ما إن سمع نبيل المقيد عبر وسائل الإعلام المختلفة بسماح القوات الإسرائيلية للفلسطينيين في منطقة بلدة بيت لاهيا شمال قطاع غزة، بالعودة إلى منازلهم بزعم انتهاء العملية العسكرية هناك، حتى أسرع إلى محل إقامته المؤقت في الصف «د» في مدرسة «أبو حسين»، حيث يقطن إلى جانب عائلته بعد أن فر من منزله في منطقة السلاطين شمال بيت لاهيا، ليجمع ما لديه من بعض الأمتعة طالبا من زوجته وأطفاله الستة بالتجهز للعودة إلى منزلهم بعد أكثر من 18 يوما من النزوح.
وبعد نحو ثلاث ساعات وصل المقيد إلى منطقته وهو يتدرج بين المنازل بحثا عن الشوارع الفرعية التي اختفت معالمها تحت الأنقاض. واستمر مع زوجته في محاولة إيجاد منزلهما الذي اختفت كثير من المعالم حوله قبل أن يصل إليه ليجداه آيلا للسقوط إثر تعرضه لضربات جوية ومدفعية عنيفة كادت تسقطه بالكامل.
ولم تتوقف الزوجة سهام المقيد عن البكاء الشديد من هذا المشهد المهول الذي رأته بعد أن حل الدمار بمنزلها والمنازل المحيطة فيه ومعالم الحي الذي تقطنه. وقالت بلكنتها الشعبية لـ«الشرق الأوسط»: «سمحوا لنا بأن نرجع لبيوتنا كي نرى الدمار بعدما قصفوها، لا لنعيش فيها مثل باقي البشر، لكن كي ننكسر ونتحسر على شقا عمرنا الذي بنينا به المنزل ودمروه هم في لحظة». وأضافت: «يقتلوننا ثم يتظاهرون بالإنسانية ويطلبون منا نرجع لبيوتنا وكأنها مثل ما هي ولم يتغير فيها شيء».
وفي حين كانت الزوجة تتحسر على ما تملكه وما ضاع، وقف الزوج يتفقد ما تبقى من جدران المنزل التي صمدت ولم تسقط أمام الغارات الإسرائيلية، وراح يتفحصها قائلا: «بنيتكم بفلوسي حجر حجر، والآن ما ضل حجر ولا غيره»، معبرا عن الأسى في قلبه مما جرى لمنزله الذي استطاع، كما يقول لـ«الشرق الأوسط»، بناه بعد أكثر من عشر سنوات من العمل المتواصل حتى تمكن من تحصيل الأموال المطلوبة.
وانسحبت القوات العسكرية الإسرائيلية اليومين الماضيين بشكل تدريجي من عدة مناطق من قطاع غزة، وأعلنت عن إنهاء مهمتها في المنطقة الشمالية لقطاع غزة، في حين انسحبت من مناطق أخرى دون الإعلان عن انتهاء مهامها العسكرية.
وما إن تراجعت الآليات للشريط الحدودي شرق خان يونس، جنوب قطاع غزة، سارع الآلاف من سكان بلدة خزاعة إلى التوجه للبلدة لتفقد أحوالهم، حيث عثر على أعداد من الضحايا الذين قتلوا بداية العملية وتركوا لأيام طويلة ينزفون في الشوارع حتى ماتوا وانتشلوا لاحقا بعد انسحاب الآليات العسكرية.
مريم قديح، فتاة في العشرينات من عمرها، ما لبثت أن جمعت قواها بعد أن فقدت الكثير من أقربائها في ما عرف باسم «مجزرة خزاعة» وعادت إلى جانب شقيقتها مي إلى البلدة التي ترعرعت فيها وعشقت ترابها وهواءها النقي بين الأراضي والمساحات الزراعية الواسعة التي تملكها عائلتها وعائلات سكان تلك البلدة الحدودية.
وتقول مريم: «انتظرت هذه اللحظة كثيرا، لكني تمنيت لو أنني قتلت ولم أرَ منزل عائلتي الصغير وقد دمر كليا ولم يبقَ منه سوى الركام».
وأضافت أنها ستحاول في أسرع وقت إزالة الركام عن المنزل لانتشال بعض الصور والمتعلقات الخاصة بها والتي تذكرها بحياة عاشتها في كنف المنزل الذي يحمل أجمل ذكرياتها. وبينما تتحدث مريم لـ«الشرق الأوسط»، كان شقيقها أحمد، ذو الأعوام الستة، يبحث بين أطراف المنزل عن ألعابه الصغيرة، وخصوصا «الدببة» التي كان يعشق شراءها واحتضانها عند نومه. ولكنه بكى كثيرا حين لم يستطع العثور على أي منها فيما كانت مريم تحاول تهدئته وتوعده بشراء أجمل منها.
وأضافت مريم: «كل شيء هنا دمر، ذكريات طفولتنا وحياتنا وسعادتنا حتى أشقائي الأطفال جاءوا يبحثون عما تبقى من حياتهم القصيرة وطفولتهم الضائعة، لم يبقَ حتى جهاز الكومبيوتر الذي كنت دوما أعده صديقي المفضل ويوصلني بأصدقائي في العالم، كل شيء هنا ذهب ولن يعود».
فيما تقول شقيقتها مي، إن «البلدة أصبحت عبارة عن أكوام من الحجارة وأراض خالية فقط، لا يوجد أي شيء هنا، كل معالم المنطقة تغيرت ولم يبقَ منها إلا رائحة الموت والدمار والقتل، أناسٌ كثيرون فقدناهم وآخرون مصيرهم مجهول، هناك من نعرفه قتل، وهناك من نعرفه أصيب، ولكنّ هناك مفقودين قد يكونون جثثا بين الركام وربما يكونون معتقلين، كل ما تبقى لنا صور تمر في ذاكرتنا المفقودة».
عائلات فلسطينية تعود إلى منازلها لتجد الخراب بانتظارها
عائدون قالوا لـ {الشرق الأوسط} : ضللنا الطريق بعد اختفاء الشوارع تحت الأنقاض
عائلات فلسطينية تعود إلى منازلها لتجد الخراب بانتظارها
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة