عندما استضاف قصر فيرساي التّاريخي القريب من باريس، عام 2008، معرضاً للفنان الأميركي جيف كونز الذي يصنع أرانب من البلاستيك البراق، قامت قيامة المحافظين الذين اعتبروا أنّ الشّطحات الحداثية لذلك الفنان تشكل انتهاكاً لحرمة المكان الذي أقام فيه ملوك فرنسا وصار متحفاً لكبار رسامي ونحاتي ذلك العصر. لكن القائمين على القصر واصلوا نزعة الخروج من الجمود والتّمرد على الأفكار السّائدة واستقبال معارض تعكس أقصى ما بلغه الفن من تطرف. هل تتأثر تسريحة ماري أنطوانيت إذا جلس أمام مرآتها فنان طليعي يفرّخ أرانب؟
كررتها إدارة القصر 10 مرات حتى بات الأمر عادياً ولا يستثير حفيظة التقليديين. وها هو المصور والفنان الياباني الكبير هيروشي سوغيموتو يحمل الرقم 11 في قائمة ضيوف «فيرساي» من الفنانين المعاصرين، في معرض يستمر حتى 17 من فبراير (شباط) المقبل. ولا يكتفي الضيف باحتلال أجمل قاعات القصر بل تمتد أعماله إلى حدائق ملحق «التريانون» وبحيرته. مع هذا، حافظ سوغيموتو على الأدب الياباني الشهير فلم يقلق راحة الأرواح التي سكنت هذا المكان قبل 300 سنة، وقرّر أن يستلهم الماضي وأن يلقي عليه نظرات جديدة. إنّه يعود إلى تاريخ القصر ويصور شخصياته البائدة تصويراً حداثياً.
ويقول لنا دليل المعرض إنّ هذه الأعمال تلاحق أشباح أولئك الملوك والنبيلات وتسائل العلاقة التي تربط المتفرج بمفهوم الزمن، من جهة، وبفن التصوير الفوتوغرافي من جهة ثانية. فالفنان صاحب مشروع يجمع بين التشكيلات الحديثة وبين التقاليد اليابانية. وهو بهذا يواصل تحقيق الفكرة الجوهرية الكامنة وراء إقامة معرض كل عام، لفنان معاصر، محلي أو أجنبي، في جنبات القصر الذي يعتبر أوسع حاضنة لطراز العيش الفخم قبل الثورة الفرنسية، وهو أسلوب ما زالت امتداداته تطبع الحياة الباريسية في كثير من مناحي الأزياء والطّعام والمعمار والموسيقى والفن الكلاسيكي.
اختار سوغيموتو أن يعرض أعماله في «التريانون»، وهو جناح صغير ملحق بالقصر الكبير، كان الملجأ المفضل للملكة ماري أنطوانيت للهرب من الصخب. وفي ذلك المكان أمرت الملكة بإنشاء حديقتها الخاصة ذات الطابع الرّومانسي، وبجوارها حلبة للعروض المسرحية وورشات للخياطة والصناعات البسيطة، حتى صار المكان أشبه بقرية أو نجع من النجوع.
وها هو الفنان الياباني يضع حقائبه في استراحة ماري أنطوانيت ويقيم حواراً بين زمنه وزمنها. وهو لا يكتفي بإعادة رسم تلك الشّخصيات التّاريخية وهي في إهاب وقفاتها الشهيرة التي عرفت بها، بل يستثمر البحيرة ناصباً فيها بيتاً زجاجياً من بيوت الشّاي التّقليدية في بلاده، وكأنّه يدعو ملكة فرنسا إلى جلسة استرخاء أخيرة، قبل أن تهوي مقصلة الثّورة على عنقها.
ولد هيروشي سيوغيموتو في طوكيو قبل 70 سنة، وهو في الأصل مصور ذو شهرة عالمية قبل أن يتحوّل إلى معماري محترف ويواصل اشتغالاته الفنية والعملية. وهو يشرح سبب تلك النّقلة قائلاً إنّه غالباً ما كان يعرض صوره في أماكن غير مناسبة للعرض، لذلك قرّر أن يصمّم فضاءات أكثر ملاءمة لاحتياجات الفنانين والجمهور.
بعد ذلك صار يوجه اهتمامه للاستعراضات الحيّة ويرى أنّها تضيف للمكان بعداً رابعاً هو الزّمن. ومن آرائه الأخرى أنّه لا يسعى وراء الانسجام في أعماله بل يفضل الفوضى. ولما أتيحت له الفرصة لعرضها في «فيرساي»، راح يفكر في كيفية اقتحام القصر ذي الحمولة الثّقيلة والمشبع بالرموز، بشكل مناسب يجمع بين الهدوء ووقع المفاجأة. إنّ الفرجة على بعض صور المعرض تغني عن الشّرح.
الياباني هيروشو سوغيموتو يفتح حقائبه في «فيرساي»
الياباني هيروشو سوغيموتو يفتح حقائبه في «فيرساي»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة