شعرية الإطار وحكايات الهامش

تبرز فكرة الإطار في ديوان «من شرفة الأجداد» للشاعر أحمد أنيس كأداة لمعرفة العالم وتحولات الواقع والعناصر والأشياء، فثمة ذات شاعرة مسكونة بشعرية الإطار، تستند على النص كمحض إطار، تطل منه على الماضي وتستدعيه عبر مناخات الطفولة، حيث صورة العائلة، الجد والجدة والأم تختلط بنثريات المكان، وتشكل ملامحه وروائحه العالقة في الذاكرة. كما تشتبك مع الراهن بتعقيداته ومفارقاته الاجتماعية، في مشاهد ولقطات واقعية، تتناثر فوق محطة القطار وأرصفة الحياة، حيث تطالعنا ملامح بشر في شكل شحاذين ومحاربين نبلاء، لم يبق لديهم سوى غبار أحلام منكسرة ومسروقة، يجترون في ظلاله معنى وجودهم الهش المفتت. وتقفز هذه الشعرية إلى تمثلات من التراث الإنساني، عبر باقة من الرموز أثروا المعرفة الإنسانية، في حقولها المتنوعة، فيطالعنا (دارون، رامبو، بودلير، لوركا، دون كيخوتة، وأجواء من دراميات شكسبير... وغيرهم)، كما يعلق بها مس من عوالم الأسطورة والخرافة، فهناك حكاية الطوفان وسفينة نوح، يوسف والبئر وامرأة العزيز، يونس والحوت، مقتل الحسين، ومعجزات النبي موسي
من خلال هذا التعامل مع هذه الرموز والأساطير يبدو ولع الشاعر واضحا بحكايات الهامش، يراها ناقصة ومبتورة، تفتش عن لحظة اكتمال أخرى في النص، أبعد مما تنسجه الذاكرة والتاريخ، إنها حكايات أشبه بعش العنكبوت، ولا بأس أن يرى فيها معادلا رمزيا لحبيبته المستحيلة التي ينتظرها بصبر عنكبوت عجوز، كما يقول في النص رقم (1) الذي يستهل به الديوان:
«أنا انتظرتك
بصبر عنكبوت عجوز
من أجل صيدك تركت عشي القديم
اخترت أجمل ما في الروح من الزوايا
ونسجت شركا من خيوط الشعر والذاكرة
كل شيء كان جاهزا للسقوط
غير أني لم أدرك
أن فراشة بهذه الروعة
لا تحتملها كهولة عنكبوت
ولم أعرف من منا سينجو من الآخر؟».
تنسحب دلالة العنكبوت، على العلاقة بالآخر في الديوان، فالآخر شرك وعلى النص أن يكون لغمه، لذلك لا يتوحّد سؤال الضحية بسؤال الآخر، فثمة مسافة دائما بين الاثنين، مفتوحة على حكايات هي بمثابة فجوات في اللغة والتاريخ والطبيعة والإنسان. ولا بأس إذن أن تظل الحكاية ناقصة، وتظل الأسطورة كذلك أيضا، وتتسع المسافة بين الذات وموضوعها، ما يعني أنها تتحاشى الالتصاق به، مفضلة الوقوف داخل نقطة محايدة، تلمس من خلالها الأشياء عن بعد وبمهارة خاطفة أحيانا، دون أن تتورط في لعبة المع والضد، فالذات تخاف من هذا التورط، تتحسب له دائما، وتجد بديلا له باللعب في منطقة الحكايات الناقصة، والتي أصبحت من أصوات الماضي... هذه الإحالة إلى الماضي واتخاذه ملاذا آمنا للتخفي، نراها جلية، في هذا النص الافتتاحي أيضا بالديوان، حيث يقول الشاعر:
«كنت فأرا صغيرا من قبلك
أنا الكائن الليلي
ساكن البيوت القديمة والحارات المظلمة
الخائف مما لا يعرف
الوحيد دوما
العائش على بقايا البشر
كنتُ أجمع الأسرار من أسفل الطاولات
من حافات الشبابيك المغلقة
ومن مياه الغسل في ليالي الحب».
قد يصلح إحساس الذات الدائم بالخوف من العالم والأشياء والعناصر، في جعل الإطار ملاذا، أو حتى غطاءً لاتقاء شرور العالم وآثامه. وقد يبدو الأمر مطَمْئِنا، ما دام كل شيء يستقى وجوده وفعاليته من داخل النص، هكذا يطمح الشاعر، لكن أن تضع إطارا لشيء، معنى ذلك أنك تريد أن تقننه، أن تكون له وظيفة وغاية محددة، مهمة الإطار أن يلعب دورا في الوصول إليها، وإبرازها على النحو الذي ترتضيه، ويحقق ما تصبو إليه.
ومن ثم، سيكولوجيا، ورغم ما يبدو من علاقات حميمة بين الذات وما يحتويه الإطار نفسه؛ لا يخلو الأمر من الإحساس بالحبسة أحيانا، فأن تضع الأشياء في حيز ما، وتغادرها، متوهما أنك بذلك تصون حيويتها وفعاليتها، أنت في الوقت نفسه تقع في الوهم، فالأشياء قد تفنى، وتتحلل من تلقاء نفسها داخل الإطار، لا بد أن تتنفس وجودها خارجه أيضا، بل تكسره أحيانا وتطيح به، بحثا عن إطار آخر، تتجدد فيه، وتصنعه بأشواقها وأحلامها المقموعة المجهضة. ففي الفن الإطار مجرد حلية وزينة، لا يستطيع أن يحجب النور المنبعث من داخل اللوحة أو يوقف امتداده وذبذبته على عين المشاهد، ولا في جسد الزمان والمكان.
