الصين تستكشف مجاهل القمر

أول سفينة فضائية تهبط على وجهه المظلم

الصين تستكشف مجاهل القمر
TT

الصين تستكشف مجاهل القمر

الصين تستكشف مجاهل القمر

قررت الصين حجز مكانة لنفسها في تاريخ الفضاء، إذ من المزمع أن تطلق أول مركبة فضائية تهبط في الجانب البعيد المظلم من القمر (أي الجهة غير الظاهرة للكرة الأرضية) في ديسمبر (كانون الأول)، على أن تطلق مركبة أخرى العام المقبل، لتكون أوّل بعثة تعود بصخور قمرية إلى الأرض منذ عام 1976.
- مهمات قمرية
وتشكّل البعثتان، وهما الأحدث في السلسلة الصينية لاستكشاف القمر، التي تحمل اسم «تشينغ - ي» Chang’e)) تيمّناً بآلهة القمر الصينية، مقدّمة لاهتمام مستجد في استكشاف أقرب الأجرام السماوية لنا. ومن بين المهمات العالمية الأخرى مهمة للوكالة الفضائية الهندية، إلى جانب شركات ألمانية خاصة، لإرسال بعثات آلية إلى القمر عام 2019. وبدورها، تعتزم الولايات المتحدة الأميركية إرسال رواد فضاء للدوران حول القمر عام 2023 ثم الهبوط على سطحه في أواخر العقد المقبل. لقد أصبح التوقيت مؤاتياً حالياً لإرسال بعثات استكشافية جديدة إلى القمر، فعلى الرغم من عقود من الدراسة، لا يزال قمر الأرض الطبيعي الوحيد مليئاً بأسرار وخبايا تتعلّق بتكوينه وبتاريخ النظام الشمسي. ويقول لونج تشاو، عالم الكواكب من جامعة «الصين لعلوم الجيولوجيا» في ووهان، «هناك الكثير من الأمور التي لا نعرفها». وقد شارك هذا الباحث في دراستين نشرتا في يونيو (حزيران) ويوليو (تموز) الماضيين في دورية «جيوفيزيكال ريسرتش: بلانيتز» وصّفتا مواقع هبوط البعثتين الصينيتين «تشينغ - ي 4 و5».
يتحرّق العلماء شوقاً لوضع أيديهم على عينات الصخور القمرية الجديدة لاكتشاف الأسرار التي لا يزال القمر يخفيها. يقول عالم الكواكب دايفيد بليويت من مختبر جامعة «جون هوبكنز للفيزياء التطبيقية» في لوريل في حديث نقلته مجلة «ساينس نيوز» إنه «لا شكّ في أنّ العينات التي ستحملها بعثة (تشينغ -'5) ستحتوي على أنواع صخور إضافية لم نختبرها بعد»، وأضاف: «تخيلوا أنكم وصلتم إلى الأرض، وهبطتم في أرض بريطانيا تحديداً، ثم سجلتم جميع خلاصاتكم حول الأرض بناءً على ما رأيتموه، فإن الصورة التي حصلتم عليها لن تكون كاملة».
- جانب القمر البعيد
تضمّ مركبة «تشينغ - ي 4» سفينة هبوط وعربة جوالة كان قد تمّ تطويرهما لدعم بعثة «تشينغ - ي 3» غير المأهولة عام 2013، التي كانت أوّل مهمة هبوط للصين على سطح القمر والأولى عالمياً منذ السبعينات. وقد هبطت السفينة والعربة الجوالة عام 2013 فوق سهل كبير من الحمم البركانية القمرية في الجهة الشمالية التي تحمل اسم «ماري إمبريوم»، حيث قاست المركبة تركيبة وسماكة التربة القمرية، واكتشفت النوع الجديد المحتمل من الحجر البركاني.
وفي هذه المرة، تخطط الصين لإنزال نظمها الفضائية في مواقع قمرية لم يتمّ استكشافها من قبل، إذ تعتزم بعثة «تشينغ 4» الوصول إلى أكبر وأعمق، وربّما أقدم فوهة معروفة تكوّنت نتيجة اصطدام، وتعرف باسم حوض «ساوث بول - آيتكن» على الجانب البعيد من القمر، الذي لا يمكن رصده من الكرة الأرضية. يعتبر الحوض بكامله، الذي يصل اتساعه إلى 2500 كم وعمقه إلى 8.2 كلم، كبيراً جداً لتتمكن العربة الجوالة وحدها من استكشافه. لهذا السبب، ستنحصر مهمة بعثة «تشينغ - 4» باستكشاف فوهة بركان «فون كرمان» الذي يبلغ اتساعه 186 كلم، ويقع في قلب الحوض الأكبر حجماً. ويعتقد أنّ الصدمة الهائلة الذي أفضت إلى تكوين حوض «ساوث بول - آيتكن» حفرت أجزاء في القشرة القمرية، أي طبقة الصخر الكثيف التي انصهرت في الماضي، التي تقع أسفل القشرة. واستكشاف هذه الفوهة قد يفتح نافذة للتعرف على تكوين القمر الداخلي.
يقول تشاو: «هناك جدل كبير حول تركيبة القشرة القمرية». مثلاً، هل هي «رطبة» وغنية بالمعادن المرطّبة أمّ إنها جافة؟ وفي حال كانت رطبة، كيف بقيت المياه رغم الصدمة الهائلة الذي يعتقد أنّها السبب في تكوين القمر؟ لن تحلّ بعثة «تشينغ - 4» هذه الألغاز، ولكنّ القياسات التي ستقدّمها قد تساعد في تحديد أهداف عمليات الرصد المقبلة.
