«هذا المشهد لا يمكن للعالم أن يكذبه»... جملة ترددت كثيراً في تغطيات التلفزيون الرسمي السوري لإضاءة أشجار الميلاد في مناطق سورية متعددة، فهذا العام أضيئت أشجار في ساحات وأماكن عامة، لم يسبق أن رفعت فيها زينات الميلاد، كساحة العباسيين شرق دمشق التي تعد من أكبر ساحات المدينة وكانت خط تماس مع جبهة جوبر، وشهدت عدة معارك شرسة خلال الأعوام السابقة. واختارها النظام هذا العام لتكون أحد مواقع الاحتفال بأعياد الميلاد، حيث قامت محافظة دمشق بتزيينها بحبال الإنارة، فيما نَصبتْ فيها إحدى شركات الخليوي، أطول شجرة ميلاد في دمشق ودعت مشتركيها للمشاركة بكرنفال الميلاد. غير أنه خلف الأكمة سياسة مقصودة للفت الانتباه بعيداً عن مشكلات المعيشة اليومية، يصفه البعض بأنه احتفال على «الطريقة البعثية».
وتشهد أحياء باب توما والقصاع والقصور ذات الغالبية المسيحية، منذ بداية الشهر الحالي، ازدحاماً خانقاً وقطعاً للطرقات، بسبب التوافد إلى الحي لمشاهدة زينة الميلاد والتقاط الصور معها. وتبدي ميادة (من سكان القصاع) تذمراً من الازدحام والمبالغة بالاحتفالات: «على حد علمي، إننا المسيحيون، أقلية، لكن بعد الحرب يبدو أننا صرنا أكثرية». وتتابع: «المآسي لم تنته، والأزمات المعيشية لا تطاق؛ أزمة غاز، تقنين كهرباء، غلاء مازوت، ارتفاع جنوني في الأسعار. نحن بحاجة للملمة الجراح والتغلب على الأوجاع قبل الاحتفال».
أما لميس، فهي امرأة مسلمة جاءت من المعضمية بريف دمشق إلى حي القصاع، ورأت الأمر من زاوية أخرى، فهي اعتبرتها فرصة لتنزه أولادها وتمتعهم بزينة العيد و«بابا نويل»، وتقول: «من حقهم وحق أي طفل سوري ولد في الحرب أن ينعم بلحظات فرح، نحن شعب طيب محب للحياة، يكفينا ما عشناه من آلام وما نعيشه من فقر، لماذا لا نستغل فرصة الميلاد ونتقاسم عيش الفرح، كما تقاسمنا آلام الحرب؟».
أحد أصحاب المحلات في سوق القصاع لفت إلى أنه اشترك مع تجار السوق في تزيين الشارع ونصب شجرة كبيرة، لجذب المتسوقين إلى المنطقة وتحريك السوق الراكدة، وقد وجدوا تشجيعاً من قبل الدولة. لكن النتيجة كانت «ازدحاماً خانقاً وحركة بلا بركة». ويضيف: «معظم رواد السوق من جماعة (اللايك) (أعجبني). يسألون عن الأسعار ثم يمضون إلى الشجرة ليلتقطوا صورة (سيلفي) معها». ويرد صاحب المحل ذلك إلى تراجع القدرة الشرائية لدى الغالبية العظمى من السوريين «لا توجد سيولة مع الناس... الناس ما معها مصاري».
في ساحة العباسيين انتشرت عناصر الأمن وجنود النظام بكثافة بين المحتفلين، بينهم جنود روس بالعتاد الكامل لفتوا الأنظار إلى هيئتهم المختلفة عن نظرائهم السوريين. «بدوا وكأنهم خرجوا من (فيلم أكشن)» تقول لانا الصبية التي حاولت إظهارهم في خلفية «سيلفي» تلتقطه.
غير أن اهتمام محافظة دمشق بتزيين ساحة العباسيين وبعض الشوارع بإنارة مترفة، ترافق مع زيادة ساعات تقنين الكهرباء للحد من استهلاكها في التدفئة في ظل انخفاض درجات الحرارة، كما تزامن مع أزمة الغاز المنزلي الذي يلجأ إليه السوريون للتدفئة كون تكلفته أقل من المازوت. ناظم وهو مهندس خمسيني، من سكان ضاحية قدسية بريف دمشق، انتقد بشدة زينات الإنارة، واعتبرها هدراً «وقحاً» للكهرباء، وقال: «في ريف دمشق لا نرى الكهرباء وبذلها على هذا النحو، خساسة وإمعان في إذلال المواطن».
بعثي قديم تجاوز السبعين من العمر، ويعد من معارضي استيلاء الأسد الأب على الحزب، يراقب من شرفة منزله بحي القصور، احتفالات الميلاد لهذا العام، ويصفها بأنها على «الطريقة البعثية»، متذكراً احتفالات الحركة التصحيحية والأعياد الوطنية أيام الأسد الأب، ويقول: «كانت تسمى أعراساً جماهيرية، اليوم المشهد ذاته يتكرر بلبوس ديني غربي، مبهج مقبول من الأكثرية المسلمة، كمظهر حضاري، وأيضاً يغازل الغرب المتمثل بروسيا حليفة النظام ويبرهن على حمايته للأقليات، إضافة إلى أن يخلق توازناً مع الحضور الشيعي في دمشق، الذي استشرى واستشرس خلال سنوات الحرب، رغم أنف الغالبية السورية من مختلف المكونات السنية والمسيحية والعلوية». ولفت البعثي القديم إلى أن «استثمار النظام للدين، لا سيما المسيحي، يحقق عدة أهداف معاً، رغم تناقضه مع مبادئ (البعث) العلماني»، مشيراً إلى أن الأسد الأب كان «أكثر حنكة في اللعب على هذا الوتر، وطيلة عقود حكمه لم يسمح للمظاهر الدينية بالحضور في الشارع العام». وأضاف موضحاً: «كان مسموحاً للجميع بممارسة طقوسه وعاداته الدينية، خلف الجدران».
احتفالات مترفة في سوريا رغم التقشف
مع زيادة ساعات تقنين الكهرباء وغلاء الغاز والمازوت
احتفالات مترفة في سوريا رغم التقشف
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة