كريم معتوق: بعد 40 عاما اكتشفت السياب.. ففقدت رعونتي الشعرية

الشاعر الإماراتي: كتبت الرواية والشعر.. ولا أجد نفسي إلا شاعرا

كريم معتوق
كريم معتوق
TT

كريم معتوق: بعد 40 عاما اكتشفت السياب.. ففقدت رعونتي الشعرية

كريم معتوق
كريم معتوق

يرى الشاعر الإماراتي كريم معتوق أن تجربة أمير الشعراء «حركت المياه الراكدة في المشهد الشعري، وجعلته شعبيا وجماهيريا». وكان معتوق أول شاعر يتوّج بلقب «أمير الشعراء»، في النسخة الأولى من مسابقة أمير الشعراء التي تنظم في أبوظبي.
معتوق ما زال محافظا على بنية القصيدة وملتزما بموقع الشعر ديوانا للعرب، رغم أنه أصدر عددا من الروايات الأدبية والمجموعات القصصية، جنبا إلى جنب مع مجموعاته الشعرية مثل: «مناهل»، و«طوقتني»، و«هذا أنا»، و«مجنونة»، و«حكاية البارحة» و«السامري» و«رحلة الأيام السبعة». في مجال الرواية أصدر: «حدث في إسطنبول»، و«هل يحب الله أميركا؟»، و«خذلتك الأمة»، و«أعصاب السكر»، و«قصائد قصيرة»، و«رحلة ابن الخراز».
هنا حوار أجري معه خلال زيارة قام بها أخيرا إلى الرياض:
* كتبت قصيدة تحت عنوان «عتاب متأخر للسيّاب».. فيم كنت تعتب عليه؟
- بعد التأمل لمدة تزيد على الأربعين عاما من كتابتي الشعر، التفت لتجربة السياب بعد ذلك، بعد مرور أربعين عاما بعد وفاته، وتجلى ذلك في تحولي في كتابة قصيدة التفعيلة، حيث إنني قبل لقائي السياب وقراءتي شعره كنت في تلك الرعونة الشعرية في البداية، التي كانت تمنعني من قراءة أي نص غير مشروط بالشكل العمودي، إلى أن قرأت السياب، وعندها أدركت أنني أكاد أضيّع مجرة من الإمكانيات والخيال الشعري وهي شعر التفعيلة، ومن هنا جاء هذا العتاب متأخرا، إذ كتبت هذه القصيدة للسياب في فترة سابقة. السياب ليس شاعرا مجيدا فحسب، بل يتميز عن بقية الشعراء في أنه أسس ابتداعا شعريا في زمن لا يزال فيه كثير من الشعراء يتخبطون من أجل البحث عن ريادة وهمية فيما يسمى قصيدة النثر أو ما يسمى قصيدة الومضة وكل الصراعات التي تمنح صاحبها فضل الريادة. السياب شاعر عظيم، وهؤلاء الذين استطاعوا في مجتمع كالمجتمع العراقي العريق في الشعر والمسكون بأعلام الشعر وموروثاته، التي بسطت سيطرتها الأدبية والسياسية أيضا كالجواهري وغيره، يخرج هذا الشاعر ليتبنى نهجا جديدا وهي مغامرة تحسب له.
المرأة التي تزرع الشعر
* رغم «صدود المرأة عنك» كما تقول في إحدى قصائدك، فإنك لا تزال «تحلف باسمها شعرا»!
- من الأجمل ألا يطلع القارئ على ما وراء العمل الإبداعي لأنه في الغالب، وخاصة في الرواية والقصة القصيرة، يمثل جزءا بسيطا من الورقة وجزءا كبيرا من الخيال، فيصبح أمامك عمل إبداعي، فإذا أوغلت في خصوصية العمل وذهبت إلى تفكيك هذا الخيال وفضح سرّه فسيبقى جزء يسير من الواقع الذي يؤمن به القارئ، ولكنه يخسر جزءا كبيرا كان به الفن والخيال العامران. لا أعني أنه لا توجد أعمال عن قصة حقيقية على أرض الواقع، ولكن كل واقع حقيقي لا بد أن يجمّل بالخيال لأنه يجد صداه في الشعر، فالحديث عن وقائع مثلا في السرد وارد، فإن كان للقصة القصيرة والرواية مساحة من الواقع، ففي الشعر يجب أن تضيق هذه المساحة إلى أكبر درجة. أما هذه القصيدة «أتصدك امرأة وتحلف باسمها»، فتجسد الكثير من الحب لمن تحب لأنه هناك حالات أشبه بها وهو الحب من طرف واحد، والآخر حين يصدّ عنك ربما يزيد من شعلة الحب فيك. نحن مع المرأة في كل حالاتها إذا كانت قادرة على زرع الشعر في قلوب الشعراء والروائيين والقصاصين، وأن تنجب الخيال للحالمين، ولا تعنينا المرأة العابرة التي تمر على الغيم ولا تنزل المطر.
* رثيت شاعر المرأة نزار قباني «في ليلة السفر» دون غيره.. هل تأثرت به؟
- طبعا نزار قباني شاعر علم، وأنا حضرت عددا من أمسياته الشعرية، وصادف أيضا أن التقينا في جلسات خاصة، وسهرنا ليالي معا. لقد كان الشاعر المحرر لجيل كبير من الشعراء. وأهم ما في نزار أنه يحرّض على القراءة، فكم هم الشعراء الذين يحرضون على القراءة؟ قد يصادف أن تلتقي أناسا، تسألهم لمن تقرأون الشعر؟ فيقولون قرأنا ديوانا أو ديوانين لنزار فقط، وهذا يعني أن الأخير لم يحرض فقط الشعراء على كتابة الشعر ولكن حرض أيضا الآخرين على القراءة، وترتب على تحريضه دفع الكثير من النساء لأن يكنّ في الصورة التي يرسمها نزار في كثير من قصائده، سواء تلك المرأة القوية والقادرة على أن يكون جمالها محور حديث هذا الكون أو الصورة الأخرى الشبيهة لها.
* تتحدث عن تجربتك المختلفة عن الآخرين.. غما الذي يميز هذه التجربة؟
- لا أزعم أن تجربتي قصيرة ولا أزعم أنها تجربة حكيم طويلة جدا، ولكن لا أكتب شعرا دون أن يكون لي بصمة خاصة. لقد كتبت عدة دواوين كانت بمثابة فرادة لي على الصعيد الشخصي وعلى الساحة، فالطفولة على سبيل المثال، أكاد أكون الوحيد الذي كتب عن الطفولة كاملة، فكتابتي عنها عبارة عن لوحات من الحديث عن الطفولة من الداخل. ليس الطفولة كما يراها الكبير الآن أو كمن يتحسر عليها. هناك كتابة من الداخل، تعنى بالتفاصيل. كذلك كانت تجربتي مع «رحلة الأيام السبعة». وأكاد أجزم أنني الوحيد الذي كتب ديوانا من الشعر كاملا في أدب الرحلة، إذ إن هذا النوع من الأدب دوّن رواية ونثرا ولكن لم يدوّن شعرا، وأزعم أنني ممن ساهموا في تكريس السرد في الشعر العربي وهو اتجاه لا يتقنه الكثير، أو لنقل لا يحبه الكثير أو لا يكتبه الكثير أو لا يستطيعه الكثير.

* «أمير الشعراء»

* توّجت أميرا للشعراء في أول دورة لمسابقة «أمير الشعراء».. حدثنا عن هذه التجربة؟
- تجربة «أمير الشعراء»، حركت المياه الراكدة في المشهد الشعري العربي، وأصبحت حقيقة، وأخذت مكانتها من الإعلام العربي ما لم يأخذه حدث ثقافي أو شعري آخر، وأدركت في مشاركتي في الدورة الأولى أنها قدمتني بشكل ماسي إن لم يكن ذهبيا للقارئ العربي الذي لم تكن لي إمكانية الوصول إليه بهذا الشكل المباغت، فالأمسيات الشعرية والندوات والمحاضرات ومعارض الكتب، كلها تؤدي إلى تعارف ووصول الأديب إلى نخبة صغيرة من القراء المعنيين بالثقافة، أما «أمير الشعراء»، فجعل المشهد الشعري شعبيا وجماهيريا، والمشهد الشعري لم يكن قبل ذلك إلا نخبويا، فقد كانت الرياضة والغناء هما فقط المتسيدان في المشهد الجماهيري والشعبي العربي، واستطاع هذا البرنامج لعدة أسباب، أذكر منها الاسم والعنوان الذي انتقي بمهارة جذبت عامة المشاهدين. قد يختلف معه بعض الشعراء ولكن هذا دأبهم في الاختلاف، أيضا وجود آلية محكمة للتصفية جعلت كل مشاهد عربي طرفا في هذه المسابقة، فأخذت بعدا جماهيريا عالميا، وهي لفتة تحسب للمنظمين، أضف إلى ذلك أن النخبة الأولى التي اشتركت في «أمير الشعراء» كانت من أبرز الشعراء في الوطن العربي، منهم من كان لديه رصيد إعلامي في بلده، وغالبيتهم هكذا، ومنهم من كان قادرا على أن يخلق جماهيرية له وكان ينتظر فقط المناسبة التي يصل من خلالها إلى الآخر، فأنا وصلت إلى الجماهيرية العربية، وقد حملني البرنامج مسؤولية أن أقدم ما يعجب القارئ، وأن أحافظ على هذه المكانة، إذ إن البرنامج لم يخلق شعراء، ولكنه قدمهم في أجمل صورة جماهيرية، ولم يحدث أن قدم الشعر من قبل بهذه الصورة.

* الرواية والشعر

* حدثنا عن تجربتك الروائية..
- روايتي الأولى كتبت في عام 1997، وروايتي الثانية أنهيتها عام 2000، ولكنني لم أطبعها إلا في عام 2013 لأنني وقتها توقفت عن النشر، وكان لدي الكثير من الدواوين الشعرية التي كان لا بد من طباعتها، قبل طباعة الرواية، فالرواية الأولى تتحدث عن رحلة إلى إسطنبول يقوم بها شاب خليجي يلتقي مجموعة من الخليجيين، وفيها إسقاطات تاريخية كثيرة على إسطنبول وما تعنيه من تاريخ في الذاكرة العربية في تلك الفترة، التي سادت فيها الإمبراطورية والخلافة العثمانية على المنطقة العربية، وتدور أحداث وتفاصيل كثيرة خلالها، وأما الرواية الثانية فتدور أحداثها عام 300 قبل الهجرة، وهي تاريخية تعيّشك في ذلك الزمان في الجزيرة العربية، وهي عبارة عن قصة قصيرة تتخللها الرواية، وليس كما علمنا بأن تكون هناك قصة قصيرة داخل الرواية.
* بين القصيدة والرواية.. أين تجد نفسك؟
بالطبع أجد نفسي في القصيدة فقط، فأنا شاعر وأعلم أن هناك من تتأتى له عدة مواهب، وهذا ليس بغريب، فالشعر هو فيض من الوحي يتنزل دون حدود وتخطيط، ولكن الرواية تتطلب تراكم الخبرات، التي يضعها الكاتب في عمل روائي، يعتقد وقتها أن إناء القصيدة لا يحتمل هذا الركام الثقافي والآراء التي قد تكون سياسية اجتماعية أو عاطفية أو غيرها، حيث إن هناك مواصفات خاصة لإناء القصيدة لحمل الشعر، فحينما حمل البعض الأسرى في إناء القصيدة لم تحمله ولم توصله إلى الناس وبقيت هذه التجربة حبيسة الإصرار بكتابها وليست رهينة رغبة الجماهير فيها.
* لكن الرواية برزت في المشهد الثقافي ووجدت سوقا ومساحة من الانتشار على حساب الشعر.
- (مقاطعا) قد تكون الرواية نجحت في أن تبيع عددا كبيرا وأن تترجم وتباع في دول أخرى، ولكن الشعر ليس له مجال واسع في الترجمة مما نعرفه، ولكن الشاعر العربي يبقى أهم من الروائي العربي، فالشعر ابن لغته ولا يمكن ترجمته، ولهذا فغالبيتنا لا يعرف شاعرا فرنسيا ولكن يعرفون فيكتور هوغو، ولا يعرفون شاعرا إنجليزيا ولكنهم يعرفون كولن ويلسون والكثير من الروائيين، كما لا يعرفون شاعرا أميركيا ولكن يعرفون إرنست همينغوي؛ فالرواية عمل عالمي يمكن أن يترجم ويصل بلغات أخرى إلى العالم وقد تنجح الرواية في بلد عربي وتصبح عملا مهما، ولكن غير قادرة على أن تكون حديث المجالس أو حديث العامة.
* وماذا بالنسبة للمجتمعات العربية؟
- يبقى الشاعر في المجتمعات العربية هو أهم من الروائي، وأبسط مثال على ذلك أن الأديب نجيب محفوظ حصل على أعلى جائزة عالمية وهي نوبل، ولكنه عندما يمشي في الشارع أو يقيم ندوة لا يجد أهمية ما يجده نزار قباني ولا محمود درويش وغيرهما من كبار الشعراء، لهذا فإن مقولة إن الرواية سحبت البساط من الشعر لا أتقبلها البتة، فالرواية فن جيد ولها قراؤها، ولكنها ليست بتأثير القصيدة، فالشعراء الأولون كانوا قادرين على أن يبتكروا الرواية، ويقال إنهم أول من كتب الرواية والقصة، ولكنهم لم يجدوها تتناسب مع الذهنية العربية في تلك الفترة ولم تكن تناسب الإيقاع العربي الذي كان يميل إلى التطريب.
* هل يعني أنك ستستمر في كتابة الرواية على حساب الشعر؟
- لا لا.. كتابة الرواية تفرضها الرواية فقط، ولم يحدث أن خططت لكتابة رواية، فالرواية الأولى كانت محاولة لكتابة قصة قصيرة أو مذكرات التقائي بمترجم في إسطنبول كان يعمل معنا، ووجدت نفسي، دون أن أدري، أكتب رواية، والحدث الآخر أنني مررت على حدث تاريخي في الثقافة والذهنية العربية، فوجدت نفسي مشدودا بالكتابة عن شخصية معينة، وكنت أتساءل عمن يكون هذا الشخص ومن والده، والقصة يعرفها القارئ في الرواية، فكأنني عثرت على الحل بجهد تاريخي موجود من قبل ثلاثمائة عام قبل الهجرة من خلال هذا العمل الروائي، أما اليوم فإنني لست مثل الروائيين الآخرين أخطط لعمل روائي آخر، وأبدأ بوضع الخطوط الأولى له وتجميع الأهداف والأفكار التي تناسب هذا العمل لتجد مكانها في الرواية، وإنما العمل الروائي عمل مطبخي بالدرجة الأولى، هناك مطبخ في ذهن الروائي يعد جميع التفاصيل وأدوات ولوازم الطبخ قبل بدء الطبخ وتوزيع الأدوار بين البطل أو البطلة والشخوص المكملة الأخرى للحدث، فأنا لا أفكر في ذلك، ولكن إن راودتني رواية جديدة، فسأكتبها بكل متعة دون أن أنجز أي عمل مسبق مخطط له، كما أفعل بقصائدي التي تأتيني فكرة صغيرة فأدونها في انتظار أن أنطلق في كتابة هذه القصيدة.
* ما تقييمك لحركة النقد في الإمارات؟
- يقال، وأعتقد أنها حقيقة، إن الإبداع يسبق النقد بخطوة، فكان الإبداع في الأمام سواء كان شعرا أو رواية وغيره، فالنقد يأتي خطوة أخرى، ليس بسبب تأخر الأهمية فالناقد يستجلي ما كتب ويقرأ قراءة أخرى لما كتب ويستوضح ما كتب ويبحث عما كتب، ويخبئ ويجمّل ما كتب، لا أن يرسم كتالوغات خاصة ليقول للكاتب اكتب هكذا وصور هكذا وإلاّ أصبح الروائي هو المبدع وليس الناقد، وعموما لم يعد هناك نقد في سائر المنتجات الأدبية لا في الإمارات ولا في كثير من البلاد العربية، غير أن الإمارات تمتاز بكثافة إعلامية تفوق المنتج الثقافي المحلي، ولذلك نجد الإبداع العربي موجودا في الإمارات من خلال أنشطتها الثقافية المتعددة، ترتب عليه وجود حراك ثقافي عربي في هذه البلاد.

