الروس يهجرون الإعلام الرسمي بعدما هجر هواجسهم

البث ركز على تكثيف البروباغندا السياسية وبرامج فضائح المشاهير

الروس يهجرون الإعلام الرسمي بعدما هجر هواجسهم
TT

الروس يهجرون الإعلام الرسمي بعدما هجر هواجسهم

الروس يهجرون الإعلام الرسمي بعدما هجر هواجسهم

تكون العلاقة بين المواطن ووسائل الإعلام محكومة دوماً بعدة عوامل تحدد مدى ثقة المتتبعين بهذه الوسيلة الإعلامية أو تلك. ولعل أهم ما يؤثر على الثقة بوسيلة إعلامية محددة، أو مؤسسات إعلامية بأكلمها، قدرة واستعداد تلك الوسيلة الإعلامية على تناول القضايا التي تثير اهتمام المواطن، وتشكل مصدر قلق له، وينتظر سماع أكثر من وجهة نظر بشأنها. هذه الرؤية العامة تنطبق بما في ذلك على نظرة المواطنين الروس لوسائل إعلامهم، لا سيما الرسمية منها. وكشف أكثر من استطلاع للرأي، أجرتها مؤسسات بعضها يوصف بأنه «مقرب من السلطات»، وبعضها الآخر بأنه «مؤسسات مستقلة»، عن تراجع ملموس في ثقة المشاهدين الروس بوسائل الإعلام الرسمية، الأمر الذي يحيله مراقبون وخبراء إلى أسلوب تعاطي تلك الوسائل الإعلامية مع قضايا حساسة تثير اهتمام المواطنين.
كانت حزمة الإصلاحات الاقتصادية التي أقرتها الحكومة الروسية، ومنها بصورة خاصة قرار رفع سن التقاعد، وزيادة ضريبة القيمة المضافة، قد أثارت جدلاً واسعاً في أوساط الرأي العام الروسي، وتسببت بموجة احتجاجات شهدتها أكثر من مدينة روسية. ويقول مراقبون إن وسائل الإعلام الرسمية، وإن خصصت مساحة محدودة جداً لعرض رد فعل الشارع على تلك الإصلاحات، فإنها ركزت بصورة رئيسية على عرض وجهة النظر الرسمية، وشرحها وتفسيرها والدفاع عنها، وهو ما تقول استطلاعات الرأي إنه أثر بشكل كبير على ثقة المواطنين بوسائل الإعلام تلك، وأدى إلى تدني ثقة المواطنين بأدائها بمستويات غير مسبوقة.
وكان لافتاً أنه في حين أوقفت القضايا الحساسة التي تثير اهتمام المجتمع المحلي، والتي يمكن أن تحظى بمتابعة أوسع عبر وسائل الإعلام، ذهبت بعض قنوات التلفزيون الفيدرالية إلى تكثيف البرامج الحوارية من مختلف الأنواع والتوجهات، مثل تلك التي تركز على شؤون السياسة الخارجية، لا سيما العلاقات المتوترة مع الغرب، ونوع آخر يمكن وصفه بأنه من نوع «الصحافة الصفراء»؛ يتناول مواضيع «مثيرة» لكن خيالية، مثل «زيارة كائنات من الفضاء الخارجي» و«تنبؤات بنهاية الكون»، وغيره من مواضيع مشابهة، ونوع آخر يتناول «فضائح» المشاهير، من ممثلين ورجال أعمال وبعض السياسيين، ولم يخل الأمر من برامج تحول فيها المذيع إلى محقق، يستخدم وسائل مثل «فحص الحمض النووي» للكشف عن قضايا خيانة زوجية، أو جهاز «الكشف عن الكذب» للتحقيق في القضايا ذاتها، أو جرائم قتل.
وأطلقت واحدة من قنوات التلفزيون الفيدرالية جملة برامج، بينها برنامج بعنوان «الزمن كفيل بأن يكشف».
