل الدوتشي للقرن الحادي والعشرين وتقديمه للأجيال التي لم تعرفه كبطل قومي ترنو إليه الأبصار. وبالفعل فإن الشبان صغار السن تحديداً اندفعوا أكثر من غيرهم لقراءة الرواية، وكتب منهم كثيرون لمؤلفها يشكرونه لأنه جعل من تاريخ موسوليني أمراً مثيراً للاهتمام مقارنة بالطريقة المملة التي يقدّم بها في المناهج الإيطاليّة. وربما لن يكون مفاجئاً إذا تبيّن أن أغلبيّة مقتني الرواية اشتروها لحُبهم بموسوليني ورغبتهم معرفة المزيد عن تجربته المثيرة بعدما أصبح الفاشيون الإيطاليون الجدد جزءا من النظام الحاكم، وتعمُّد عدد من كبار الساسة – كان آخرهم وزير الداخلية - وضع الرجل في إطار إيجابي خلال أحاديثهم العلنيّة.
سكوراتي مع ذلك يقول بأنه شخصيّاً معاد لفكرة الفاشيّة، وأن الرّواية التي ستكون ثلاثيّة ليست إلا محاولة منه لتفكيك الصورة الصنميّة عن الزعيم الإيطالي التي بنتها عقود من البروباغاندا المكثّفة حتى اختفى موسوليني الإنسان وراء الطوطم، ولم يعد بالإمكان قراءة ملامحه الحقيقيّة. وبالفعل فإن الرواية الافتتاحية - التي تغطّي سنوات مرحلة الصعود بداية من الأجواء المضطربة في البلاد بعد الحرب العالميّة الأولى وانتهاء إلى تسجيل خطاب الدوتشي الشهير 3 يناير (كانون الثاني) 1925 أمام البرلمان وهي اللحظة التي يعتبرها المؤرخون الإعلان الرسمي عن قيام الفاشيّة الإيطاليّة - تبدو أقرب إلى نص تأريخي منه رواية أدبيّة، وينتمي ربّما إلى مدرسة الدّراما الوثائقيّة إذ يتكون من فصول قصيرة متخمة بتفاصيل سرد مدّعم بنصوص حقيقية من صحف ورسائل وبرقيّات وتقارير شرطة تعود إلى تلك الفترة. ورغم ادعاء سكوراتي تقديمه قراءة هادئة منزوعة الآيديولوجيا لتجربة موسوليني فإن نفس الرواية التي تتوارد أحداثها على لسان راوٍ يبدو متشككا لكنه يتجه إلى الوصف من وجهة نظر الدوتشي وأتباعه، ويعطي انطباعاً بأن الرجل أقلّ من وحش تاريخي كما يصفه أعداؤه، لا سيما في مقاطع تظهر قلق الزّعيم كأب حنون على صحة ابنه المريض مثلاً.
وللحقيقة فإن موسوليني عند نصف الإيطاليين على الأقلّ بقي بعيداً عن الوصمة التي ألصقت مثلاً بهتلر والنّازيين في ألمانيا بعد الحرب العالميّة الثانيّة، وهو ظلّ يتمتع بشعبيّة متزايدة بينهم أثناء فترة توليه السلطة طوال أكثر من عقدين ولحين مقتله رغم اطلاع قطاع واسع منهم على الفظائع التي ارتكبها الدوتشي، سواء ضد الإيطاليين اليساريين أو اليهود أو ضد العرب الليبيين والأفارقة الإثيوبيين. لكنّ السرّ الحقيقي لعدم تكثيف الدّعاية المضادة للمرحلة الفاشيّة في إيطاليا بعد انتهاء الحرب العالميّة الثانيّة هو القلق الأميركي من النفوذ الزائد للشيوعيين وقتها عندما كانوا يقودون حرب المقاومة ضد الفاشيّة، وهم حلفاء تقليديون لموسكو، الأمر الذي حدا بالأميركيين إلى دعم اليمين الإيطالي من جديد لإحكام قبضته على السّلطة من خلال عمليّة سريّة استخباريّة ضخمة (عرفت بالاسم الرّمزي غلاديو) استمرت لعقود وتكشفت في وقت متأخر من القرن العشرين. ولا شكّ في أن ذمّ زعيم اليمين الإيطالي الراحل لم يكن ليساعد على كسب ثقة أتباعه، ولذا غُضّ الطرف عن آثامه، وترك ليرتاح في قبره.
مهما يكن من أمر الرّواية الصاعدة إلى النجوميّة في توقيت مريب، فإن «(م) ابن القرن العشرين» لا تكتفي باستعادة شخصيّة تاريخيّة جدليّة إلى قلب النقاش السياسي المعاصر، لكنها أيضاً تفتح ملفات ثقافيّة وأدبيّة كثيرة، أقلّها دور الرّواية المتجدد في راهن الوقت كأداة معرفيّة، لا سيّما بين الأجيال الشابة، وطبيعة النّص الرّوائي الملتبس الملامح بين التأريخ والأدب الذي قدّمه سكوراتي، وأيضاً مسألة توظيف الفنون بعامّة - الرّواية تحديدا - في خدمة التوجهات السياسيّة خلال لحظة معينة، لا سيما أنه لم يعد ينطل على أحد طبيعة الترويج المكثّف الذي تتظافر أطراف صناعة النشر المعاصرة على بذله لتصعيد أعمال أدبيّة بعينها نحو النجوميّة على حساب أخرى. لكن الأهم من ذلك كله أن بينيتو موسوليني الرجل مضى بعد محاكمة عاجلة، لكن بينيتو موسوليني الفكرة لم يخضع للمحاكمة بعد، ولذا فإن شبحه سيطل علينا كلّما أظلمت الأزمنة.