* سيرة ذاتية

* رئيس اتحاد كتاب الإمارات في أبوظبي سابقا
* الإصدارات الشعرية:
مجموعاته الشعرية مثل: «مناهل»، و«طوقتني»، و«هذا أنا»، و«مجنونة»، و«حكاية البارحة» و«السامري» و«رحلة الأيام السبعة».
* الإصدارات الروائية:
«حدث في إسطنبول»، و«هل يحب الله أميركا؟»، و«خذلتك الأمة»، و«أعصاب السكر»، و«قصائد قصيرة»، و«رحلة ابن الخراز».
* كتب في الصحافة المحلية «بالقلم الأزرق» في جريدة «الاتحاد»، وزاوية «ملح وسكر» في مجلة «كل الأسرة»، ومقالا يوميا في زاوية «معكم» بجريدة «أخبار العرب».
* أعد وقدم برامج إذاعية وتلفزيونية منها «مدارات» لإذاعة أبوظبي و«الثقافة والناس» لتلفزيون دبي، وبرنامج «مبدعون تحت الضوء» و«وجه القصيد» و«أنا أعتقد».



ليزا جيرارد واللغة الخاصة

ليزا جيرارد واللغة الخاصة
TT

ليزا جيرارد واللغة الخاصة

ليزا جيرارد واللغة الخاصة

من وجهة نظر الموسيقار الألماني هانز زيمر، قلائل في العالم من يُتقنون الغناء، منهم المغنية الأسترالية ليزا جيرارد. ولعل أشهر أغنياتها هي التي عُرفت بعنوان «الآن قد أصبحنا أحراراً»، تلك التي عرفها العالَم من خلال فيلم ريدلي سكوت «المجالد» 2000، الذي سيُعرض الجزء الثاني منه هذا الشهر وستكون ليزا من يُلحنه ويضع موسيقاه التصويرية، من دون هانز زيمر هذه المرة.

في سنة 2000 استمتعت الجماهير بالصوت العميق العذب لكنهم احتاروا في اللغة التي تغني بها السيدة. بدت لأناس شبيهة بالعبرية، وآخرون ظنوا أنها تشبه اليديشية، لكنها ليست من هذه ولا من تلك. ولا علاقة لها باللاتينية ولا باللغات الميتة ولا الحية. لقد ألقت بنا في حيرة لفترة من الزمن. لكن المؤكد أنها فازت بجائزة «غولدن غلوب» على تعاونها مع زيمر في إبداع موسيقى الفيلم، ورُشحت لـ«أوسكار» ذلك العام.

بعد البحث عن لغة هذه الفنانة، اتضح أن ليزا جيرارد تغني بلغة خاصة بها، لغة اخترعتها هي للحديث بواسطتها إلى الله، عندما كانت طفلة صغيرة. تقول ليزا:

«أغنِّي بلغة القلب، لغة مخترَعة امتلكتها منذ زمن طويل. أعتقد أنني بدأت الغناء بها عندما كان عمري 12 عاماً تقريباً. وحينها اعتقدت أنني كنت أتحدث إلى الله، عندما غنيت بهذه اللغة. الموسيقى هي مكان للجوء. إنها ملاذ من الرداءة والملل. إنها شيء بريء للغاية، ومكان يمكن أن تتوه فيه عن نفسك، في الأفكار والذكريات وكل التعقيدات. أعلم أنني سأغني لبقية حياتي. سأغني ما حييت، لأنني أؤمن بأنها هبة من الله ويجب التشارك فيها مع الآخرين».

رغم عذوبة ما قالت والأفكار التي أثارتها فإنها من ناحية فلسفية قد دخلت في «أرض العمالقة» دون أن تشعر بذلك، فقضية اللغة الخاصة من كبرى قضايا فلسفة اللغة في القرن العشرين، ولطالما تَجادل الفلاسفة حولها بين مُثبتٍ ونافٍ. فهذا جون ديوي ولودفيغ فتغنشتاين في فلسفته المتأخرة وويلارد كواين، كلهم يُنكر اللغة الخاصة، لأنه إذا ثبت قيامها ثبت أن أسماء الإحساسات تكتسب معناها عن طريق الارتباط بموضوع عقلي لا نلاحظه إلا ملاحظة داخلية.

