"أقطع يومياً مسافة تفوق ستة كيلومترات مشياً على القدمين لأجمع القوارير البلاستيكية والأكياس وبقايا الألومنيوم والزجاج ومختلف المواد القابلة لإعادة التدوير من صناديق النفايات لأطعم أولادي"... بهذه الكلمات بدأت زينة حكايتها مع جمع القمامة والبحث عن لقمة العيش من أجل إطعام أبنائها ومساعدة زوجها في توفير حاجات أسرتها.
تغمس زينة يديها في أكوام النفايات المتروكة في الشوارع والأزقّة الضيقة في تونس، وفي بقايا المنازل المكدّسة في الحاويات، غير آبهة بالروائح الكريهة ولا الأمراض التي قد تسببها، ولا بخطورة بعض النفايات الصناعية والطبية، مقابل حصولها آخر كلّ يوم على بعض الدنانير التي تحصل عليها من شركات متخصصة في إعادة التدوير.
عمرها تجاوز الستّين وما زالت لقمة العيش تضطرّها للخروج، لتحمل مساء كلّ يوم ما جمعته من بقايا النفايات على ظهرها المقوّس، إلى إحدى نقاط التجميع التي يديرها وسطاء بين جامعي النفايات، ومعامل إعادة التدوير في باب الخضراء، وسط العاصمة، فتبيع "غلّتها" بمبلغٍ لا يتجاوز أربعة دنانير، أي ما يعادل 1.37 دولار أميركي، وفق ما أكدته لـ"الشرق الأوسط"، وهكذا يتكرّر يومها على مدار السنة.
في مكان غير بعيدِ، في "الدندان" أحد الأحياء الشعبيّة القريبة من العاصمة، يدفع خالد فطناسي (44 عاماً) عربته الصغيرة التي تحمل عدداً من قوارير البلاستيك وأكياس الخبز وبقايا أخرى، في الشوارع والأزقة التي يمرّ فيها يومياً، وتعابير عينيه تنطق بالكثير من الحزن والتعب.
يقول فطناسي لـ"الشرق الأوسط": "حلمت بحياة طبيعيّة ووظيفة محترمة، بأن أتزوّج وأنجب أطفالاً، وأعيش كسائر أقربائي... طرقت كل الأبواب دون جدوى، وطال انتظاري ولم يهتم أحدٌ لأمري، فلم أجد سوى النبش في القمامة كمورد رزق لي، أعيل منه والدتي المريضة، وبالكاد أوفّر منه ثمن دوائها".
ويرى خالد أنّ نقاط التجميع، وهي الوسيط بين المصانع وجامعي القمامة، تزيد معاناة هؤلاء، إذ تشتري منهم المواد البلاستيكية بأبخس الأثمان ثم تبيعها لمصانع إعادة التدوير بأسعار أعلى بكثير.
خالد هو واحد من حوالى ثمانية آلاف جامع نفايات وفق أحدث إحصاءات "الجمعية التونسية للتصرف والاستقرار الاجتماعي"، يطلق عليهم باللّهجة العاميّة التونسية "البرباشة"، أي الذين ينبشون الفضلات لجمع ما قد يصلح لاستغلاله أو بيعه... هم أشخاصٌ تقطّعت بهم سبل الحياة فوجدوا في هذا النشاط مورد رزق.
وعلى الرغم من نجاح بعض الناشطين في مجال تدوير النفايات في إنشاء أول جمعية لـ "البرباشة"، فإنّ أغلبهم يواصل العمل بشكل عشوائي خاصّة في ظل غلاء المعيشة وانسداد آفاق العمل.
ويقول أحد المسؤولين عن مستودعات جمع القمامة والفضلات في تونس العاصمة لـ"الشرق الأوسط"، مؤثراً عدم كشف اسمه، إنّ معظم الأشخاص الذين يتعامل معهم، هم من كبار السنّ ممّن أنهكتهم الحياة فلم يجدوا حلاًّ غير جمع القمامة، مشيراً إلى أنّه يدفع يومياً بين 10 و30 ديناراً (بين 3.41 و10.22 دولار) للواحد منهم.
وتشير بعض الدراسات إلى أنّ مهنة "البرباش" تدرّ على الوسطاء مبالغ طائلة تفوق 200 مليون دينار (68.16 مليون دولار) سنوياً.
وتؤكّد المسؤولة في جمعيّة "البرباشة" كوثر المعروفي لـ"الشرق الأوسط" أنّ جامعي النفايات فئة مهمّشة اجتماعياًّ واقتصادياً، فضلاً عن تعرّضهم لشتّى الأخطار، خصوصاً الصحيّة بفعل طبيعة النفايات التي قد تكون في حاويات القمامة.
وتضيف المعروفي أنّ "البرباشة" يساهمون بنسبة 80 في المائة من أنشطة إعادة تدوير النفايات، غير أنّ أغلبهم يعاني من ظروف عمل قاسية ومن الحرمان من التغطية الصحية، كما أنّهم يتحدّون نظرة المجتمع القاسية إليهم لما تسبّبه لهم مهنتهم من حرج اجتماعي، مشيرةً إلى أنّ دخل جامع النفايات يترواح بين 8 و20 دينارا (بين 2.74 و6.85 دولار) في اليوم، مما يكفي بالكاد لسدّ الرمق.
*من مبادرة «المراسل العربي»