تعي الذات الشاعرة كل هذا قائلة في نص رقم (12) ص (32):
«لي ألفة مع الحكايات الحزينة
تلك التي لسبب غير واضح تجاهلها الرواة
الحكايات أيضا تشعر بالوحدة
تسأم من أتربة الأرفف
تتوق للألسنة والأذان».
يتابع النص مخاطبا الآخر في شكل المجموع، محاولا كسر رتابة الإطار، وخلق معادلة جمالية، تحوله إلى مجرد ظل وغبار لشيء ما، قائلا:
«نحن مثلكَ
مللنا النهايات الرتيبة
كم مرة ذهبنا إلى آخر الليل دون جدوى
كنا نبحث عن بداية
كنا نبحث عن نهاية
وكلنا صرنا من المسكوت عنهم
كنا نبحث عن نهاية أفضل
كنا نبحث عن بدايات جديدة
نحن مثلكَ
فقط سئمنا سطوة المؤلف».
لا سطوة للمؤلف هنا، بل إنها سطوة النص، الذي وقع في حبائل الإطار المحدَّد، الذي أطل منه الشاعر على كل شيء، لكنه لم يستطع أن يطل منه بعمق على ذاته، مكتفيا بمشاكستها في علاقات ومشاهد سريعة عابرة مغوية وبراقة في لحظتها وتراسلاتها الفنية الضدية، لكنها لا تصمد كثيرا في الذاكرة، لأنها ببساطة شديدة ابنة مفارقات الإطار- الحيز، وليست ابنة مفارقات الحياة، الأعرض، الأشمل، الأكثر ديمومة، وتناسلا ووجودا.
يشير الديوان إلى كل ذلك في نص رقم (23) ص (60)، هو برأيي من أجمل نصوص الديوان، فالرحلة تقفز من حيز الإطار المكاني الضيق العابر، الذي يمثله القطار رمزيا، لتصبح ترحالا في الزمن، زمن الحكايات الناقصة المبتورة، التي تنتظر نهايات وبدايات جديدة دائما، وتنتظر بالضرورة إطارا مغايرا دائم التجدد... يقول النص:
«في القطار أنجح في سرقة عشر خطوات على الأقل في كل محطة
لا لأشم رائحة المدن
ولا لأتغلب على ضعف مبكر في المفاصل
لا لشيء ذي دلالات عميقة
فقط... على أمل بأن أنجح
في تبادل ابتسامات ودودة مع مجاذيب المحطات
لربما ساعدتهم على البقاء في المحطة
أو ربما
ساعدوني لأبقى في القطار».
إن ما يزعجني في هذا الديوان الشيق حقا، هو هذه الحبسة التي أشرت إليها آنفا، فالشعر داخل الإطار، يبقى نتاجا لوظيفة محددة، يؤديها سواء على مستوى الصورة واللغة والرؤية والتشكيل، في سياق لا يخرج عن أطار المشهد، أو الحالة، أو اللقطة، فكل العناصر لها وظيفة محددة داخله، ولا تبرح ظلاله اللهم إلا على استحياء خجِل ومربك أحيانا، ما يجعل الإطار نفسه يبدو كثيرا وكأنه مغلق على ذاته.
وعلى سبيل المثال، رغم انفتاح الديوان على حدوسات معرفية شتى بينها أسماء ورموز وعلامات وأساطير، إلا أنها تحضر غالبا داخل النصوص في إطار كمي، مفتقدة معيار الكيف وحيويته، الذي يستدعي المساءلة والمناظرة وإعادة الرؤية وطرح الأسئلة من جديد. ما يجعل النصوص تبدو كأنها تكرس لفكرة التجاور أفقيا على السطح؛ على حساب التقاطع الرأسي، الذي ينبش ويحفر في العمق، واصلا ما بين الأقرب والأبعد، ما بين العابر الخاطف والمستديم الأبقى... ربما ينجو في هذا السياق، اللعب على رمزية دارون ومغامرته في تفسير نشأة التطور، وأيضا اللعب على طوفان نوح وسفينته، لكن باقي هذه التمثيلات لم تستطع أن تبرح معيار الكم والرصف الإنشائي داخل النص... يطالعنا هذه بشكل مباشر في نص رقم (20) ص (51) حيث لا تفلح الذات الشاعرة في دحض شبهة العلم بتأويل الحكاية عن نفسها، وتنداح في هذه الإطار الوصفي الكمي في التعامل مع أسماء ورموز شتى.
لقد أراد الشاعر أن يجعل ديوانه كتلة نصية واحدة، معتمدا على العنونة الرقمية، ما أفقد الديوان محور الإيقاع المشترك، الذي يلم شتات النصوص، وينمي ما تطرحه من عوالم ومناخات في فواصل وجسور شعرية شفيفة... لكن يبقى لهذا الديوان وهو الأول للشاعر أنه أثار كل هذه الملاحظات، بمحبة أعمق للشعر والجمال.