إنهم لا يعترفون بلغة يبتكرها شخص واحد لا يفهمها سواه، ويرفضون أيضاً القول إن ما يدور في الذهن أمر خاص بكل فرد بصورة جوهرية ولا سبيل إلى إيصاله إلى الآخرين. وعندما نفكر في أفكارنا الروحية الخاصة، فإننا نستخدم المفردات التي تتقيد بالتعبير العام. لا بد من قواعد عامة، حتى عند الحديث عن الألم. قد أصف ألمي، وقد أصف ألمك، لكن لن يشعر بالألم إلا من وقع عليه.

لا بد أن نلاحظ هنا أن اللغة الخاصة ليست مجموعة من الرموز التي يضعها شخص فيأتي آخر فيفك رموزها. اللغة الخاصة لا يمكن تعليمها للآخرين مثل سائر اللغات المعروفة، بل هي مثل شطحات الصوفية، لا يمكن اعتمادها معرفةً مكتسَبةً تُدرّس للطلبة. هي لغة تشير كلماتها إلى الإحساسات الخاصة الذاتية وإلى الحياة الداخلية المعروفة للمتكلم وحده، والتي تكون مغلقة في وجه أي شخص آخر.

في حقيقة الأمر، حجة اللغة الخاصة، لو وقع الاعتراف بقيامها، تفنِّد الكثير مما قامت عليه الفلسفة الحديثة فيما يتعلق بالعقل والمعرفة، مثل الثنائية الديكارتية، أو المعطيات الحسية وأهميتها عند التجريبيين الإنجليز. وهي أيضاً تفنّد وجهة نظر فتغنشتاين في فلسفته المبكرة التي تقول بفكرة «الأنا وحدية» أي «الأنا» وحدها هي الموجودة. يقول فتغنشتاين:

«ما تعنيه الأنا وحدية صحيح تماماً، ومع ذلك لا يمكن قوله، وإنما يُظهر نفسه. والقول إن العالم هو عالمي يُظهر نفسه في الحقيقة القائلة إن حدود لغتي تعني حدود عالمي».

إنه يرفض كل الافتراضات التي تقوم عليها اللغة الخاصة، وعنده أن فهم اللغة والتمكن منها يستلزم القدرة على استعمال كلماتها وفقاً لقواعد معينة. واتباع قواعد استعمال اللغة هي ممارسة اجتماعية، فهي فعالية نتدرب عليها بوصفنا أعضاء في جماعة لغوية، ولا يمكن أن يكون اتباع القاعدة مسألة خاصة، لأنه في الحالة الخاصة لا توجد طريقة للتمييز بين اتباع القاعدة بالفعل وأن نظن أننا نتبعها. عند فتغنشتاين تكلُّم اللغة يعني الاشتراك في صورة الحياة، ويعتمد هذا الاشتراك في صورة الحياة على تدريب الإنسان، وهذا التدريب يحدث علانية في المجتمع. ولهذا لا توجد «خبرة خاصة» ولا «لغة خاصة» تُستخدم للتعبير عن تلك الخبرة، فاستعمال اللغة يتطلب معايير عامة وعلنية. ولا يمكن أن تقوم لغة من دون وسط سياقي. وجود اللغة يعني وجود قواعد تحكم استعمالها، وهذا يستلزم إمكانية فحص ذلك الاستعمال. والكلمات الدالّة على الإحساس والمشاعر الخاصة لا يمكن فحصها. إذن اللغة الخاصة مستحيلة، ولو افترضنا وجودها، فإنها ستكون عديمة الفائدة تماماً، حسب عبارة فتغنشتاين.

بهذا التقرير يتضح أنه ليس من الصواب أن نسمي ترانيم ليزا جيرارد لغة، فاللغة يجب أن تكون مفهومة في وسط اجتماعي معين ويجب أن تقوم على قواعد. لكنَّ هذا لا ينطبق على شطحات الصوفية، فلغتهم ليست لغة شخص واحد، بل هناك قاموس كامل خاص بهم، وهو تداولي فيما بينهم، ويمكن تدارسه وفهمه.

* كاتب سعودي