الرواية تقضم صناعة العرب الأصيلة

الشعراء تحولوا إلى مقدمي جلسات للروائيين في أحسن حالاتهم

حسب الشيخ جعفر - عبد الخالق الركابي
حسب الشيخ جعفر - عبد الخالق الركابي
TT

الرواية تقضم صناعة العرب الأصيلة

حسب الشيخ جعفر - عبد الخالق الركابي
حسب الشيخ جعفر - عبد الخالق الركابي

لم يكن يخطر ببال الشعراء في يوم من الأيام أن يكون الروائيون نجوماً أكثر لمعاناً منهم، ولم يمر ببالهم أنْ يعرف الناس الروائيين أكثر منهم، كما أنهم لن يصدقوا أبدا أنْ يأخذ الناس صوراً مع الروائيين و«بموبايلات» الشعراء.
حدث كل هذا وأكثر، ويبدو أنه يحدث دائماً في هذه الأيام وخصوصاً في معارض الكتب، حيث يتبختر الروائيون بمشيتهم في المعرض، وكأنهم «نجوم سينما» فيما يتهامس الشعراء مع بعضهم وكأنهم يسرقون شيئا، وهم يندبون حظهم على دواوينهم الكاسدة، وبضاعتهم المزجاة، ويبدو أن عكاظ الشعر التي يفخر بها الشعراء تحولت إلى «عكاظ الرواية» حتى إن عدداً ليس قليلا من الشعراء بدأ بكتابة الرواية طمعاً بالصور مع الناس، أو طلباً لنجومية بأثرٍ رجعي، والغريب أني سألت الشاعر الكبير «حسب الشيخ جعفر» قبل 6 أشهر من زيارتي له مع عددٍ من الأدباء والكتاب في بيته، ماذا تكتب هذه الأيام أستاذنا؟ فقال: إني أكتب رواية، فاستغربنا جميعا، وقلت له: لماذا؟ فذكر لي مثلا يردده الأدباء «الروس» ما معناه «بأن أي شاعرٍ لن يكون شاعراً إلا إذا كتب رواية» ولهذا ــ والحديث لحسب الشيخ جعفر ــ أكتب رواية جديدة هذه الأيام ــ وبالتأكيد حسب الشيخ جعفر لا يحتاج إلى كتابة رواية لكي يعرف فهو أحد أكبر قاماتنا الشعرية.
لذلك فالحديث عن أن الرواية ملحمة القرن العشرين هو حديث مسند، لأنَه زحف إلى الحادي والعشرين، وفرش أجنحته عليه، وإذا كانت العرب أمة شعرية بامتياز، ها هي تستسلم اليوم لتفسح المجال للرواية في التجول في طرقاتها، وتحويل شخصياتها من شخصيات من لحم ودم إلى شخصيات ورقية.
الشعر هو ابن البادية أو الصحراء كما يقولون، والرواية هي بنت المدينة والمدنية، فهل دخلنا نحن العرب إلى عوالم المدنية؟ لندخل عصر الرواية نافضين أيدينا عن الشعر صناعتنا الوطنية الوحيدة؟
كل ذلك الحديث ليس ساخراً ولا ممتعضاً، إنما هي بعض مما شاهدتُه في بعض معارض الكتب العربية التي زرتها، فوجدتُ أن الرواية تتصدر قائمة المبيعات بالنسبة للكتب، وأن أصدقائي الروائيين هم نجوم المعارض، وهم حاضرون طيلة أيامها، يوقعون كتبهم باستمرار، والبعض منهم نفدت كامل النسخ منها، وعدد آخر من الكتب كلها علامات وظواهر جديدة في الثقافة العراقية، على الأقل تلك الثقافة التي تتسم بالشعرية، وإن الشعراء فيها هم رواد منتجها الثقافي، وإنهم لا يسمحون للحداثة أن تمر إلا من خلال عيونهم، وإذا بكل عنفوان الشعراء الذي نعرف، يتحولون إلى مقدمي جلسات للروائيين في أحسن حالاتهم، أو يأخذون صوراً لهم مع معجبيهم دون أنْ يشعر بهم أحد.
هل نحن إزاء منعطف جديد في الثقافة العراقية؟ هل إن الرواية أكثر مساحة من الشعر أو القصيدة لتحمل أوجاع العراقيين؟ أم إن أسئلة الأمة التي كان يحلم بها العراقيون لا تُصاغ إلا بالزمن السردي؟ هل الجدل العراقي والحراك السياسي والتحولات الدينية وجدت حاضنتها في الرواية؟ هل 2003 ذلك التاريخ الخطير في عمر العراق صار علامة فارقة لكسر الخطوط أمام أصوات أقلام الساردين؟ هل للجوائز التي حصل عليها بعض الأصدقاء كالبوكر وغيرها سبب في أن يلتفت العالم لنا من خلال الرواية دون غيرها؟ أم إن الرواية حائط سهل يغري بتسلقه كل ذي رجلين كما يقول «سامي مهدي» عن قصيدة النثر؟
