«حرب ماري كولفين الخاصة»... الأعباء النفسية لمراسلي الحروب

فيلم يوثق حياة الصحافية البريطانية التي ضحت بحياتها لنقل فظائع النزاع السوري

الصحافية البريطانية الراحلة ماري كولفين والمصور بول كونروي أثناء عملهما في سوريا عام 2012 (أ.ب)
الصحافية البريطانية الراحلة ماري كولفين والمصور بول كونروي أثناء عملهما في سوريا عام 2012 (أ.ب)
TT

«حرب ماري كولفين الخاصة»... الأعباء النفسية لمراسلي الحروب

الصحافية البريطانية الراحلة ماري كولفين والمصور بول كونروي أثناء عملهما في سوريا عام 2012 (أ.ب)
الصحافية البريطانية الراحلة ماري كولفين والمصور بول كونروي أثناء عملهما في سوريا عام 2012 (أ.ب)

«في الوقت الذي دخلت فيه ماري كولفين خلسة إلى سوريا خلال الشتاء الماضي، لإعداد تقارير صحافية عن المذابح الدائرة هناك لأجل صحيفة (صنداي تايمز) اللندنية، كانت مثل الأسطورة في زيها المميز، وسترتها الواقية من الرصاص، وغطاء العين الذي اشتهرت به، فضلاً عن مقالاتها الجريئة والشجاعة في مناصرة وتأييد ضحايا الحرب من الأبرياء. ولقد كانت تلك هي آخر قصصها الصحافية. ولقد كشفت ماري برينر عن الثمن الباهظ الذي دفعته ماري كولفين لقاء عملها الذي لم تتمكن، أو ربما تحتمل، التخلي عنه». هذا ما كتبته الصحافية ماري برينر من مجلة «فانيتي فير» في عدد يوليو (تموز) من عام 2012.
وأضافت: «بالنسبة لكل من عرفوها شخصياً، كانت نبرة صوتها مميزة وواضحة للغاية. ولم تفلح كل السنوات التي أمضتها في لندن في الإتيان على نبرتها الأميركية الرخيمة. تماماً كذكريات الضحكات العالية المجلجلة التي دوماً ما كانت تندفع رغماً عنها عندما يتأزم الموقف ويبدو أن لا مخرج هنالك قط. غير أن أحداً لم يسمع تلك الضحكات في تلك الليلة العصيبة التي تلمست فيها طريقها رفقة كونروي عائدين لتغطية المذبحة التي ارتكبتها قوات النظام على مقربة من الحدود السورية الغربية. لقد استحالت مدينة حمص العتيقة إلى حمام دماء كبير».
وجاء في المقال إنها: «كانت في كامل لياقتها وصلاحيتها الصحافية؛ وقد خلفت وراء ظهرها كل ما خبرته من أزمات واضطرابات في حياتها اللندنية الصاخبة. وكانت حمص، كما خطت كولفين بكلماتها عقب بضع ساعات، رمزاً لثورة مهيضة ومدينة أشباح رهيبة تتردد في صداها قعقعات القصف الجوي القميء وزخات رصاصات القناصة الغادرة التي تلاحق تلك السيارة اليتيمة التي تستقلها في محاولة أخيرة للحاق بقاعة المؤتمرات الباقية التي تضم في قبوها 300 من النساء والأطفال العزل في برد قارس وظلام مخيف. وفي ظلال الشموع الخافتة يولد طفل سوري جديد في غياب تام لأي رعاية طبية ممكنة، ومع القليل مما يندر وجوده من ماء أو غذاء».
تبدو جرأة ماري كولفين في ساحات الحروب حول العالم كما لو كانت نمطاً من أنماط الشجاعة الهادرة، أو لعلها جرعة موجعة من جرعات الحروب المسمومة، كما وصفها أحد المراسلين ممن عرفوها، بيد أن الحقيقة وراء ذلك لا بد أنها أكثر عمقاً وتعقيداً. عبر سنوات، أثارت تنافسات السبق الصحافي الشرسة في حلبة الصحافة الأجنبية في بريطانيا شهية ماري كولفين للمواجهة والمغامرة؛ الأمر الذي بدا متماهياً على نحو غير مسبوق، وهو بكل تأكيد راسخ، في طبيعتها الشخصية الثائرة.