- تقنيات رصد جديدة
وسوف تساعد ثلاث كاميرات، ومطياف بالأشعة دون الحمراء، وراداران يخترقان الأرض كاللذين استخدمتها بعثة «تشينغ - 3»، جميعها السفينة الفضائية على إجراء أبحاثها في فوهة «فون كرمان». وتحمل بعثة «تشينغ - 4» أيضاً تقنيات جديدة أهمّها أداة سويدية لدراسة كيفية تفاعل الذرات المشحونة الصادرة عن الشمس مع سطح القمر، وأداة ألمانية لقياس مستويات الأشعة التي قد تكون مهمة لرواد فضاء المستقبل، بالإضافة إلى مستوعب يحتوي على بذور وبيوض حشرات لاختبار إمكانية حياة ونبات هذه الحشرات والبذور سوية على سطح القمر.
ولأن القمر يظهر دائماً الوجه نفسه للأرض، لن يتمكن رواد الفضاء الموجودون على الأرض من التواصل بشكل مباشر مع بعثة «تشينغ - 4»، ما دفع وكالة الفضاء الصينية إلى إطلاق قمر إرسال صناعي لنقطة أبعد من القمر لإرسال البيانات وإشارات الاتصال في الاتجاهين بين سطح القمر والأرض في مايو (أيار) الماضي. ويعرف هذا القمر باسم «كويكياو» تيمناً بجسر أسطوري باسم «طائر العقعق»، يعتقد بأنّه يمتدّ إلى درب التبانة مرّة في العام لتحقيق اللقاء بين حبيبين.
- صخور القمر
> دراسة التاريخ الجيولوجي: في وقت ما من 2019 ستزور مركبة «تشينغ - 5» منطقة في الجهة القريبة من القمر لم يصل إليها أي مركبة فضائية أو رواد فضاء من قبل.
حتى اليوم، درس العلماء صخوراً من حقول الحمم البركانية التي تكوّنت في بداية تاريخ القمر، أي قبل نحو 3.5 مليون عام. وهذه الصخور جلبتها إلى الأرض بعثات «أبولو» الأميركية التي انتهت عام 1972 وبعثات «لونا» السوفياتية التي انتهت عام 1976. وأعادت تلك البعثات مجتمعة أكثر من 380 كلغم من المواد القمرية إلى الأرض.
سيعمل مسبار بعثة «تشينغ - 5» على عملية الغرف من الصخور الموجودة على سطح القمر والحفر العميق في مساحة تصل إلى 58000 كلم مربع في منطقة تعرف باسم «رومكر» المغطاة بالمعادن الناتجة عن فترات كثيرة من النشاط البركاني. بعدها، ستحزم المركبة نحو كيلوغرامين من المواد وتحملها في الصاروخ الذي سينطلق للقاء مسبار «تشينغ - 5» ومن ثمّ يعود إلى الأرض.
>بقعة جديدة: إنّ الصخور القمرية التي عادت في بعثات «لونا» السوفياتية وبعثات «أبولو» الأميركية في الستينات والسبعينات مصدرها فيضانات الحمم البركانية المتجمعة حول مدار القمر. وفي عام 2013 حطّت بعثة «تشينغ - 3» الصينية في بقع مختلفة من فيضانات قديمة بعيدة في الجانب الشمالي، ولكنّها عادت دون عينات. أمّا بعثة «تشينغ - 5» فستسعى للعودة بصخور بركانية من منطقة لم تؤخذ منها أي عينات من قبل. إن دراسة عينات من هذه المنطقة يمكن أن يكشف ما إذا كان القمر قد مرّ بفترات نشاط أكثر مما اعتقد العلماء من قبل.
> وصول صعب إلى صخور القمر الجديدة: أثار احتمال دراسة هذه الصخور الجديدة حماس باحثي «ناسا» وغيرهم من العلماء. ويصف رائد الفضاء السابق من بعثات «أبولو» هاريسون (جاك) شميت، عالم الجيولوجيا الوحيد الذي سار على القمر، عودة العينات «بالهدية الدائمة العطاء»، ويقول: «لا شكّ أنّ جميع زملائي الذين يعملون مباشرة على العينات سيسرّون بالحصول على فرصة معاينة هذه الصخور الجديدة».
ولكن العلماء الأميركيين يواجهون عوائق في دراسة العينات الجديدة بسبب تعديل «وولف»، أحد بنود الميزانية الفيدرالية لعام 2011، الذي يلزمهم بالحصول على موافقة الكونغرس قبل التعاون مع الصين أو شركات مملوكة من أطراف صينية.
وهذا الأمر صعب ولكنّه ليس مستحيلاً، إذ قد يتمكن العلماء الأميركيون من الانضمام إلى علماء من بلدان أخرى قادرة على التعاون مباشرة مع الصين، أي الاستعانة بزملائهم وسيطاً. كما يلفت محلل السياسة الفضائية سكوت بيس، الأمين العام التنفيذي لمجلس الفضاء القومي الأميركي، إلى إمكانية مبادلة الولايات المتحدة للعينات التي أتت بها «أبولو» مع عينات «تشينغ -5». ويشير الصينيون من جانبهم إلى أهمية التعاون لفهم تاريخ القمر.