هل تحولت الرواية في العراق إلى فن العادة، بحيث أصبحت الكتابة الروائية هي الطريق الأسهل للكتابة والطباعة والنشر وحتى للظهور إعلامياً.
ثم، هل نحن فعلا أمة تحكي كثيراً؟ فجلُ ما نحتاجه هو أنْ نضم أفكارنا ونسلسل أحاديثنا بكتب ونبيعها، أم إن الشعر فعلا تنازل عن كرسيه «البابوي» أو سُلب منه وأُعطي للسرد؟ علما أن العرب التي يُضرب المثل بها في الشعر، كان لها نتاجٌ عظيمٌ في النثر، ولكنه اندثر لأسباب دينية وسياسية ــ على ما يبدو ــ حيث يروي الجاحظ عن الفضل الرقاشي قوله «ما تكلمت به العرب من جيد المنثور أكثر مما تكلمت به من جيد الموزون، فلم يُحفظ من المنثور عُشره ولا ضاع من الموزون عُشره» ولكن على ما يبدو لم يبق من النثر العربي القديم إلا ما وافق توجهات وأفكار الدعوة الجديدة وما خالفها فإن الاندثار مصيرها، وهذا يعني أيضا أننا أمة تسرد وتحكي وتتحدث أكثر مما تكتب الشعر وتنشده، وعليه فالنثر ابن بار للعقل، فيما الشعر ولد مشاكس خارج من القلب، وهاربٌ من المنطق متجهاً صوب البراري.
وهذا الأمر يقودنا إلى أن الرواية تحظى باهتمام كبير ليس من الوسط الثقافي فحسب، بل من الوسط السياسي أيضا، فحديثاً نتذكر كيف أن «صدام حسين» كلف عددا من الروائيين لتدوين المعارك التي دارت بين العراق وإيران، ومن ثم كلف كل روائي من هؤلاء الروائيين الذين انتدبوا أن يرافق قائدا من قادة الجيش العراقي، ليروي له الأحداث ومن ثم يقوم الروائي بكتابتها سرداً فيه من الفن والتشويق ما فيه، وبالفعل صدرت أواخر حكم النظام السابق سلسلة من الروايات بهذا الشأن ولكتاب معروفين ومهمين.
وما هذا التكليف إلا شعور بأهمية الرواية، والحديث عن أن الشعر ينتعش في الأزمنة الديكتاتورية ليس صحيحا دائماً، فها هي الرواية تشعر المسؤولين في الحكومة العراقية السابقة بأهميتها، لنرى فيما بعد أن «صدام حسين» نفسه يقوم بكتابة الرواية ليطبع ثلاث روايات «زبيبة والملك، ورجال ومدينة، واخرج منها يا ملعون» وبعد نزول الأعمال إلى السوق كُتب على غلاف الروايات رواية لكاتبها.
ومن ثم تغير النظام، وتشكلت مجموعة من الهيئات، منها هيئة الشهداء وهيئة السجناء، وقد أقدمت هاتان الهيئتان على تشجيع الروائيين والكتاب على كتابة أعمال روائية تدين مرحلة نظام صدام حسين، وتعري فترة حكمه، أو أنْ يكتب السجناء مذكراتهم في تلك المرحلة، ولكن بطريقة روائية، وهذا يدلل على أهمية الرواية سياسيا فضلا عن مستوياتها الفنية.
ولكني مطمئن تماما على مستقبل الشعر وأنه الجنس الأكثر إغراء بين الفنون والقوى الناعمة ذلك أن الروائي عبد الخالق الركابي الفائز بجائزة سلطان العويس عن منجزه الروائي وهي من أهم الجوائز العربية أقول ما زال الركابي ينشر بين أسبوع وآخر على صفحته بالفيسبوك قصائد شعرية من كتاباته، وما يزال أحمد سعداوي عازما على طباعة ديوانه الشعري وهي أولى كتاباته التي كنا شهدناها معاً، وما زال بعض الروائيين حين يعشقون يرسلون نصوصا شعرية من أصدقائهم الشعراء.
لذلك فللنص الشعري للقصيدة سحر خاص وإغراء لا يشبهه شيء فهو كما يقول أدونيس:
أغرقتني وملكـت المـــوج والغرقا يا مالئي دهشة، يا مالئي قلقا
أغري بك الليل، يغويني ويأخذني أخذ العزيز وأغري باسمك الأفقا



«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية
TT

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ حول منظومتها، لتقوم بطرح أسئلة تُفند بها ذلك الخطاب بداية من سؤالها: «هل تحتاج الأمومة إلى كتاب؟»، الذي تُبادر به القارئ عبر مقدمة تسعى فيها لتجريد كلمة «أمومة» من حمولاتها «المِثالية» المرتبطة بالغريزة والدور الاجتماعي والثقافي المُلتصق بهذا المفهوم، ورصد تفاعل الأدبين العربي والعالمي بتجلياتهما الواسعة مع الأمومة كفِعل وممارسة، وسؤال قبل كل شيء.

صدر الكتاب أخيراً عن دار «تنمية» للنشر بالقاهرة، وفيه تُفرد أبو النجا أمام القارئ خريطة رحلتها البحثية لتحري مفهوم الأمومة العابرة للحدود، كما تشاركه اعترافها بأنها كانت في حاجة إلى «جرأة» لإخراج هذا الكتاب للنور، الذي قادها «لاقتحام جبل من المقدسات، وليس أقدس من الأمومة في مجتمعاتنا ولو شكلاً فقط»، كما تقول، وتستقر أبو النجا على منهجية قراءة نصوص «مُتجاورة» تتقاطع مع الأمومة، لكاتبات ينتمين إلى أزمنة وجغرافيات مُتراوحة، ومُتباعدة حتى في شكل الكتابة وسياقها الداخلي، لاستقراء مفهوم الأمومة وخطابها كممارسة عابرة للحدود، ومحاولة فهم تأثير حزمة السياسات باختلافها كالاستعمارية، والقبلية، والعولمة، والنيوليبرالية، وغيرها.

فِعل التئام

يفتح اختيار شيرين أبو النجا للنصوص الأدبية التي تستعين بها في كتابها، في سياق القراءة المُتجاورة، مسرحاً موازياً يتسع للتحاوُر بين شخصيات النصوص التي اختارتها وتنتمي لأرضيات تاريخية ونفسية مُتشعبة، كما ترصد ردود أفعال بطلاتها وكاتباتها حِيال خبرات الأمومة المُتشابهة رغم تباعد الحدود بينها، لتخرج في كتابها بنص بحثي إبداعي موازِ يُعمّق خبرة النصوص التي حاورت فيها سؤال الأمومة.

يضع الكتاب عبر 242 صفحة، النصوص المُختارة في مواجهة المتن الثقافي الراسخ والنمطي لمنظومة الأمومة، تقول الكاتبة: «الأمومة مُتعددة، لكنها أحادية كمؤسسة تفرضها السلطة بمساعدة خطاب مجتمعي»، وتتوقف أبو النجا عند كتاب «كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها»، صدر عام 2017 للشاعرة والكاتبة المصرية إيمان مرسال بوصفه «الحجر الذي حرّك الأفكار الساكنة المستكينة لفكرة ثابتة عن الأمومة»، على حد تعبير أبو النجا.

تتحاور الكاتبة مع منطق «الأشباح» وتتأمل كيف تتحوّل الأمومة إلى شبح يُهدد الذات سواء على المستوى النفسي أو مستوى الكتابة، تقول: «في حياة أي امرأة هناك كثير من الأشباح، قد لا تتعرف عليها، وقد تُقرر أن تتجاهلها، وقد تتعايش معها. لكن الكتابة لا تملك رفاهية غض الطرف عن هذه الأشباح»، ومن رحِم تلك الرؤية كانت الكتابة فعل مواجهة مع تلك «الشبحية»، ومحاولة تفسير الصراع الكامن بين الذات والآخر، باعتبار الكتابة فعلاً يحتاج إلى ذات حاضرة، فيما الأمومة تسلب تلك الذات فتصير أقرب لذات منشطرة تبحث عن «التئام» ما، ويُجاور الكتاب بين كتاب إيمان مرسال، وبين كتاب التركية إليف شافاق «حليب أسود: الكتابة والأمومة والحريم»، إذ ترصد أبو النجا كيف قامت الكاتبتان بتنحّية كل من الشِعر والسرد الروائي جانباً، في محاولة للتعبير عن ضغط سؤال الأمومة وفهم جوهرها بعيداً عن السياق الراسخ لها في المتن الثقافي العام كدور وغريزة.

