تمدد باهر فوق العشب المندى وسط ميدان ساحة كبيرة في بلده الجديد الذي لجأ إليه أخيراً، غير آبه بما سيترك هذا البلل من تجمع الماء تحت خاصرته التي يجتاحها الألم بين الحين والآخر إثر مرض مزمن قديم نتيجة لكمات قوية كان قد تلقاها من ذلك الرجل الجسور المفتول العضلات المدجن على أكل لحوم البشر، والمحنك في وسائل التعذيب المقننة في المعتقلات والزنزانات العفنة برائحة الدم والموت ذات الجدران السميكة، والأضواء الخافتة المدهونة بالطلاء الأحمر، وضع يديه تحت رأسه وبدأ يعد النجوم في السماء، ثم خطرت في باله أن يسميها بأسماء رفاقه الذين يرقدون بسلام في الأراضي القاحلة المجاورة للسجن الكبير شمال عاصمة بلده، بعد أن تمددت رقابهم طويلاً وغاب عنهم ذووهم وأحبتهم بأمر من السلطة، حيث تولى عسكر الموت مهمة دفنهم خلسة. لكنه ارتعب لحظة خشية أن تقيد عليه في سجلات المخبرين من رجال الأمن والجواسيس المنتشرين بكثرة بين أكوام القاذورات والأوساخ. وفجأة راح يضحك في هستيرية مرة منبطحاً على وجهه، وأخرى متكوماً، واضعاً رأسه بين يديه وقدميه مشكلاً قفصاً هلالياً شبيهاً بتلك الأقفاص المتعددة والمضلعة التي تزدحم بها ذاكرته التي أسعفته في هذه اللحظة، فأعطته الإشارة أنه الآن مقذوف من تلك الجمهوريات وشعارات الثورة المناهضة للإمبريالية، وسطوة المال والجحيم، وحقوق الإنسان الخاوية، والسياسات العفنة، إلى حضن البداوة الأكثر رحمة منها، فتحسس جسده، وراح ينظر لطفل يلعب بالقرب منه، كان برموش مكحلة. دنا منه حاول أن يمسكه انزلق الصبي مرتاباً، لكنه استمر يغني بلغة كان باهر قد تعود سماعها في السينما، حينما كان في مدينته الجنوبية الغافية على النهر، باهر كان يحفظ صور أبطال هذه الأفلام التي كانت مشحونة بالغناء والحزن والبكاء، بقيت عيناه شاخصتين تراقبان الصبي الذي فر منه باتجاه والديه، أدرك حينها أن العالم يتسع للجميع، فلماذا القهر ومسالخ الموت المنصوبة، والاستعباد والظلم والسجون المكتظة بالبشر، ألا يكفي أن ينفى الإنسان إلى المجهول، فتبدو اللحظة تتجاوز وجوده ويصبح المنفى بديلاً للحرية.
قال باهر. هل يتعقبني الزمن؟
أجابت روحه
- لا أدري، ربما سأغادر مرة أخرى، أو ربما أعود كالطفل الذي كان بقربي، وأغادر هذا المنفى لكي أتنفس الوطن بين أحشاء تربته.
لكن ألا تحسد نفسك اليوم أنك لم تمت؟
- ومن قال إنني لم أمت يا محمود أتتذكر. ثم استدرك:
- كيف تحدثني وأنت ميت؟
- نعم أتذكر جيداً حينما رش علينا ذلك اللعين زخات الرصاص ونحن مجرد موتى في تلك الغرف المظلمة الرطبة لا أدري.
كيف نجوت أنت؟
- لقد أخذوني لوجبة تعذيب إضافية وعندما عدت لم أجدك، أين ذهبت؟ قال باهر
- لقد علقوني وأنا ميت ثم قرأ السجان شهادة موتي بتوقيع أحمر من الرئيس.
- وماذا فعلنا يا محمود؟
- أسرقنا أم قتلنا مثلهم؟
- سيان فالجلاد لا يفرق بين ضحاياه.
- لا تمت يا صديقي محمود، لأنني بحاجة إليك.
غادر باهر شروده ودخل الفراغ السرمدي، متجولاً بين حافات المدن الساكنة في الذاكرة، تلمس أعضاءه وأدرك أنه السراب بلون أحمر فالذاكرة شريط سينمائي بالأبيض والأسود.
لكنه سيعود حتماً...
- صحافي وكاتب عراقي مقيم في دولة الإمارات العربية المتحدة