ثقافة الحظ ومنهجية الجدارة

بين الرؤية العلمية والروح الشعبية

TT

ثقافة الحظ ومنهجية الجدارة

لقد أفرد ماكيافيلي، في كتابه الشهير «الأمير»، فصلاً كاملاً حول ما سماه «الحظ» أو Fortuna»». فبعد أن وضع الرجل كتابه حول المواصفات التي يجب أن يتحلى بها الحاكم لتحقيق هدفه النبيل الذي يغيب عن أغلبية قرائه، وهو توحيد إيطاليا وإعادة رونق الدولة الرومانية، عدّد الصفات التي يجب أن يتحلى بها الأمير، من شراسة وحنكة ومرونة وعنف ولين ومكر... إلخ. ولكنه لمح في فصله هذا إلى أنه من دون الحظ، فإنه سيفشل في مشروعه، فالتوفيق أو الحظ هو الجزء غير المنظور من السلوك الإنساني، مهما أخضعناهما للمنهجية العلمية والتجريبية، فلقد أكد كثيرون أن هذا العنصر خارج نطاق العلية، ومن ثم يصعب - بل قد يكون مستحيلاً - أن نضع له وسيلة للكشف عنه أو التنبؤ به، فهو عنصر غير منظور، ولكنه مؤثر للغاية في الحياة.
لقد أكد ذلك أبو العلاء المعري في مقولته الصادمة: «ولا تطلُبنَّ بغيرِ الحَظِّ رُتبة | قلمُ الأديبِ بغيرِ حَظٍّ مِغزلُ»، فهو يرى أن الحظ أساس النجاح. وعلى النقيض، نجد الفيلسوف الفرنسي الشهير فولتير لا يقيم للتوفيق أو الحظ وزناً، فيؤكد أن الحظ «كلمة مفرغة من المعنى، فلا شيء ينشأ من العدم»، أي أنه أخرج الحظ خارج معادلة النجاح، وأخضعه لقانون العلية، وهو أمر مفهوم بالنظر إلى أنه ابن عصر التنوير، بمنهجيته التجريبية في إطار العقلانية البحتة. إذن، فالمفهوم في نهاية المطاف غير موضوعي، وهو يعتمد على تقديرات ظرفية، وفقاً لشخصية المتلقي أو المحلل.
وأياً كان التوجه، فالثابت أن الحظ يكاد يكون عنصراً حاسماً في تراجم وسير الساسة والقادة العسكريين والمفكرين والرياضيين وغيرهم. وتحضرني هنا نماذج متعددة، فكيف كان سيصبح مصير قادة عظماء لولا تدخل الحظ لإنقاذهم؟ كيف كان سيصبح مصير الإسكندر الأكبر لو أن خطته البسيطة في معركة «جواجاميلا» اكتشفها خصمه الملك دارايوس ففشلت؟ ماذا كان سيحدث لو أن فولتير وُلد في أفريقيا أو منغوليا في هذا الوقت الحاسم من تاريخ الإنسانية؟ وكيف كان سيصبح مصير فكره؟ ماذا لو وُلد الفيلسوف المفكر الألماني كارل ماركس في رحاب الدولة العثمانية؟ ماذا كان سيصبح مصير محمد علي باشا ومصر لو أن مرض «الديزونتاريا» لم يقضِ على خصمه المملوكي الألفي بك قبل أيام بسيطة من استيلائه على القاهرة في زحفه المنتصر؟ ماذا لو لم يتدخل الجنرال مارات تدخله الحاسم لإنقاذ خطأ نابليون في معركة «مارنجو» الشهيرة التي أطلقت نجم الأخير في السماء؟ هذه مجرد نماذج بسيطة لدور حسن الطالع في مستقبل الأفراد، بل والأمم والشعوب، لأن الأفراد يلعبون دوراً حاسماً في توجيه أقدارها.
ولكن الثابت أيضاً أن حسن الطالع وحده لم (ولن) يجد مع الزمن، فحتى الابنة الأولى لحسن الطالع، وأقصد هنا ما درجنا على تسميته «المحسوبية» أو «الواسطة»، التي هي موجودة بشدة في أرقي المجتمعات فكراً وتطوراً، فيسمونها بالإنجليزية «Favoritism»، وفي الفرنسية «Patronage»، وفي العامية التركية «توربيد»... إلخ، لا تصمد طويلاً ما لم تبنَ على عنصرين أساسيين، هما: الجدارة (أو ما درج على تسميتها في علم الإدارةMeritocracy» »)، والاستمرارية. وحتى لو وُضع الشخص في مكان ما، فمن دون هذين العنصرين لن يصمد طويلاً. ألم تؤل الخلافة لعبد الملك بن مروان لأنه ابن مروان بن الحكم؟ ولكن لولا جدارته واستمراريتها ما كان يمكن له أن يحسم الأمر، ويعيد رونق الدول الأموية، بعد أن تفتت سياسياً بسبب الحرب الأهلية، والتاريخ يمتلئ بحالات تجمعت فيها عناصر النجاح بسبب تكامل عناصر: الحظ والجدارة والاستمرارية.
إذا كان من المؤكد أن تسيد ثقافة الحظ والمحسوبية أخطر ما يمكن أن يصيب المجتمعات، وهذه حقيقة مسلم بها، فإن الحظ ومشتقاته، بصفة عامة، أمر لا غنى عنه لشرارة النجاح، ولكنه أبداً لا يضمن الاستمرارية. فالجدارة هي في حقيقة الأمر المعيار الحاسم زمنياً، ولكنها قد لا تجد تجسيداً بغير الحظ. وفي أحيان أخرى، يحدث التناقض السلوكي بين مفهومي الكفاءة والحظ، فيكون المفهومان متناقضين لأسباب تتعلق بالطبيعة البشرية للبعض، وهنا تكون مقولة الأديب العظيم نجيب محفوظ «ليس أسوأ من الحظ السيئ إلا الرضا به» دواءً لهذه الظاهرة.
وختاماً، تحضرني مقولة الفيلسوف الروماني سينيكا عن أن «الحظ هو تعامد الفرصة مع الاستعداد»، فالضعيف لن يقويه حظه طويلاً، والجاهل لن يوفر له القدر علماً، والفاسد فكراً وسلوكاً لن يحميه حسن الطالع طويلاً. ومهما طال الزمن، فهو حتماً في سلة مهملات الذكريات. ولعلي هنا لا أتواكل إذا ما أكدت المقولتين المتكاملتين للمولى، عز وجل: «وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ» و«وَقُلِ اعملوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ».