وفي فبراير (شباط) من عام 2012، سافرت ماري كولفين مع المترجم السوري وائل العمر إلى حي باب عمرو بمدينة حمص في مهمة صحافية صدر بها التكليف من صحيفة «صنداي تايمز». ولقد لقيت مصرعها على الفور بجوار المصور الفرنسي ريمي أوشليك جراء سقوط أحد الصواريخ قرابة الباب الأمامي للمركز الإعلامي المؤقت في المدينة مخلفاً شظايا شاع انتشارها في غير موضع من المبنى.
وبعد مرور خمس سنوات كاملة، تحول المقال الأسطوري إلى عمل سينمائي يحمل عنوان «حرب ماري كولفين الخاصة» الذي صدر في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة الشهر الماضي.
لقي الفيلم ترحيباً كبيراً من مختلف الأوساط الصحافية والإعلامية. وكتبت صحيفة «الغارديان» في هذا السياق تقول: «حتى اللحظة التي وافتها فيها منيتها إثر إحدى هجمات الحكومة السورية الغادرة، في مدينة حمص العتيقة المحاصرة، كانت ماري كولفين، ومن دون شك، هي (عميدة مراسلات الحرب) في بريطانيا، رغم أنها ربما لم تكن ليروق لها هذا الوصف أبداً».
وجاءت الأفلام الوثائقية الرائعة التي تسرد سيرة هذه الصحافية المخضرمة الجديرة بالاحترام واحداً تلو الآخر في تسلسل بديع لا يتجاوز أسابيع عدة تفصل أحدهما عن الآخر. وقبل بضعة أشهر فقط، أُنتج أيضاً فيلم فرنسي موجز عن شخصية ماري كولفين يحوم في رقة وعذوبة حول حياتها الشخصية والمهنية.
وبالنسبة للصحافية الراحلة التي اقتربت من العقد السادس من عمرها كانت تحظى باحترام كبير لعملها الصحافي، رغم أن اسمها كان بالكاد مألوفاً في الأوساط الصحافية، فإن هذه الأعمال الفنية تمثل إشادة استثنائية وتكريماً غير عادي لحياتها وعملها وإرثها الصحافي.
بلغت كولفين سن الرشد مهنياً في الوقت الذي كانت الثقة عالية في مقدرة الصحافة على التغيير بأكثر مما هي اليوم، فضلاً عن الازدهار بالأسلوب الشخصي الواضح، وتمكنت السيدة كولفين من التميز في كلا المجالين كما أشار المقال.
ومع ذلك، فقد كلّفها عملها الصحافي ثمناً باهظاً على المستوى الشخصي، حيث كانت تتصارع مع إدمان الكحوليات، وتكافح الاضطرابات النفسية لما بعد الصدمات، كما كانت حياتها الشخصية مثل البركان الثائر، كالنجاح الباهر الذي أحرزته في حياتها المهنية.
ويوازي استكشاف حياة ماري كولفين محاولة استشفاف الإجابات عن أسئلة حاسمة وملحة بشأن الإنسانية والحرب، وآثار العنف الشديدة، وقوة ومحدودية التعاطف. مما يعني التفكير اللازم في دور ومسؤوليات وسائل الإعلام في الوقت الذي تشهد فيه هذه التيمات الكثير من النزاع العميق والجدال المستمر.