مقالات ذات صلة

صورة استثنائية لنجم يُحتضَر على بُعد 160 ألف سنة ضوئية من الأرض

يوميات الشرق يمرّ بالمرحلة الأخيرة من حياته قبل موته (إكس)

صورة استثنائية لنجم يُحتضَر على بُعد 160 ألف سنة ضوئية من الأرض

أظهرت أول صورة مقرَّبة لنجم يُعرَف باسم «WOH G64» إحاطته بالغاز والغبار، مُبيِّنة، أيضاً، اللحظات الأخيرة من حياته، حيث سيموت قريباً في انفجار ضخم...

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق مركبة الفضاء «ستارشيب» تظهر وهي تستعد للإطلاق من تكساس (رويترز)

«سبيس إكس» تستعد لإجراء اختبار سادس لصاروخ «ستارشيب» وسط توقعات بحضور ترمب

تجري «سبيس إكس» اختباراً سادساً لصاروخ «ستارشيب» العملاق، الثلاثاء، في الولايات المتحدة، في محاولة جديدة لاستعادة الطبقة الأولى منه عن طريق أذرع ميكانيكية.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
الاقتصاد جانب من الجلسة الافتتاحية لـ«منتدى دبي للمستقبل»... (الشرق الأوسط)

«منتدى دبي»: 7 تطورات رئيسية سيشهدها العالم في المستقبل

حدد نقاش المشاركين في «منتدى دبي للمستقبل - 2024» 7 تطورات رئيسية تمثل لحظة محورية للبشرية، منها العودة إلى القمر والطاقة الشمسية.

«الشرق الأوسط» (دبي)
الاقتصاد جناح «مجموعة نيو للفضاء» في معرض «جيتكس» (إكس) play-circle 01:45

رئيس «الخدمات الجيومكانية» في «نيو للفضاء»: سنطلق تطبيقاً للخرائط الرقمية

تمضي السعودية نحو مساعيها في التنويع الاقتصادي عبر تطوير قطاعات جديدة ومستقبلية، يبرز من ضمنها قطاع الفضاء بوصفه أحد القطاعات التي يتسارع فيها التقدم.

مساعد الزياني (الرياض)
يوميات الشرق رواد الفضاء ماثيو دومينيك ومايكل بارات وجانيت إيبس يعقدون مؤتمراً صحافياً في مركز جونسون الفضائي في هيوستن (أ.ب)

بعد 8 أشهر في الفضاء... رواد «ناسا» يرفضون الإفصاح عن شخصية من أصيب منهم بالمرض

رفض 3 رواد فضاء تابعين لـ«ناسا» انتهت مهمة طويلة قاموا بها في محطة الفضاء الدولية بالمستشفى، الشهر الماضي، كَشْفَ مَن منهم كان مريضاً.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

«جراح آلي» بذكاء اصطناعي دُرّب على مشاهدة فيديوهات طبية

«جراح آلي» بذكاء اصطناعي دُرّب على مشاهدة فيديوهات طبية
TT

«جراح آلي» بذكاء اصطناعي دُرّب على مشاهدة فيديوهات طبية

«جراح آلي» بذكاء اصطناعي دُرّب على مشاهدة فيديوهات طبية

«تخيل أنك بحاجة إلى إجراء عملية جراحية في غضون بضع دقائق لأنك قد لا تنجو... لا يوجد جراحون في الجوار ولكن يوجد روبوت جراحي مستقل متاح يمكنه إجراء هذا الإجراء باحتمالية عالية جداً للنجاح، هل ستغتنم الفرصة؟» هذا ما أجابني به طالب ما بعد الدكتوراه بجامعة جونز هوبكنز عبر البريد الإلكتروني، لدى سؤالي عن التطوير الجديد.

تعليم الروبوت بمقاطع فيديو للجراحة

لأول مرة في التاريخ، تمكن كيم وزملاؤه من تعليم الذكاء الاصطناعي استخدام آلة جراحة آلية لأداء مهام جراحية دقيقة، من خلال جعلها تشاهد آلاف الساعات من الإجراءات الفعلية التي تحدث في ردهات جراحية حقيقية. ويقول فريق البحث إنه تطور رائد يتجاوز حدوداً طبية محددة ويفتح الطريق لعصر جديد في الرعاية الصحية.

وفقاً لورقتهم البحثية المنشورة حديثاً، يقول الباحثون إن الذكاء الاصطناعي تمكن من تحقيق مستوى أداء مماثل لجراحي البشر دون برمجة مسبقة.

جراحة بتوظيف الروبوت

تدريب على العروض بدلاً من البرمجة

وبدلاً من محاولة برمجة الروبوت بشق الأنفس للعمل -وهو ما تقول ورقة البحث إنه فشل دائماً في الماضي- قاموا بتدريب هذا الذكاء الاصطناعي من خلال شيء يسمى التعلم بالتقليد، وهو فرع من الذكاء الاصطناعي حيث تراقب الآلة وتكرر الأفعال البشرية. سمح هذا للذكاء الاصطناعي بتعلم التسلسلات المعقدة للأفعال المطلوبة لإكمال المهام الجراحية عن طريق تقسيمها إلى مكونات حركية. وتترجم هذه المكونات إلى أفعال أبسط -مثل زوايا المفاصل ومواضعها ومساراتها- والتي يسهل فهمها وتكرارها وتكييفها أثناء الجراحة.

توظيف روبوت «دافنشي» للتدريب

استخدم كيم وزملاؤه نظام دافنشي الجراحي كأيدٍ وعيون لهذا الذكاء الاصطناعي. ولكن قبل استخدام المنصة الروبوتية الراسخة (التي يستخدمها الجراحون حالياً لإجراء عمليات دقيقة محلياً وعن بُعد) لإثبات نجاح الذكاء الاصطناعي الجديد، قاموا أيضاً بتشغيل محاكاة افتراضية. وقد سمح هذا بتكرار أسرع وتحقق من السلامة قبل تطبيق الإجراءات التي تم تعلمها على الأجهزة الفعلية.

«كل ما نحتاجه هو إدخال الصورة، ثم يجد نظام الذكاء الاصطناعي هذا الإجراء الصحيح»، كما يقول كيم. كانت روبوتات دافنشي أيضاً مصدر مقاطع الفيديو التي حللها الذكاء الاصطناعي، باستخدام أكثر من 10000 تسجيل تم التقاطها بواسطة كاميرات المعصم أثناء العمليات الجراحية التي يقودها الإنسان.

تعلّم 3 مهام جراحية

وكان الهدف تعلم ثلاث مهام جراحية: التعامل مع إبرة جراحية وتحديد موضعها، ورفع الأنسجة والتلاعب بها بعناية، والخياطة -كلها مهام معقدة تتطلب تحكماً دقيقاً وحساساً للغاية.

مكنت مجموعة البيانات واسعة النطاق هذه الذكاء الاصطناعي من تعلم الاختلافات الدقيقة بين الإجراءات الجراحية المتشابهة، مثل شدة التوتر المناسب اللازم للتعامل مع الأنسجة دون التسبب في ضرر.

تعد مقاطع الفيديو التدريبية هذه جزءاً صغيراً جداً من مستودع واسع النطاق للبيانات الجراحية. مع ما يقرب من 7000 روبوت دافنشي قيد الاستخدام في جميع أنحاء العالم، هناك مكتبة ضخمة من العروض الجراحية للمراقبة والتعلم منها، والتي يستخدمها فريق البحث الآن لتوسيع ذخيرة الذكاء الاصطناعي الجراحية لدراسة جديدة لم تُنشر بعد.

«في عملنا المتابع، والذي سنصدره قريباً، ندرس ما إذا كانت هذه النماذج يمكن أن تعمل في الإجراءات الجراحية طويلة المدى التي تنطوي على هياكل تشريحية غير مرئية»، يكتب كيم، في إشارة إلى الإجراءات الجراحية المعقدة التي تتطلب التكيف مع حالة المريض في أي وقت معين، مثل إجراء عملية جراحية على جرح داخلي خطير.

التحقق من صحة النموذج المطور

أثناء التطوير، عمل الفريق عن كثب مع الجراحين الممارسين لتقييم أداء النموذج وتقديم ملاحظات حاسمة (خاصة فيما يتعلق بالتعامل الدقيق مع الأنسجة)، والتي قام الروبوت بدمجها في عملية التعلم الخاصة به.

أخيراً، للتحقق من صحة النموذج، استخدموا مجموعة بيانات منفصلة غير مدرجة في التدريب الأولي لإنشاء محاكاة افتراضية، ما يضمن قدرة الذكاء الاصطناعي على التكيف مع السيناريوهات الجراحية الجديدة وغير المرئية قبل الشروع في اختبارها في الإجراءات المادية. أكد هذا التحقق المتبادل قدرة الروبوت على التعميم بدلاً من مجرد حفظ الإجراءات، وهو أمر بالغ الأهمية بالطبع نظراً للعدد المجهول المحتمل الذي قد ينشأ في غرفة العمليات.

جراح آلي «ذو خبرة»

كل شيء سار بشكل جميل إذ تعلم نموذج الروبوت هذه المهام إلى مستوى الجراحين ذوي الخبرة. يقول أكسل كريغر، الأستاذ المساعد في الهندسة الميكانيكية في جامعة جونز هوبكنز والمؤلف الرئيسي للدراسة، في بيان عبر البريد الإلكتروني: «إنه لأمر سحري حقاً أن يكون لدينا هذا النموذج حيث كل ما نقوم به هو تلقيمه مدخلات الكاميرا، ويمكنه التنبؤ بالحركات الروبوتية اللازمة للجراحة». «نعتقد أن هذا يمثل خطوة مهمة إلى الأمام نحو أفق جديد في مجال الروبوتات الطبية».

تطوير رائد

إن أحد مفاتيح هذا النجاح هو استخدام الحركات النسبية بدلاً من التعليمات المطلقة. ففي نظام دافنشي قد لا تنتهي الأذرع الآلية إلى حيث هي مقصودة تماماً بسبب التناقضات الطفيفة في حركة المفصل التي تتراكم على مدار عدة حركات ويمكن أن تؤدي في النهاية إلى أخطاء كبيرة -خاصة في بيئة حساسة مثل الجراحة. كان على الفريق إيجاد حل، لذا بدلاً من الاعتماد على هذه القياسات، قام بتدريب النموذج على التحرك بناءً على ما يلاحظه في الوقت الفعلي أثناء إجراء العملية.

لكن الابتكار الرئيسي هنا هو أن التعلم بالتقليد يزيل الحاجة إلى البرمجة اليدوية للحركات الفردية. قبل هذا الاختراق، كانت برمجة الروبوت للخياطة تتطلب ترميزاً يدوياً لكل حركة بالتفصيل. يقول كيم إن هذه الطريقة كانت أيضاً عرضة للخطأ وتشكل قيداً رئيسياً في تقدم الجراحة الروبوتية. إذ إنها حدت مما يمكن للروبوت فعله بسبب جهود التطوير، والافتقار إلى المرونة التي جعلت من الصعب للغاية على الروبوتات القيام بمهام جديدة.

ومع ذلك، يسمح التعلم بالتقليد للروبوت بالتكيف بسرعة مع أي شيء يمكن مشاهدته، والتعلم على غرار طالب الجراحة. «(نحن) نحتاج فقط إلى جمع بيانات التعلم التقليدي لإجراءات مختلفة، ويمكننا تدريب الروبوت على تعلمها في غضون يومين»، كما يقول كريغر. «هذا يسمح لنا بالتعجيل نحو هدف الاستقلالية مع تقليل الأخطاء الطبية وتحقيق جراحة أكثر دقة».

تقييم مدى النجاح

لقياس مدى نجاح الذكاء الاصطناعي، حدد الباحثون مقاييس الأداء الرئيسية، مثل الدقة في وضع الإبرة والاتساق في التلاعب بالأنسجة باستخدام مجموعة من البيئات الجراحية الوهمية المادية، والتي تضمنت محاكيات الأنسجة الاصطناعية والدمى الجراحية. وكانت النتائج مذهلة. يقول كريغر: «النموذج جيد جداً في تعلم الأشياء التي لم نعلمه إياها. على سبيل المثال، إذا أسقط الإبرة، فسوف يلتقطها تلقائياً ويستمر».

لا تعد هذه القدرة على التكيف مهمة فقط لمواصلة تعلم مهارات جديدة ولكنها أيضاً ضرورية للتعامل مع الأحداث غير المتوقعة في الجراحات الحية، مثل تمزق الشريان أو تغير العلامات الحيوية للمريض فجأة. بالإضافة إلى ذلك، أظهر النموذج كفاءة زمنية محسنة، ما أدى إلى تقليل وقت الانتهاء للمهام الجراحية القياسية مثل الخياطة بنحو 30 في المائة، وهو أمر واعد بشكل خاص للعمليات الحرجة من حيث الوقت.

ويتصور العلماء سيناريو حيث تساعد هذه الروبوتات الجراحين في المواقف عالية الضغط، وتعزيز قدراتهم وتقليل الخطأ البشري. سيؤثر جراحو الذكاء الاصطناعي المستقبليون بشكل كبير على توفر الرعاية الجراحية، مما يجعل التدخلات الطبية عالية الجودة متاحة لعدد أكبر.

اللوائح التنظيمية وأخلاقيات الطب

هناك أيضاً تحديات أخلاقية وتنظيمية يجب معالجتها قبل نشر مثل هذا الذكاء الاصطناعي في بيئات جراحية حقيقية دون إشراف بشري. فالقفزة نحو الروبوتات الجراحية المستقلة تثير مخاوف أخلاقية جديدة.

هناك قضية المساءلة: من سيكون مسؤولاً إذا حدثت مشكلة؟ الشركة التي صنعت الجراح الذكي؟ المهنيون الطبيون الذين يشرفون عليه (إذا كان هناك أي إشراف)؟ هناك أيضاً مسألة موافقة المريض، والتي ستتطلب تثقيف كل من الشخص الذي يخضع للجراحة والأشخاص المحيطين به حول ماهية هذا الذكاء الاصطناعي، وما الذي يمكنهم فعله بالضبط، وما هي المخاطر التي تشكلها الروبوتات مقارنة بالجراحين البشر.

يعترف كيم بأن المستقبل الآن في منطقة رمادية حيث يمكن للجميع مجرد التكهن بما يجب أن يحدث أو سيحدث. ستكون أيدي السلطات التنظيمية مشغولة، من معالجة المساءلة والمخاوف الأخلاقية عند السماح لجراحي الذكاء الاصطناعي بالعمل بشكل مستقل، إلى وضع معايير للحصول على موافقة مستنيرة من المرضى.

ولكن عند الاختيار بين إجراء عملية جراحية طارئة منقذة للحياة بواسطة جراح مستقل أو عدم تلقي العلاج لأن الجراح البشري غير متاح (مثلاً في مكان بعيد أو منطقة متخلفة)، يزعم كيم أن الخيار الأفضل واضح. يمكنني بسهولة أن أتخيل مستقبلاً قريباً حيث يبدأ الناس في اختيار روبوتات الذكاء الاصطناعي على نظرائهم من البشر - في ظل وجود دليل إحصائي على أن جراحي الذكاء الاصطناعي يعملون بأمان.

وبعيداً عن التحديات الأخلاقية والقانونية، هناك حاجة إلى المزيد من العمل لتمكين التنفيذ العملي. ستحتاج المستشفيات إلى الاستثمار في البنية الأساسية التي تدعم جراحة الروبوتات بالذكاء الاصطناعي، بما في ذلك الأجهزة المادية والخبرة الفنية للتشغيل والصيانة. بالإضافة إلى ذلك، سيكون تدريب الفرق الطبية على إدارة العملية أمراً بالغ الأهمية. فالأطباء سيحتاجون إلى فهم الآلة ومتى يكون التدخل ضرورياً، وفي النهاية تحويل الجراحين البشريين من المهام الجراحية المباشرة إلى أدوار تركز على الإشراف والسلامة.

جراحات بسيطة أولاً

على المستوى العملي، يتصور الباحثون تقدماً تدريجياً، بدءاً بجراحات أبسط وأقل خطورة مثل إصلاح الفتق والتقدم تدريجياً إلى عمليات أكثر تعقيداً. سيساعد النهج التدريجي في التحقق من موثوقية الروبوت مع معالجة المخاوف التنظيمية والأخلاقية بمرور الوقت، فضلاً عن مساعدة السكان على الثقة في الذكاء الاصطناعي لإجراء العمليات الحرجة للحياة.

يقول كريغر: «ما زلنا في المراحل الأولى من فهم ما يمكن أن تحققه هذه الآلات حقاً. الهدف النهائي هو الحصول على أنظمة جراحية مستقلة تماماً وموثوقة وقابلة للتكيف وقادرة على إجراء العمليات الجراحية التي تتطلب حالياً اختصاصياً مدرباً تدريباً عالياً».

* مجلة «فاست كومباني» خدمات «تريبيون ميديا»

اقرأ أيضاً