تقنية جديدة لتقليل مدة التئام العظام

يستخدم فريق البحث تياراً ضوئياً لتنظيم الخلايا المناعية (جامعة هونغ كونغ)
يستخدم فريق البحث تياراً ضوئياً لتنظيم الخلايا المناعية (جامعة هونغ كونغ)
TT

تقنية جديدة لتقليل مدة التئام العظام

يستخدم فريق البحث تياراً ضوئياً لتنظيم الخلايا المناعية (جامعة هونغ كونغ)
يستخدم فريق البحث تياراً ضوئياً لتنظيم الخلايا المناعية (جامعة هونغ كونغ)

طوّر فريق بحثي من جامعة هونغ كونغ في كوريا الجنوبية، طلاءً مبتكراً يستجيب للضوء لتسريع اندماج العظام مع الزّرعات الجديدة بعد إجراء جراحات العظام. وقد ثَبُت أن الطلاء المطور يقلّل من وقت الالتئام إلى أسبوعين فقط، ممّا يسرّع معدل التعافي بعد الجراحة إلى الضعف، فضلاً عن تقليل خطر رفض الجسم للغرسات.

ويستكشف حالياً، الفريق صاحب الابتكار، بقيادة البروفيسور كيلفن يونغ واي كوك، من قسم جراحة العظام والصّدمات، كلية الطب السريري في جامعة هونغ كونغ (HKUMed)، تطبيق هذه التكنولوجيا في جراحات استبدال المفاصل الاصطناعية، بما في ذلك جِراحات استبدال الركبة التي تُجرى بشكلٍ شائع في هونغ كونغ.

وفي بيان صحافي صدر الجمعة، قال يونغ واي كوك: «أثبتت التّجارب على الحيوانات أن هذه الطريقة تعمل على تسريع عملية دمج العظام مع الغرسة بشكلٍ كبيرٍ، مما يؤدي إلى زيادة مضاعفة في معدل الاندماج».