تجربة مليئة بالاضطرابات قد تكون مماثلة لتجربة كولفين هي مسيرة الصحافي الحربي البريطاني أنتوني لويد، الذي تحدث عنها بكل صراحة في كتابه: «رسالة حب دموية أخرى» الذي يكشف بين صفحاته الحياة الواقعية التي يعيشها عند تغطيته الحروب التي غطى فظائعها في كوسوفو والعراق، وغيرهما. ويكشف لويد عن أن تغطية الحروب أثرت على نفسيته حتى أصبح مدمناً على المخدرات. وقال: «تغطية الحرب كانت عمله، والهروين كنت أتعاطاه في العطل»؛ ما يفسر استخدامه المخدرات مَخرجاً من فظائع الحرب وآثارها، وعنصراً مثيراً له في أوقات السكينة بعيداً عن الرصاص الحي.
وبالعودة للفيلم، قد يكون «حرب ماري كولفين الخاصة» من نوعية الأفلام التي يسهل التمعن في فحواها؛ نظراً لقيود التوقيت ونوعية العمل الفني ذاته. بيد أن الممثلة البريطانية روزاموند بايك، التي تلعب دور كولفين، تحاول في براعة الانزلاق بين ثنايا شخصية ماري كولفين إلى حد بعيد، في توصيف سينمائي بارع حاز إعجاب الأصدقاء والزملاء السابقين. ومع ذلك؛ فإننا نجد العمل الفني يعالج إلى حد كبير أعمال العنف التي تولت ماري كولفين تغطيتها بنفسها، والصدمات الموجعة التي خلّفتها الحرب الشرسة على شخصيتها وحالتها النفسية، في حين أنه لا يلتقط إلا النذر اليسير من حسها المرح أو يلقي أضواء بسيطة على حياتها الشخصية العادية.
الفيلم من إخراج ماثيو هاينمان، مخرج الأفلام الوثائقية المخضرم، الذي يضمن أن جميع الناجين في الفيلم – من الأرامل السوريات اللاتي يتعرضن للقصف في القبو بمدينة حلب إلى الليبيين الذين فوجئوا بالاندلاع المفاجئ للحرب – قد خاضوا غمار الأحداث التي يُعاد تصويرها فيما يماهي الحقيقة في الفيلم. إذ يمنحهم الوقت الكافي للحديث عن قصصهم الخاصة مباشرة إلى المشاهدين الذين ربما لا تسعفهم الفرصة للوقوف على حقيقتها خارج حدود هوليوود.
في المقابل، سلطت مجلة «تايم» المزيد من الضوء على التحديات النفسية التي يعاني منها مراسلو الحروب، والتي تظهر بوضوح كبير في الفيلم. وفي مقالة بهذا الشأن قالت المجلة: «إن شعر مراسلو الحرب بأنهم في أوطانهم في أي مكان، فذلك المكان هو الفندق الذي لا يجمع من الضيوف سوى المراسلين الحربيين الآخرين». وتحل ذكرى هذه الأيام الجميلة والصداقة الحميمة الصادقة مع الالتقاء على وجبة يتقاسمها جمعٌ من المراسلين مجتمعين في الأماكن التي يحاول الناس العاديون الرحيل عنها.
تتلمس الممثلة بايك أثناء أدائها بطولة الفيلم خطوات ماري كولفين في تلك المنطقة، وذلك الفراغ المزدحم الذي يمكن ملؤه على أدنى تقدير في جزء من الوقت بواسطة المُثُل التي كانت لها أبلغ تأثير على حياتها المهنية: كان العمل ضرورة ملحة نظراً لأنه كان حقيقياً في ذلك العالم الذي يتجاوز حدود النفس المضخمة بالأوجاع والآلام المرهقة.
كان تركيز كولفين الرئيسي مُنصباً على المدنيين المحاصرين داخل الصراع الدموي المريع، وهو الأمر الذي عُني به الفيلم أيما اعتناء. وينتقل الفيلم بالمشاهد من العراق إلى سريلانكا، ثم إلى ليبيا وصولاً إلى سوريا، مع لقطات ارتجاعية للأهوال الفظيعة التي كمنت بين ثنايا ذاكرة وعقلية ماري كولفين.. أي تلك الأشياء التي لا يمكنك بحال مداومة التطلع إليها من هول فظاعتها، وفق مجلة «تايم».