تقاطعات الورطة

ترصد أبو النجا موقع النصوص التي اختارتها ثقافياً، بما يعكسه من خصائص تاريخية وسياسية ومُجتمعية، المؤثرة بالضرورة على وضع الأمومة في هذا الإطار، فطرحت مقاربةً بين نص المُستعمِر والمُستعمَر، مثلما طرحت بمجاورة نصين لسيمون دو بوفوار المنتمية لفرنسا الاستعمارية، وآخر لفاطمة الرنتيسي المنتمية للمغرب المُستعمرة، اللتين تشير الكاتبة إلى أن كلتيهما ما كان من الممكن أن تحتلا الموقع الذي نعرفه اليوم عنهما دون أن تعبرا الحدود المفروضة عليهما فكرياً ونفسياً ومجتمعياً.

كما تضع كتاب «عن المرأة المولودة» للأمريكية إدريان ريتش، صدر عام 1976، في إطار السياق الاجتماعي والقانوني والسياسي الذي حرّض آنذاك على انتقاد الرؤى الثابتة حول تقسيم الأدوار بين الجنسين وبين ما يجب أن تكون عليه الأم النموذجية، ما أنعش حركة تحرير النساء التي خرجت من عباءة الأحزاب اليسارية والحركات الطلابية آنذاك، وتشير إلى أن هذا الكتاب أطلق على الأمومة اسم «مؤسسة» بما يجابه أطراف المؤسسة الذكورية التي ترسم بدقة أدوار النساء في العائلة وصورهن، وصاغت ريتش هذا الكتاب بشكل جعله يصلح للقراءة والتأمل في بيئات مُغايرة زمنياً وجغرافياً، ويخلق الكتاب تقاطعات بين رؤية ريتش مع تجربة شعرية لافتة بعنوان «وبيننا حديقة» للشاعرتين المصريتين سارة عابدين ومروة أبو ضيف، الذي حسب تعبير شيرين أبو النجا، يمثل «حجراً ضخماً تم إلقاؤه في مياه راكدة تعمل على تعتيم أي مشاعر مختلفة عن السائد في بحر المُقدسات»، والذات التي تجد نفسها في ورطة الأمومة، والتضاؤل في مواجهة فعل الأمومة ودورها. تجمع شيرين أبو النجا بين النص الأميركي والديوان المصري اللذين يفصل بينهما نحو 40 عاماً، لتخرج بنص موازِ يُعادل مشاعر الأم (الكاتبة) وانسحاقها أمام صراع بين القدرة والعجز، والهوية وانسحاقها، لتقول إنه مهما تعددت الأسئلة واشتد الصراع واختلفت تجلياته الخطابية انسحبت الكاتبات الثلاث إلى حقيقة «تآكل الذات»، وابتلاع الأمومة للمساحة النفسية، أو بتعبير الشاعرة سارة عابدين في الديوان بقولها: «حروف اسمي تتساقط كل يوم/ لأزحف أنا إلى هامش يتضاءل/ جوار متن الأمومة الشرس».

في الكتاب تبرز نماذج «الأم» المُتعددة ضمن ثيمات متفرقة، فتضعنا الناقدة أمام نموذج «الأم الأبوية» التي تظهر في شكلها الصادم في أعمال المصرية نوال السعداوي والكاريبية جامايكا كينكد التي تطرح الكاتبة قراءة تجاورية لعمليهما، وتتوقف عند «الأم الهاربة» بقراءة تربط بين رواية «استغماية» للمصرية كاميليا حسين، وسيرة غيرية عن الناقدة الأمريكية سوزان سونتاغ، وهناك «الأم المُقاومة» في فصل كرسته لقراءة تفاعل النص الأدبي الفلسطيني مع صورة الأم، طارحة تساؤلات حول مدى التعامل معها كرمز للأرض والمقاومة، فيما تُشارك شيرين أبو النجا مع القارئ تزامن انتهائها من هذا الكتاب مع «طوفان الأقصى» وضرب إسرائيل لغزة، في لحظة مفصلية تفرض سؤالها التاريخي: ماذا عن الأم الفلسطينية؟ أمهات الحروب؟ الأمهات المنسيات؟