ووفق النتائج المنشورة في دورية «أدفانسد فانكشينال ماتيرالز»، فإن عملية دمج العظام مع الغرسة تسارعت من 28 يوماً إلى 14 يوماً فقط، مما أدى إلى مضاعفة السرعة بشكل فعّال.

وتُمثّل هذه الدراسة أول دراسة تَستخدم تياراً ضوئياً لتنظيم الخلايا المناعية بشكل غير جراحي. ومن المتوقع أن يؤدي هذا الاكتشاف إلى تقدّمٍ كبيرٍ في تطوير مواد حيوية جديدة قادرة على التّحكم عن بُعد في البيئة المناعية للعظام.

ويمكن أن يؤدي الاضطراب في البيئة المناعية العظمية أثناء مرحلة ما بعد الزّرع إلى ارتخاءِ الزرعة الجديدة، وإطالة وقت التعافي وزيادة المضاعفات بعد الجراحة، مما يؤدي في النهاية إلى فشل الزرعة. ولمعالجة هذه التحديات، طور فريق جامعة هونغ كونغ الطبية طلاءً مبتكراً يستجيب للضوء القريب من الأشعة تحت الحمراء (NIR)، يؤثر بشكل إيجابي على استجابة الخلايا المناعية، ممّا يُقلل بشكلٍ فعّالٍ من الالتهاب الحاد خلال المرحلة الحاسمة بعد الزرع.

وتتضمن هذه العملية توليد تيار ضوئي يُحفِّز تدفُّق الكالسيوم المتزايد في نوعٍ من الخلايا المناعية يُعرف بالخلايا البلعمية، مما يخلق بيئة مناعية عظمية أكثر ملاءمة. وهذا يُعزّز بدوره تكوين العظام، وبالتالي تسريع عملية دمج العظام بالزرع.

وتلعب الخلايا البلعمية دوراً محورياً في عملية تجديد العظام، وهي من بين الخلايا المناعية الأولى التي تستجيب، فتبدأ تفاعلاً متسلسلاً ضرورياً لتكامل العظام مع الغرسة.

وعند إدخال الغرسات، تُصبح هذه الخلايا المناعية نشِطة وتحفّز استجابة التهابية حادة، وتُطلِق السيتوكينات المؤيّدة للالتهابات، لتسهيل تجنيد الخلايا الجذعية المتوسطة (MSCs) وبدءِ عملية تجديد العظام. لذلك، من الأهمية في مكان استعادة بيئة متوازنة بين العظام والغرسة، خصوصاً بعد مرحلة الالتهاب الأولية، لمنع الالتهاب طويل الأمد وضمانِ نجاح تكامل الغرسة.

وعادةً ما يجري طلاء الغرسات العظمية بثاني أكسيد التيتانيوم (TiO2)، وهو غير سامٍ لخلايا العظام والبكتيريا، ولكن لديه حدود في استجابته للأشعة القريبة من الأشعة تحت الحمراء.

في هذه الدراسة، استخدم فريق البحث هيدروكسيباتيت (HA)، المكوِّن الأساسي للعظام والأسنان، لتطوير سطحٍ قابلٍ للإثارة يستجيب للتيار الضوئي.

ويُولِّد الطلاء الجديد إشارات ضوئية كهربائية عند تعرّضه للأشعة القريبة من الأشعة تحت الحمراء، ممّا يقلّل بسرعة من الالتهاب الحاد ويخلق بيئة مناعية مفيدة مصمّمة لحالة المريض، ويؤدي في النهاية إلى تسريع تكامل العظام مع الغرسة ويجعل الغرسات أكثر أماناً.

وأضاف البروفيسور يونغ واي كوك قائلاً: «نجح فريقنا في تطوير آلية جديدة تعمل على تعديل تمايز الخلايا المناعية بشكل غير جراحي وفقاً لدورة المناعة لدى المريض واحتياجاته»، وتابع: «هذا الاكتشاف له تأثيرٌ عميق على معدل نجاح جراحة العظام ويوفر اتجاهاً جديداً لمعالجة التّحديات السريرية، مثل رفض الزرع».