تساؤلات بشأن دور التلفزيون في «استعادة الثقة» بالأخبار

شعار «غوغل» (رويترز)
شعار «غوغل» (رويترز)
TT

تساؤلات بشأن دور التلفزيون في «استعادة الثقة» بالأخبار

شعار «غوغل» (رويترز)
شعار «غوغل» (رويترز)

أثارت نتائج دراسة حديثة تساؤلات عدة بشأن دور التلفزيون في استعادة الثقة بالأخبار، وبينما أكد خبراء وجود تراجع للثقة في الإعلام بشكل عام، فإنهم اختلفوا حول الأسباب.

الدراسة، التي نشرها معهد «نيمان لاب» المتخصص في دراسات الإعلام مطلع الشهر الحالي، أشارت إلى أن «الثقة في الأخبار انخفضت بشكل أكبر في البلدان التي انخفضت فيها متابعة الأخبار التلفزيونية، وكذلك في البلدان التي يتجه فيها مزيد من الناس إلى وسائل التواصل الاجتماعي للحصول على الأخبار».

لم تتمكَّن الدراسة، التي حلَّلت بيانات في 46 دولة، من تحديد السبب الرئيس في «تراجع الثقة»... وهل كان العزوف عن التلفزيون تحديداً أم الاتجاه إلى منصات التواصل الاجتماعي؟ إلا أنها ذكرت أن «الرابط بين استخدام وسائل الإعلام والثقة واضح، لكن من الصعب استخدام البيانات لتحديد التغييرات التي تحدث أولاً، وهل يؤدي انخفاض الثقة إلى دفع الناس إلى تغيير طريقة استخدامهم لوسائل الإعلام، أم أن تغيير عادات استخدام ومتابعة وسائل الإعلام يؤدي إلى انخفاض الثقة».

ومن ثم، رجّحت الدراسة أن يكون سبب تراجع الثقة «مزيجاً من الاثنين معاً: العزوف عن التلفزيون، والاعتماد على منصات التواصل الاجتماعي».

مهران كيالي، الخبير في إدارة وتحليل بيانات «السوشيال ميديا» في دولة الإمارات العربية المتحدة، يتفق جزئياً مع نتائج الدراسة، إذ أوضح لـ«الشرق الأوسط» أن «التلفزيون أصبح في ذيل مصادر الأخبار؛ بسبب طول عملية إنتاج الأخبار وتدقيقها، مقارنة بسرعة مواقع التواصل الاجتماعي وقدرتها على الوصول إلى شرائح متعددة من المتابعين».

وأضاف أن «عدد المحطات التلفزيونية، مهما ازداد، لا يستطيع منافسة الأعداد الهائلة التي تقوم بصناعة ونشر الأخبار في الفضاء الرقمي، وعلى مواقع التواصل الاجتماعي». إلا أنه شدَّد في الوقت نفسه على أن «الصدقية هي العامل الأساسي الذي يبقي القنوات التلفزيونية على قيد الحياة».

كيالي أعرب عن اعتقاده بأن السبب الرئيس في تراجع الثقة يرجع إلى «زيادة الاعتماد على السوشيال ميديا بشكل أكبر من تراجع متابعة التلفزيون». وقال إن ذلك يرجع لأسباب عدة من بينها «غياب الموثوقية والصدقية عن غالبية الناشرين على السوشيال ميديا الذين يسعون إلى زيادة المتابعين والتفاعل من دون التركيز على التدقيق». وأردف: «كثير من المحطات التلفزيونية أصبحت تأتي بأخبارها عن طريق مواقع التواصل الاجتماعي، فتقع بدورها في فخ الصدقية والموثوقية، ناهيك عن صعوبة الوصول إلى التلفزيون وإيجاد الوقت لمشاهدته في الوقت الحالي مقارنة بمواقع التواصل التي باتت في متناول كل إنسان».

وحمَّل كيالي، الهيئات التنظيمية للإعلام مسؤولية استعادة الثقة، قائلاً إن «دور الهيئات هو متابعة ورصد كل الجهات الإعلامية وتنظيمها ضمن قوانين وأطر محددة... وثمة ضرورة لأن تُغيِّر وسائل الإعلام من طريقة عملها وخططها بما يتناسب مع الواقع الحالي».

بالتوازي، أشارت دراسات عدة إلى تراجع الثقة بالإعلام، وقال معهد «رويترز لدراسات الصحافة»، التابع لجامعة أكسفورد البريطانية في أحد تقاريره، إن «معدلات الثقة في الأخبار تراجعت خلال العقود الأخيرة في أجزاء متعددة من العالم». وعلّق خالد البرماوي، الصحافي المصري المتخصص في شؤون الإعلام الرقمي، من جهته بأن نتائج الدراسة «غير مفاجئة»، لكنه في الوقت نفسه أشار إلى السؤال «الشائك»، وهو: هل كان عزوف الجمهور عن التلفزيون، السبب في تراجع الصدقية، أم أن تراجع صدقية الإعلام التلفزيوني دفع الجمهور إلى منصات التواصل الاجتماعي؟

البرماوي رأى في لقاء مع «الشرق الأوسط» أن «تخلّي التلفزيون عن كثير من المعايير المهنية ومعاناته من أزمات اقتصادية، دفعا الجمهور للابتعاد عنه؛ بحثاً عن مصادر بديلة، ووجد الجمهور ضالته في منصات التواصل الاجتماعي». وتابع أن «تراجع الثقة في الإعلام أصبح إشكاليةً واضحةً منذ مدة، وإحدى الأزمات التي تواجه الإعلام... لا سيما مع انتشار الأخبار الزائفة والمضلّلة على منصات التواصل الاجتماعي».