وإن كان هذا البرنامج يتناول في بعض الحالات ملفات من الوضع الداخلي، فإنه يركز على ملفات السياسة الخارجية، وبصورة خاصة على التوتر مع الغرب، ومع بعض دول الجوار. على سبيل المثال، في واحدة من ثلاث حلقات بثتها القناة في يوم واحد، خلال قمة العشرين في بوينس أيرس، يوم 30 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، ركز البرنامج على قرار ترمب إلغاء محادثات كان متفقاً عليها مسبقاً مع الرئيس بوتين. وفي عرضه للملف، يتساءل مقدم البرنامج عن الأسباب التي تجعل الاهتمام كله ينصب على «ما قاله ترمب»، بينما يغيب الاهتمام عن قضايا مثل علاقات روسيا مع دول كبرى، مثل الصين والهند وغيرهما. ويعرض الضيوف في الاستوديو وجهات نظرهم، مع تركيز على فكرة يروج لها رسمياً، تقول إن المسؤول عن سياسات ترمب هذه هو وسائل الإعلام الأميركية والكونغرس. وقال أحد الضيوف، وهو أندرانيك ميغرانيان، البروفسور بجامعة موسكو الحكومية للعلاقات الدولية: «لو كنت مكان بوتين، لكتبت تغريدة أقول فيها: زميلي العزيز، أتعاطف معك، وأشعر بالأسف، لأنه بفضل جهود وسائل الإعلام الأميركية والكونغرس، تحولت إلى سياسي عقيم، لأن ما يجري يجعل من رئيس أكبر دولة في العالم موضع سخرية».
واتسعت المساحة من البث التي تركز على العلاقات بين موسكو وواشنطن، وتصاعد حدة التوتر بينهما، حين بدأ بث برنامج جديد بعنوان رئيسي «اللعبة الكبرى»، مع عنوان فرعي للتعريف «هذا البرنامج حول أهم شيء، حول مصيركم ومستقبلكم». وفي تعريفها لهذا البرنامج الذي يبث مساء كل يوم تقريباً، بعد المسلسل المسائي، تقول القناة على موقعها الرسمي: «في هذا البرنامج الحواري السياسي - الاجتماعي يتم تحليل الوضع الراهن، وعرض وجهات نظر الروس والأميركيين حوله. البرنامج محاولة لفهم هل سنتمكن من الاتفاق أم أن التناقضات الفكرية والثقافية تجعل اتفاقنا شبه مستحيل»، والحديث طبعاً حول العلاقات الأميركية - الروسية. ويدير البرنامج دميتري سايمس، وهو محلل سياسي أميركي من أصول سوفياتية، ويعمل حالياً رئيس تحرير مجلة «The National Interest» الأميركية، ويشاركه إدارة الحوار نيكولاي نيكونوف، وهو شخصية سياسية سوفياتية - روسية، عمل ضمن طاقم ميخائيل غورباتشوف، ومن ثم الرئيس بوريس يلتسين، وبعد ذلك شغل مقعداً في البرلمان الروسي عن حزب «روسيا الموحدة»، وهو حزب السلطة في روسيا حالياً.
وإلى جانب التركيز على السياسة والتوتر مع الغرب، تركز بعض القنوات التلفزيونية الفيدرالية (التي تبث على جميع مناطق البلاد) على ملفات الخيال العلمي و«سكان الكواكب الأخرى»، وغيره من قضايا من عالم الخيال. كما ظهرت على شاشات فيدرالية أخرى برامج جديدة تتناول قضايا مثل الخيانة الزوجية و«هل هذا ابنك أم لا»، وغيره من قضايا تصلح لشغل الرأي العام، وأن تكون مادة دسمة لـ«أحاديث المطبخ مع كأس شاي». هذه النوعية من القضايا يتناولها برنامج جديد، تحت عنوان «ما حدث في واقع الأمر»، معظم