مقالات ذات صلة

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان
خاص الكاتب الغزي محمود عساف الذي اضطر إلى بيع مكتبته لأحد الأفران (حسابه على «فيسبوك»)

خاص غزة تحرق الكتب للخبز والدفء

يعاني سكان قطاع غزة، خصوصاً في شماله، من انعدام تام لغاز الطهي، الذي يُسمح لكميات محدودة منه فقط بدخول مناطق جنوب القطاع.

«الشرق الأوسط» (غزة)

كيف رفض أبناء «نغوغي واثيونغو» تحرير العقل من الاستعمار؟

الكاتب الكيني نغوغي واثيونغو في حفل توقيع كتابين لابنه وبنته
الكاتب الكيني نغوغي واثيونغو في حفل توقيع كتابين لابنه وبنته
TT

كيف رفض أبناء «نغوغي واثيونغو» تحرير العقل من الاستعمار؟

الكاتب الكيني نغوغي واثيونغو في حفل توقيع كتابين لابنه وبنته
الكاتب الكيني نغوغي واثيونغو في حفل توقيع كتابين لابنه وبنته

الروائي والمُنَظِّر الما بعد كولونيالي، الكيني نغوغي واثيونغو، (يتوسط الصورة). يقف مائلاً بجذعه إلى الأمام، ميلاً يكاد لا يُدرك، باسطاً كفيه على كتفي ابنته وانجيكو وا نغوغي (يمين الصورة)، وابنه موكوما وا نغوغي (يسار الصورة)، كأنما ليحتضنهما أو ليتأكد من وجودهما وبقائهما أمامه، أو يتوكأ عليهما بدلاً من التوكؤ على العصا التي ربما أسندها إلى الجدار خلفه، أو في أي بقعة من المكان.

الصورة لقطة لاجتماع عائلي صغير، اجتماع ربما لا يتكرر كثيراً ودائماً ولوقت طويل بين أب يعيش وحيداً إلّا من رفقة كلبه في مدينة «إرفاين» في كاليفورنيا، وابن يقيم في مدينة «إثاكا»، حيث يعمل أستاذاً للأدب في جامعة كورنيل، وابنة استقر بها المقام في مدينة أتلانتا، حيث تعمل أستاذاً للكتابة الإبداعية في كلية الفنون الجميلة في ولاية جورجيا. شتات أسري صغير، نموذج من الشتات الأفريقي (الما بعد كولونيالي) الكبير، تتخلله لحظات مثل لحظة التقائهم في الصورة لحدث يظهر خلاله الشبه بينهم، الشبه العصي على الشتات تبديده ومحوه.

الحدث فعالية توقيع موكوما لروايته الرابعة «انبشوا موتانا بالغناء»، شخصياً أفضل «انبشوا قبور موتانا بالغناء»، وتوقيع وانجيكو لروايتها «مواسم في بلاد أفراس النهر» أو «فصول في بلاد فرس النهر». لا يحتاج إلى تأكيد أن عنواني الروايتين قابلان لأكثر من ترجمة. وبقدر ما تبرز الصورة، أو الحدث في الصورة، من تشابه بين الثلاثة، تقوم بوظيفة المعادل الموضوعي البصري لهذه المقالة التي تجمعهم.

النضال باللغة الأم

لكن هنالك ما لا تظهره الصورة، ولا توحي به. أقصد المفارقة التي يشكلها حضور نغوغي واثيونغو حفل توقيع روايتين مكتوبتين باللغة الإنجليزية لاثنين من أبنائه، اللغة التي توقف عن الكتابة الإبداعية بها في أواخر سبعينات القرن الماضي؛ وكان مثابراً في الدعوة إلى التوقف عن الكتابة بها.

كان قرار نغوغي التوقف عن الكتابة بالإنجليزية والتحول إلى الكتابة بلغته الأم سبباً مباشراً من أسباب اعتقاله والزج به في سجن الحراسة المشددة، عشية السنة الجديدة في عام 1977. كان ابنه موكوما في السابعة من عمره عندما ألقت السلطات الكينية القبض عليه بعد ستة أسابيع من النجاح الشعبي المدوي الذي حققه عرض مسرحيته المكتوبة بلغة «جيكويو»: «سأتزوج عندما أريد»، مسرحية أدّاها ممثلون غير محترفين من الفلاحين، واستهدفت بالانتقاد النخبة الحاكمة الكينية، مما دفع الحكومة إلى اعتقاله تحت ذريعة تشكيله خطراً على البلاد.

في زنزانته التي تحَوَّل فيها إلى مجرد رقم (K677)، وكفعل تحدٍ للسلطة أولاً، وكأداة للمقاومة والنضال من أجل تحرير العقل من الاستعمار ثانياً، بدأ نغوغي، وعلى ورق التواليت، في كتابة روايته الأولى بلغته الأم «شيطان على الصليب». يروي أن ورق التواليت كان مكدساً رصاتٍ تصل سقف الزنزانة، ورق قاس وخشن كأنما أُرِيد أن يكون استخدامه عقاباً للسجناء.

إن توقف نغوغي عن الكتابة بالإنجليزية بعد مرور ما يزيد على عشر سنوات من انعقاد «مؤتمر ماكيريري للكُتّاب الأفارقة الذين يكتبون باللغة الإنجليزية»، وضعه على مفترق طرق في علاقته مع «الماكيريريين»، الذين آمنوا بحتمية وأهمية الكتابة باللغة الإنجليزية، وفي مقدمتهم صديقه الروائي النيجيري تشينوا أتشيبي. ورغم تعكر صفو العلاقة بينهما ظل نغوغي يكنّ الاحترام لأتشيبي ومعترفاً بفضله عليه. فأتشيبي أول شخص قرأ روايته الأولى «لا تبكِ أيها الطفل» حتى قبل أن يكمل كتابتها، عندما حملها مخطوطة مطبوعة إلى مؤتمر ماكيريري أثناء انعقاده في جامعة ماكيريري في العاصمة الأوغندية كامبالا، في يونيو (حزيران) 1962. وكان له الفضل في نشرها ضمن سلسلة هاينمان للكُتّاب الأفارقة.

يقول نغوغي واثيونغو لمواطنه الكاتب كيري بركه في حوار نشر في صحيفة «ذا غارديان» (2023-6-13): «قال أتشيبي إن اللغة الإنجليزية كانت هدية. لم أوافق... لكنني لم أهاجمه بطريقة شخصية، لأنني كنت معجباً به كشخص وككاتب». أتوقع لو أن أتشيبي على قيد الحياة الآن، لعاد للعلاقة بين عملاقي الرواية في أفريقيا بعض صفائها، أو كله. فموقف نغوغي الرافض للاستمرار بالكتابة بلغة المستعمر، فَقَدَ (أو) أفقدته الأيام بعض صلابته، ويبدو متفهماً، أو مقتنعاً، وإن على مضض، بأسباب ومبررات الكتابة الإبداعية بالإنجليزية. فجلاء الاستعمار من أفريقيا، لم يضع - كما كان مأمولاً ومتوقعاً - نهاية للغات المستعمر، كأدوات هيمنة وإخضاع وسيطرة، فاستمرت لغاتٍ للنخب الحاكمة، وفي التعليم.

قرار نغوغي واثيونغو الكتابة باللغة التي تقرأها وتفهمها أمة «وانجيكو» قسم حياته إلى قسمين، ما قبل وما بعد. قِسْمٌ شهد كتاباته باللغة الإنجليزية الممهورة باسم «جيمس نغوغي»، وكتاباته بلغة «جيكويو» باسم نغوغي واثيونغو، تماماً كما قسّم مؤتمر ماكيريري تاريخ الأدب الأفريقي والرواية الأفريقية إلى ما قبل وما بعد - الموضوع الرئيس في كتاب ابنه موكوما وا نغوغي «نهضة الرواية الأفريقية».

في نهضة الراوية الأفريقية

من البداية إلى النهاية، يرافق «مؤتمر ماكيريري» قارئَ كتاب موكوما وا نغوغي «نهضة الرواية الأفريقية... طرائق اللغة والهوية والنفوذ» (الصادر في مارس (آذار) 2024) ضمن سلسلة «عالم المعرفة» للمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب (الكويت). وترجمه إلى العربية الأكاديمي والناقد والمترجم البروفسور صديق محمد جوهر. لم يكن كتاب نغوغي الابن الباعث على كتابة المقالة فحسب، وإنما المحفز أيضاً، حتى قبل البدء في قراءته، على قراءة رواية شقيقته وانجيكو وا نغوغي «مواسم في بلاد أفراس النهر»، وكانت ترقد على الرفّ لبعض الوقت في انتظار قراءة تهرب إلى الأمام باستمرار. فكان أن قرأت الكتابين في الوقت نفسه، منتقلاً من أحدهما إلى الآخر، بينما صورة نغوغي الأب، أو طيفه يحوم في أفق القراءة، ما جعلني أُسَلِّمُ بأن لا مفرَّ من جمع الثلاثة في مقالة واحدة، وقد وهبتِ الصورة نفسَها معادلاً موضوعياً بصرياً لها.

مؤتمر ماكيريري بآثاره وانعكاساته على الأدب الأفريقي هو الموضوع الرئيس في «نهضة الرواية الأفريقية». كانت المهمة الأولى على أجندة المجتمعين في كمبالا، الذين استثنوا من الحضور كل الذين يكتبون بغير الإنجليزية، تطويق الأدب الأفريقي بحدود التعريف. ولأنه لا توجد حدود دون نشوء لثنائية الداخل - الخارج، فإنهم لم يقصوا الآداب الأفريقية بلغات المستعمر الأخرى فحسب، بل أبقوا خارج الحدود كل الأعمال الأدبية المنشورة باللغات المحلية التي نشرت قبل 1962. على اعتبار أن كل ما سبق ماكيريرى من ثمانينات القرن التاسع عشر كان خطابة.

ينتقد موكوما أدباء ماكيريري على تعريفهم الضيق والإقصائي للأدب الأفريقي، ويدعو إلى أدب أفريقي بلا حدود، يشمل الكتابات المبكرة، وآداب الشتات الأفريقي، والقص الشعبي «popular fiction»، وإلى تقويض التسلسل الهرمي الذي فرضته «الإمبراطورية الميتافيزيقية الإنجليزية»، التي امتد تأثيرها إلى ما بعدَ جلاء الاستعمار، ولم يسلم موكوما نفسه ومجايلوه من ذلك التأثير، فقد نشأ في بيئة معادية للغات الأفريقية. من الأسئلة التي قد تبزغ في ذهن القارئ: ألم يمارس موكوما الإقصاء أيضاً؟ فقد انتقد «أصحاب ماكيريري»، ولم ينتبه إلى أن كتابه «نهضة الرواية الأفريقية» لم يتسع للرواية الأفريقية باللغة العربية وبلغات الاستعمار الغربي الأخرى في أفريقيا.

الأشياء لم تتغير في «فيكتوريانا»

بإزميل حاد نحتت وانجيكو وا نغوغي عالم القصة في روايتها «مواسم في بلاد أفراس النهر»، فجاءت لغتها سهلة وسلسلة، توهم بأن القارئ لن يواجه أي صعوبة في قراءتها. في هذا العالم تتمدد دولة «فيكتوريانا» على مساحة مناطقها الثلاث: ويستفيل ولندنشاير وهيبولاند، ويتربع فيها على عرشه «إمبراطور مدى الحياة». تقدم الرواية «فيكتوريانا» كصورة للدول الأفريقية، التي شهدت فساد وإخفاقات النخب الحاكمة وإحباط آمال الجماهير بعد الاستقلال.

الحكاية في «مواسم في بلاد أفراس النهر»، ترويها بضمير المتكلم الشخصية الرئيسة (مومبي). تبدأ السرد من سن الثالثة عشرة، من حدث له تأثير كبير في حياتها. فبعد افتضاح تدخينها السجائر مع زميلاتها في المدرسة قبل نهاية العام الدراسي بأيام، يعاقبها والداها بإرسالها برفقة شقيقها من «ويستفيل» إلى «هيبولاند» حيث تعيش عمتها سارة.

العمة سارة حكواتية انخرطت في شبابها في حركة النضال ضد المستعمرين، وبعد الاستقلال، وظفت قصصها لبث الأمل والشجاعة وتحريك الجماهير ضد الإمبراطور. الحكاية التي ترويها مومبي هي قصة نموها وتطورها إلى «حكواتية» ترث عن سارة رواية القصص، والتدخل في شؤون الإمبراطورية، لينتهي بها المطاف في زنزانة في سجن الحراسة المشددة. هنا تتسلل خيوط من سيرة نغوغي واثيونغو إلى نسيج الخطاب السردي. إن السرد كقوة وعامل تأثير وتحريض على التمرد والتغيير هو الثيمة الرئيسة في الرواية. ولدرء خطره على عرشه، يحاول الإمبراطور قمع كل أنواعه وأشكاله.

* ناقد وكاتب سعودي