أبطاله من المشاهير الذين يواجهون مشاكل عائلية، ويضطرون للإجابة عن أسئلة مقدم البرنامج، مدعوماً بـ«لجنة تحكيم» هي بمثابة فريق تحقيق يعتمد في عمله على استجواب الضيف مع استخدام جهاز الكشف عن الكذب. وفي آخر حلقات هذا البرنامج الذي يُبث يومياً، يتناول فريق العمل قضية «مليونير روسي يراقب زوجته، ويكتشف خيانتها له مع شاب صغير»، وقبلها كانت القضية «خيانة زوج»، بطلها مخرج سينمائي روسي، متهم بخيانة زوجته الحالية مع زوجته السابقة، وتتطور الحبكة نحو توجيه اتهام للزوجة الحالية بخيانته، وأن ابنتهما ليست منه، وللتأكد من ذلك خضع «أبطال القصة» لفحص الحمض النووي الذي أكد أخيراً أن زوجته لم تخنه، وأن الابنة ابنته. وهذه حبكة ربما تبدو بسيطة مقابل حبكات حلقات أخرى من هذا البرنامج.
نظرة المواطنين الروس لعمل وسائل الإعلام برزت في أكثر من استطلاع للرأي، لعل أهمها الذي أجرته صحيفة «كوميرسانت» على موقعها الرسمي في سبتمبر (أيلول) الماضي، حيث عبر المشاركون عن موقفهم بالإجابة عن سؤال: «أصبحت البرامج السياسية على التلفزيون كثيرة. هذا يستعدي لديكم.....»، وقال 3.46 في المائة إن هذا يجعلهم يشعرون بأنهم يشاركون فيما يجري، وإنهم جزء من الحدث، و10.02 في المائة قالوا إن تلك البرامج تجعلهم يشعرون بـ«التشتت، حيث يظهر على الشاشات الأشخاص ذاتهم يصرخون، ويصبح من الصعب متابعة الحوار»، أما الجزء الأكبر (86.52 في المائة)، فقد عبروا عن استياء واضح من تلك البرامج، حين قالوا إن تلك البرامج تستدعي لديهم «الرغبة في إغلاق التلفاز». وشارك في الاستطلاع نحو 30 ألف مواطن، بينما تكتفي مراكز استطلاع الرأي الرئيسية برصد تعليقات ما بين 1500 و200 مواطن.
وفي نهاية نوفمبر الماضي، نشرت مؤسسة «صندوق الرأي العام» للمسح الاجتماعي استطلاعاً للرأي، أظهرت نتائجه تراجع الثقة بوسائل الإعلام الرسمية من 62 في المائة في مارس (آذار) 2014، إلى 47 في المائة في نوفمبر 2018. وكانت الثقة قد بلغت ذروتها، بنسبة 70 في المائة، في أبريل (نيسان) 2015. مقابل ذلك، ارتفعت الثقة بوسائل الإعلام غير الحكومية، من 16 في المائة ربيع عام 2014، إلى 25 في المائة من المواطنين الروس الذين عبروا عن ثقتهم بوسائل الإعلام الخاصة في نوفمبر 2018. استطلاع آخر للرأي أعدته مؤسسة «ليفادا سنتر» في منتصف سبتمبر (أيلول) الماضي، كشف عن تراجع ثقة المواطنين الروس بقنوات التلفزيون الروسية من 80 في المائة في أغسطس (آب) 2009، إلى 45 في المائة في أغسطس 2018. وعزت «ليفادا سنتر» تراجع الثقة بالتلفزيون إلى سببين: الأول، متصل بتزايد استخدام الإنترنت، والاعتماد عليه للحصول على الأخبار. والثاني، قرار رفع سن التقاعد، ولأن «تفسير إصلاحات المنظومة التقاعدية، كما تعرضه الشاشات، تعارض مع تفسير شرائح واسعة من المجتمع، لا سيما الفئات العمرية التي طالتها التعديلات على القانون».


مقالات ذات صلة

«حالة من الصمت» يحصد «جائزة الشرق الوثائقية»

يوميات الشرق الفيلم يتناول مخاطرة صحافيين بحياتهم لتغطية «سياسات المخدّرات» في المكسيك (الشرق الأوسط)

«حالة من الصمت» يحصد «جائزة الشرق الوثائقية»

فاز الفيلم الوثائقي «حالة من الصمت» للمخرج سانتياغو مازا بالنسخة الثانية من جائزة «الشرق الوثائقية».

«الشرق الأوسط» (جدة)
رياضة عربية المهندس خالد عبد العزيز رئيس المجلس الأعلى للإعلام في مصر (صفحة المجلس على «فيسبوك»)

مصر: قرارات جديدة لمواجهة «فوضى الإعلام الرياضي»

أصدر المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام في مصر، برئاسة المهندس خالد عبد العزيز مجموعة قرارات، اعتماداً لتوصيات لجنة ضبط أداء الإعلام الرياضي.

محمد الكفراوي (القاهرة)
أوروبا مراسلات يتحدثن أمام الكاميرات خلال تغطية صحافية في البرازيل (رويترز)

ثلثهم على أيدي الجيش الإسرائيلي... مقتل 54 صحافياً في عام 2024

قُتل 54 صحافياً حول العالم أثناء قيامهم بعملهم أو بسبب مهنتهم في عام 2024، ثلثهم على أيدي القوات الإسرائيلية، وفق ما أظهر تقرير سنوي.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق الصحافي سامح اللبودي والزميلة بيسان الشيخ من «الشرق الأوسط»

«الشرق الأوسط» تفوز ببرونزية «أريج» للصحافة الاستقصائية

فازت «الشرق الأوسط» بالجائزة البرونزية للصحافة الاستقصائية العربية التي تمنحها مؤسسة «أريج»، عن تحقيق: قصة الإبحار الأخير لـ«مركب ملح» سيئ السمعة.

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق صورة تذكارية لعدد من أعضاء مجلس الإدارة (الشركة المتحدة)

​مصر: هيكلة جديدة لـ«المتحدة للخدمات الإعلامية»

تسود حالة من الترقب في الأوساط الإعلامية بمصر بعد إعلان «الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية» إعادة تشكيل مجلس إدارتها بالتزامن مع قرارات دمج جديدة للكيان.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )

كاتدرائية «نوتردام» في باريس تعود إلى العالم في احتفالية استثنائية

صورة داخل كاتدرائية «نوتردام دو باري» بعد إنجاز ترميمها (إ.ب.أ)
صورة داخل كاتدرائية «نوتردام دو باري» بعد إنجاز ترميمها (إ.ب.أ)
TT

كاتدرائية «نوتردام» في باريس تعود إلى العالم في احتفالية استثنائية

صورة داخل كاتدرائية «نوتردام دو باري» بعد إنجاز ترميمها (إ.ب.أ)
صورة داخل كاتدرائية «نوتردام دو باري» بعد إنجاز ترميمها (إ.ب.أ)

قبل 861 عاماً، نهضت كاتدرائية «نوتردام دو باريس» في قلب العاصمة الفرنسية. ومع مرور العقود والعصور تحوّلت إلى رمز لباريس، لا بل لفرنسا. ورغم الثورات والحروب بقيت «نوتردام» صامدة حيث هي، في قلب باريس وحارسة نهر السين الذي يغسل قدميها. إلا أن المأساة حلّت في شهر أبريل (نيسان) من عام 2019، عندما اندلع حريق هائل، التهمت نيرانه أقساماً رئيسة من الكاتدرائية التي انهار سقفها وتهاوى «سهمها»، وكان سقوطه مدوياً.

منظر للنافذة الوردية الجنوبية لكاتدرائية نوتردام دو باريس(رويترز)

حريق «نوتردام» كارثة وطنية

وكارثة «نوتردام» تحوّلت إلى مأساة وطنية، إذ كان يكفي النظر إلى آلاف الباريسيين والفرنسيين والسياح الذين تسمّروا على ضفتي نهر السين ليشهدوا المأساة الجارية أمام عيونهم. لكن اللافت كانت السرعة التي قررت فيها السلطات المدنية والكنسية مباشرة عملية الترميم، وسريعاً جدّاً، أطلقت حملة تبرعات.

وفي كلمة متلفزة له، سعى الرئيس إيمانويل ماكرون إلى شد أزر مواطنيه، مؤكداً أن إعادة بناء الكاتدرائية و«إرجاعها أجمل مما كانت» ستبدأ من غير تأخير. وأعلن تأسيس هيئة تشرف عليها، وأوكل المهمة إلى الجنرال جان لويس جورجولين، رئيس أركان القوات المسلحة السابق. وبدأت التبرعات بالوصول.

وإذا احتاجت الكاتدرائية لقرنين لاكتمال بنائها، فإن ترميمها جرى خلال 5 سنوات، الأمر الذي يعد إنجازاً استثنائياً لأنه تحول إلى قضية وطنية، لا بل عالمية بالنظر للتعبئة الشعبية الفرنسية والتعاطف الدولي، بحيث تحوّلت الكاتدرائية إلى رابطة تجمع الشعوب.

وتبين الأرقام التي نشرت حديثاً أن التبرعات تدفقت من 340 ألف شخص، من 150 دولة، قدّموا 846 مليون يورو، إلا أن القسم الأكبر منها جاء من كبار الممولين والشركات الفرنسية، ومن بينهم من أسهم بـ200 مليون يورو. ومن بين الأجانب المتبرعين، هناك 50 ألف أميركي، وهو الأمر الذي أشار إليه الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، وكان أحد الأسباب التي دفعته للمجيء إلى فرنسا؛ البلد الأول الذي يزوره بعد إعادة انتخابه في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

متطوعون يضعون برنامج الحفل على المقاعد قبل الحفل (أ.ف.ب)

منذ ما يزيد على الشهر، تحوّلت الكاتدرائية إلى موضوع إلزامي في كل الوسائل الإعلامية. وخلال الأسبوع الحالي، حفلت الصحف والمجلات وقنوات التلفزة والإذاعات ببرامج خاصة تروي تاريخ الكاتدرائية والأحداث الرئيسة التي عاشتها في تاريخها الطويل.

وللدلالة على الأهمية التي احتلتها في الوعي الفرنسي، فإن رئيس الجمهورية زارها 7 مرات للاطلاع على التقدم الذي حققه المهنيون والحرفيون في إعادة البناء والترميم. وإذا كانت الكاتدرائية تجتذب قبل 2012 ما لا يقل عن 12 مليون زائر كل عام، فإن توقعات المشرفين عليها تشير إلى أن العدد سيصل العام المقبل إلى 15 مليوناً من كل أنحاء العالم.

المواطنون والسياح ينتظرون إفساح المجال للوصول الى ساحة الكاتدرائية (أ.ف.ب)

باريس «عاصمة العالم»

خلال هذين اليومين، تحوّلت باريس إلى «عاصمة العالم»، ليس فقط لأن قصر الإليزيه وجّه دعوات لعشرات من الملوك ورؤساء الدول والحكومات الذين حضر منهم نحو الخمسين، ولكن أيضاً لأن الاحتفالية حظيت بنقل مباشر إلى مئات الملايين عبر العالم.

وقادة الدول الذين قدّموا إلى «عاصمة النور» جاءوا إليها من القارات الخمس. وبسبب هذا الجمع الدولي، فإن شرطة العاصمة ووزارة الداخلية عمدتا إلى تشكيل طوق أمني محكم لتجنب أي إخلال بالأمن، خصوصاً أن سلطاتها دأبت على التحذير من أعمال قد تكون ذات طابع إرهابي. وإذا كان الرئيس الأميركي المنتخب قد حظي بالاهتمام الأكبر، ليس لأنه من المؤمنين المواظبين، بل لأنه يُمثل بلداً له تأثيره على مجريات العالم.

لكن في المقابل، تأسف الفرنسيون لأن البابا فرنسيس اعتذر عن تلبية الدعوة. والمثير للدهشة أنه سيقوم بزيارة جزيرة كورسيكا المتوسطية الواقعة على بُعد رمية حجر من شاطئ مدينة نيس اللازوردية، في 15 الشهر الحالي. والمدهش أيضاً أنه منذ أن أصبح خليفة القديس بطرس في روما، «المدينة الخالدة»، فإنه زار فرنسا مرتين، ثانيها كانت لمدينة مرسيليا الساحلية. بيد أنه لم يأتِ إلى باريس إطلاقاً. ووفق مصادر واسعة الاطلاع، فإن قرار البابا أحدث خيبة على المستويين الديني والرسمي. ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى حدث تاريخي رئيس، وهو أن بابا روما بيوس السابع، قدم إلى باريس يوم 2 ديسمبر (كانون الأول) من عام 1804، لتتويج نابليون الأول إمبراطوراً.

وتمثل لوحة الرسام الفرنسي الشهير لوي دافيد، التي خلد فيها تتويج بونابرت، ما قام به الأخير الذي لم ينتظر أن يضع البابا التاج على رأسه، بل أخذه بيديه ووضعه بنفسه على رأسه، وكذلك فعل مع الإمبراطورة جوزفين.

احتفالية استثنائية

لم يساعد الطقس مساعدي الاحتفالية الذين خططوا لأن تكون من جزأين: الأول رسمي، ويجري في ساحة الكاتدرائية الأمامية؛ حيث يلقي الرئيس ماكرون خطابه المقدر من 15 دقيقة، وبعدها الانتقال إلى الداخل للجزء الديني. وكان مقدراً للمواطنين الـ40 ألفاً، إضافة إلى 1500 مدعو حظوا بالوجود داخل الكاتدرائية، أن يتابعوا الحدث من المنصات التي نصبت على ضفتي نهر السين، إلا أن الأمطار والعواصف التي ضربت باريس ومنطقتها أطاحت بالبرنامج الرئيس، إذ حصلت كل الاحتفالية بالداخل. بيد أن الأمطار لم تقض على شعور استثنائي بالوحدة والسلام غلب على الحاضرين، وسط عالم ينزف جراء تواصل الحروب، سواء أكان في الشرق الأوسط أم في أوكرانيا أم في مطارح أخرى من العالم المعذب. وجاءت لحظة الولوج إلى الكاتدرائية، بوصفها إحدى المحطات الفارقة، إذ تمت وفق بروتوكول يعود إلى مئات السنين. بدءاً من إعادة فتح أولريش لأبواب «نوتردام» الخشبية الكبيرة بشكل رمزي.

كاتدرائية «نوتردام» السبت وسط حراسة أمنية استعداداً لإعادة افتتاحها (إ.ب.ى)

وسيقوم بالنقر عليها 3 مرات بعصا مصنوعة من الخشب المتفحم الذي جرى إنقاذه من سقف الكاتدرائية الذي دمرته النيران، وسيعلن فتح الكاتدرائية للعبادة مرة أخرى. ونقل عن المسؤول عن الكاتدرائية القس أوليفييه ريبادو دوما أن «نوتردام»، التي هي ملك الدولة الفرنسية، ولكن تديرها الكنيسة الكاثوليكية «أكثر من مجرد نصب تذكاري فرنسي وكنز محبوب من التراث الثقافي العالم، لا بل هي أيضاً علامة على الأمل، لأن ما كان يبدو مستحيلاً أصبح ممكناً»، مضيفاً أنها أيضاً «رمز رائع».

الأرغن الضخم يحتوي على 8 آلاف مزمار تم ترميمها وتنظيفها من غبار الرصاص السام (أ.ف.ب)

كذلك، فإن تشغيل الأرغن الضخم الذي تم تنظيفه وتحضيره للمناسبة الاستثنائية، تم كذلك وفق آلية دقيقة. ففي حين ترتفع المزامير والصلوات والترانيم، فإنه جرى إحياء الأرغن المدوي، الذي صمت وتدهورت أوضاعه بسبب الحريق. ويحتوي الأرغن على 8 آلاف مزمار، تم ترميمها وتنظيفها من غبار الرصاص السام. وقام 4 من العازفين بتقديم مجموعة من الألحان بعضها جاء مرتجلاً.

إلى جانب الشقين الرسمي والديني، حرص المنظمون على وجود شق يعكس الفرح؛ إذ أدت مجموعة من الفنانين الفرنسيين والأجانب لوحات جميلة جديرة بالمكان الذي برز بحلة جديدة بأحجاره المتأرجحة بين الأبيض والأشقر وزجاجه الملون، وإرثه الذي تم إنقاذه من النيران وأعيد إحياؤه.

وبعد عدة أيام، سيُعاد فتح الكاتدرائية أمام الزوار الذي سيتدفقوة بالآلاف على هذا المعلم الاستثنائي.

حقائق

846 مليون يورو

تدفقت التبرعات من 340 ألف شخص من 150 دولة قدموا 846 مليون يورو لإعادة ترميم نوتردام